| الاخيــرة
* تعرفت على الطفل ميجيل عام 1987م، عندما قرأت تقريراً عن أطفال الشوارع، أعدّه منتدى الفكر العربي.
* كان ميجيل في السابعة من عُمره, وكان طفلاً من أطفال الشوارع الذين تكتظ بهم، مُدن أمريكا اللاتينية، ويشكلون فيها ظاهرة مميزة.
* لفظت مدن الصفيح، ميجيل الى الشارع، لأن الشارع كان هو الحل الوحيد, كان والده، يعود مرهقاً مخموراً، فينهال عليه ضرباً، وركلاً.
وكانت زوجة أبيه، مثقلة بأطفال من زواج سابق، وبأثقال أطفال زوجها الحالي.
وكان الفقر والزحام يطبق بأحماله على أنفاس الجميع.
* تسلّل ميجيل ذات يوم من بيت الصفيح، الى محطة الأوتوبيس، واختفى في زحام مدينة ريو دي جانيرو مع عشرات الآلاف من أطفالها البؤساء، وبدأت بذلك قصة طفل آخر من أطفال الشوارع.
* وأطفال الشوارع هم الاطفال الذين يعيشون، وينامون، ويموتون في الشوارع، الشارع هو البيت والمدرسة، ومجال الرزق، وهو الأهل والعشيرة، وهو الأب الذي افتقدوا رعايته، والأم التي افتقدوا حنانها.
* كان ميجيل يستمتع بأماكن مختلفة للنوم فيها، أمام مدخل بناية، أو تحت احد الجسور أو خلف صناديق الزبالة في محطة القطار، يعتمد المكان الذي يختاره للنوم على مشاوير النهار، وأحداثه، ورفاقه، والبوليس، والشارع.
* والشارع قد يكون بالنسبة لنا إسفلتاً وأرصفة ومتاجر وسيارات وضجيجاً وفراغاً نفتح إليه أبوابنا عندما نخرج ونغلقها عليه، عندما نعود.
وقد يكون الشارع بالنسبة إلينا، فضاءً نفتح عليه نوافذنا ونقذف إليه بقاذوراتنا وشتائمنا ولعناتنا ونُحكم عليه الأقفال والسلاسل، عندما نريد أن ننساه ونتجاهله، ونحتمي منه مع زوجاتنا وأطفالنا في دفء الحجرات وحنانها.
* لكن الشارع، بالنسبة لطفل الشارع هو قدره، وزمانه ورفيقه وأعياده، ومأتمه، وسؤاله الحائر الحزين.
* أطفال الشوارع هم البثور والندوب على وجوه المدن الحديثة القاسية، ذات القلوب المتحجرة، والأمزجة الصعبة، والموازين الظالمة، والذاكرة الكئيبة البلهاء، هم حاضرها البذيء، ومستقبلُها المظلم الملعون.
* وفي بعض المدن الكبرى، يعيش أطفال الشوارع، كالقطط الضالة والفئران الطاعونية، والكلاب المسعورة, وتعاملهم، تلك المدن كما لو كانوا فعلا كذلك.
ينظر سادة المدن وكبراؤها إليهم، كأوساخ على جدرانها الناصعة، أو ضجيج في لياليها الهادئة، أو كإزعاج يكدر مزاجها الفخم الوثير.
* ولذلك نسمع، عن فرق مدنية يشكلها المواطنون الحريصون على حضارة المدينة، وتجوب هذه الفرق شوارع المدن، وأرصفتها وحاراتها الضيقة لاصطياد هؤلاء الأطفال وقنصهم, وإذا كنا نسمع عن رحلات اصطياد الثعالب في غابات أوروبا الارستقراطية فإننا نسمع اليوم عن طَلَعات اصطياد الاطفال الصغار في مدن العالم الثالث المكتظة, وهم فعلاً يصطادونهم صيداً، ببنادق صيد، وبالفؤوس والسكاكين.
وعندما يتعبون من رحلات صيد الأطفال ينشط أوباش المدن في امتهان طفولتهم واغتيال براءتهم فيسخرونهم في الأعمال الشاقة وينتهكونهم بالجنس السادي الشاذ، ويغرقونهم بالمخدرات والخمور، استهلاكاً وتجارة.
* وتكرس بيروقراطية المدن القاسية قلوبها، جهودها للمساهمة في برنامج الانتهاك الطفولي فتجعل من سجون الأحداث ودور الإيواء المكتظة، مراكز للتدريب على القهر والجريمة ويفرغ رجال البوليس المحيطون جهودهم على التنكيل بالاطفال والاضطهاد.
* لا ملجأ لأطفال الشوارع ولا معين, لفظهم الفقر والخمر والمرض والتفكك الأسري وانعدام العدالة الاقتصادية والاجتماعية وغياب الرحمة من القلوب، وانحطاط الأخلاق، واستوعبهم قيظ الشارع وزمهريره وحجارة أرصفته وزواياه القذرة وأكوام زبالته المتعفنة.
* ولذلك نشأ هؤلاء الأطفال في احضان الشوارع، يتعلمون أخلاقها، ويكفرون بالمجتمع الذي تخلى عنهم ويرفضون عدالته الظالمة، ومنطقه اللئيم، ومؤسساته الجائرة فيكونون بذلك بذوراً لحصاد رهيب يدفع الجميع ثمنه مؤجلاً وبعمولات مركبة، متراكمة.
* يقول رابندرانات طاغور : إن أماني الحياة تجيء في هيئة أطفال, ويقول تشارلز دكينز في روايته التوقعات الكبيرة : لا شيء كالظلم يتيقنه ويحس به الأطفال، بنعومة، في عوالمهم الصغيرة, وما أسوأ أماني الحياة عندما تولد في براميل القمامة المنتنة، وليس أسوأ من الظلم وأقساه، وأوخم عواقبه، عندما يُولد ، ويترعرع، وينضج في عوالم الأطفال الصغار، ثم ينفجر جحيماً عندما يكبرون وتخضرُّ شواربهم.
* لا أعلم ماذا حدث لميجيل ولا أين ذهب, فكل مكان في تلك المدينة عدم، بغيض، لا يختلف الذهاب إليه عن المجيء منه.
|
|
|
|
|