أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 9th December,2000العدد:10299الطبعةالاولـيالسبت 13 ,رمضان 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
كل الجبن بالجبن 1
د, محمد العيد الخطراوي
واضح أن كلمة الجبن هنا وردت بمعنيين مختلفين، أي أن الكلمتين تشابهتا لفظاً واختلفتا معنىً، وهو ما يسميه علماء البلاغة بالجناس، وهو هنا تامُّ, الجُبن الأولى: ما جُمِّد من اللبن وصُنع وفق طريقة معينة، والجبن الثانية: تهيُّب الإقدام على ما لا ينبغي أن يُخاف منه , والجبان بالتخفيف المتصف بالجبن، وبالتشديد: صانع الجبن المأكول, والمجبَنة: ما يحمل على الجبن، ومنه قولهم:الأولاد مَجبنة ومَبخلة أي أنهم من دواعي البخل والجبن، وفي باب المفعول لأجله من كتب النحو يصادفنا البيت التالي شاهدا على اقتران المفعول لأجله بأل:


لا أقعدُ الجبنَ عن الهيجاء
ولا توالت زُمر الأعداء

فهو ليس من الذين يقعدهم الجبن عن خوض الحروب مهما تكاثر الأعداء، بل هو شجاع غير هيّاب, والجبان دائم الخوف فاقد للأمن والطمأنينة والراحة النفسية، يقول أبو العلاء المعرّي متحدثا عن أرقه في ليلته الشديدة الظلمة الملتمعة النجوم، وهروب النوم من عيونه:


ليلتي هذه عروسٌ من الزنج
عليها قلائدٌ من جُمان
هربَ النوم عن عيوني فيها
هَرَبَ الأمن عن فؤاد الجبان

أما المقولة التي عنونّا المقال بها فإنها تذكرنا بالمقالة العاميّة:إذا اردت أن تعيش فعليك بالتطنيش ، ويحلو للناس أن يرددوا عبارتنا الفصيحة، وعبارتهم العاميّة التي ذكرنا، ليقنعوا أنفسهم بأنهم مصدر الحلول الناجزة، والآراء الصائبة، والأفكار الثاقبة، التي لا يحول بينهم وبين إبدائها والافادة منها غير خوفهم من وقوعهم في أناشيط العقوبة والمؤاخذة، وإلا الرغبة في العيش الهانىء الرغيد، وليوهموا الآخرين بأنهم عباقرة وأصحاب أفكار لا تبارى محكوم عليها بالضياع، مختنقة في أفواههم، مكتّمة في صدورهم، وهم في ذلك مخطئون أيّما خطأ، لأن الفرق شاسع بين التهور والشجاعة، وبين الجبن والرويّة في إبداء الرأي واتخاذ القرار، والفارق بين كثير من الصفات شعرة دقيقة جداً، كما هو الحال مثلاً بين التواضع والضعة، وبين الكِبر والاعتداد بالنفس، وبين النفاق والمجاملة، وهكذا,, ولو قالوا: كُل الجبن بالرويّة وحسن التصريف للأمور لقبلناها، ولاتّفقت مع مسار شاعرنا المتنبي حين يقول:


ووضع النَّدى في موضع السيف في العُلا
مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى

فقول كلمة الحق، والمجاهرة بمحاربة الظلم وأهله من أساس ديننا الإسلامي، ومن أكبر مظاهر الشجاعة والبطولة، ولكن ليس المهم أن تقول، ولكن المهم أن تعرف كيف تقول؟
وقد كره العرب الجبن والجبناء، وأورد الميداني في مجمع الأمثال في باب الجيم، مجموعة من الأمثال التي تدور حول كراهية الاتصاف بهذه الصفة النكراء، فمن ذلك قولهم: جلبت جَلبةً ثم أقلعت ، أي صاحت صيحةً ثم أمسكت، أخذاً من قولهم: جلَب الرجلُ على فرسه، إذا صاح به,, ويضرب هذا المثل للجبان يتوعّد ثم يسكت, وهذا يذكرنا بقول الشاعر متّهماً الفرزدق بالجبن:


زعم الفرزدق أن سيقتل مربَعاً
أبشر بطول سلامةٍ يا مربَعُ!

وقالوا:فلان جبان ما يلوي على الصفير ، أي ما يعرّج على من يَصفِر به، وذلك لشدة جبنه, وقالوا أيضاً: أجبن من صِفرِد ، قال الشاعر:


تراه كالليث لدى أمنهِ
وفي الوغى أجبن من صَِفرِدٍ

والصفرد: طائر صغير جداً يعدّ في خشاش الطير، والمعنى الذي جاء في هذا البيت يتطابق مع ما جاء في بيت لشاعر آخر حين يقول:


أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ
فَتخاءُ تنفر من صفير الصافر

والفتخاء: اللينة الجناحين من العقبان والنعام.
وقالوا: أجبن من كَرَوان، والكروان: طائر طويل الرجلين، أغبر، في حجم الحمامة، له صوت حسن، يُجمع على كِروان، وكَراوين، وهو كثير الخيلاء بصوته، رغم ضآلة جسمه، وجبنه وعدم تأهله للشجار، وإليه ولمن تلبّس بصفاته توجه الشاعر حين قال:


أَطرِق كَرَا
إن النَّعام في القُرى

الكرى: هنا هو الكروان، وقع منادى يا كروانُ,! ولكنه جاء مرخّما، أي محذوف الآخر: الألف والنون ، ثم قلبت واوه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت كرا، بعد أن حذفت منها أداة النداء أيضاً، ويؤتى بالبيت لإعلام الصغار باستيعاب الكبار، ليكفوا عن غلوائهم وخيلائهم الكاذبة، ومن معلوماتنا عن هذا الطائر أنه من الطيور التي كانت معروفة بالجزيرة العربية، كما عرفت بمصر وغيرها، ولعلّنا نذكر جميعا قصة الدكتور طه حسين الطويلة الموسومة بدعاء الكروان , ومما عبّر به الشعراء عن جبن هذا الطائر قول الشاعر يهجو رجلاً من آل موسى:


من آل موسى ترى القوم حوله
كأنهمُ الكَرَوانُ أبصرن بازياً

وكما عبروا بالكروان عن جبن الجبان، عبّروا بفرخه أي صغيره ، ويسمى لَيل ، فقالوا: فلان أجبن من لَيل ، ولا غرابة أن يشبه الولد أباه، ويطلق الليل على فرخ الحُبارى أيضاً، كما يطلق النّهار على فرخ القطا، قال الفرزدق:


والشيبُ ينهض في الشباب كأنه
ليلٌ يصيح بجانبيه نهار

وقيل: النهار فرخ الحبارى، وهي معروفة بالجبن أيضاً، قال الشاعر:


أكلتُ النهارَ بنصف النهار
وليلا أكلتُ بليلٍ بهيمٌ

وقالوا:أجبن من نهار ، أي أجبن من فرخ الحبارى، هذا وما يزال في الجبن متسع للحديث نرجئه لمقالة أخرى، فلمساحة الأعمدة الصِّحافية سلطان، ولأقلام المحررين حكم نتلاءم معه ونداريه ونحسن التصرف معه، ولا نهابُه أو نجبن منه، لأننا من أنصار الشجاعة الهادفة.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved