| الثقافية
ما شاع عن عواء ذاكرة *، للروائية الفلسطينية رجاء بكرية المقيمة في فلسطين المحتلة عام 1948، في بعض ما قيل عنها، أنها رواية!! إنما من يقرأ هذا الكتاب لابد أن يتساءل عن مدى امكانية تجنيسه بوصفه رواية، أو قصة، أو كتابة سردية، أو رواية شاعرية، أو سيرة روائية، أو سيرة ذاتية، أو تداعيات ذاكرة,, إلخ، من جهة, وعن مدى امكانية تجنيسه بوصفه شعراً منثوراً، أو نثراً مشعوراً، أو كتابة شاعرية، أو لغة انفعالية غامضة، أو تداعيات أسطورية خرافية كسجع الكهان,, الخ، من جهة ثانية, وعن مدى امكانية تجنيسه بوصفه نصاً جديداً، أو لغة متجددة، أو نصاً تجريبا، أو نصاً جامعاً لأجناس,, إلخ، من جهة ثالثة.
وعن مدى امكانية نفيه من الدوائر الثلاث السابقة، وعده عبئاً على الكتابة الأدبية، بوصفه لوحة سريالية مشوهة أو معقدة، أو تشكيلاً لغوياً فضفاض المساحة، مجاني الرؤية، كثير الأخطاء اللغوية والجمالية!! من جهة رابعة.
لا شك في امكانية أن تكون رجاء بكرية تشكيلية مبدعة، أو أن تكون شاعرة مبدعة، لكنني أشك إلى درجة كبيرة بامكانية أن تكون روائية أو ساردة، إذ إن هذه الصفة، في أية حال، بما اتفق على جماليات تخصها، أو جماليات تكسرها في سياق النص الجديد أو الرواية الجديدة، لا تخص كتاب عواء الذاكرة البالغ مئة وخمساً وسبعين صفحة من القطع الوسط، قسمتها الكاتبة بغير تساوٍ على ستة فصول، هادفة من وراء هذا التقسيم إشعارنا بأنها تكتب رواية، تأكيداً لما وصفت به عملها بأنه رواية، على الصفحة الأولى من كتابها!!
ليس من حق هذه المقاربة ان تصادر مشروعية هذا الاصطلاح الذي اختارته الكاتبة لنصها، أو أن تصادر الشعور بروائية أية رواية توصف بهذا الوصف، لأن مفهوم الرواية نفسه غدا مفهوماً متغيراً كثيراً في موجة الكتابة الجدية عموماً والرواية الجديدة على وجه الخصوص، أو ما يسمى الرواية المضادة للرواية,, كما لا يحق للكاتب على طريقة يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره ان يفرض مصطلحه الذي اختاره احياناً بعفوية ليصف خطاباً لغوياً يخصه، وربما لا يستحق هذا المصطلح، أو لا يستجيب للعمل الموسوم به، ولا ينسجم معه في عرف التلقي الواعي أو حتى التلقي العادي من وجهة نظري!!
***
كأن الكاتبة رجاء بكرية أحست ضمنياً بمشاعر الناقدة أو القارئة أو الفاعلة، فسمت كتابتها هذه عواء ذاكرة ، وال عواء كما نعرف، لا يتجاوز كونه صياغات موسيقية متكررة موحية بالتعدد والتنوع، غير مفهومة، تدمج بين شاعرية الصوت، وغموض المعنى والدلالة، وقد يتفاعل فيه شكل/ جنس كلامي ما، ويتشابه معه، فيغدو بذلك هذا العواء جنساً أدبياً يمكن وصفه بالثرثرة، أو بالتداعيات، أو باللف والدوران، أو بمرض اسهال الذاكرة، أو بلغة التهريج والتحريج أو بالهذيان,, ولا تخص هذه الصفات كتابة رجاء بكرية وحدها، بل نجد الكثير منا يمارس هذه الكتابة في زمن انفتاح الكتابة وتمردها على نقاء الأنواع الأرسطية، متحولين بذلك إلى ما سماه ادوار الخراط الكتابة عبر النوعية ، وهي الكتابة ذات الحساسية الجديدة العالية الوتيرة في الشعرية، مع ضرورة أن يمسك الكاتب بعنان نصه ويحوله إلى لغة تواصلية، لا أن ينهار هذا الكاتب مع لغته، فيتحول هو نفسه غريباً عن هذه اللغة التي ليس لها سوى الامتداد الشعري الطويل على متن صفحات كثيرة، لا تغني ولا تسمن من جوع، وبالتالي قد تستحق هذه الكتابة ان تكون بجدارة عواء ذاكرة لأنها في حقيقتها السلبية لا تتجاوز هذه التسمية، بل إن هذا العنوان هو الوحيد العاري من الزيف في هذه الرواية عواء الذاكرة عندما يتعلق الأمر بتصنيف هذا العواء على أنه رواية,.
وبذلك من الغريب ان تدعى رجاء بكرية إلى المشاركة في مؤتمر نقدي عربي مهم، لتتحدث عن تجربتها الروائية، وهي لم تكتب إلا هذه الرواية غير الرواية، ولم تتجاوز اللغة في كتابتها، كما أسلفنا، الهذيان والعواء، فأين الروائية؟! وأين التجربة الروائية؟!
على أية حال يجب ألا تخدعنا التسميات بما تفضي إليه من تصوف أو خيال لا علاقة له بالواقع أو بالملموس ابداعيا، دون نفي وجود جمالية خاصة يصبغها القارئ أو المتلقي على أي نص، والذي قد يكتسب جمالياته من مزاجيات القراء، أو من ثقافة نفسية واعية تجعل أي نص لا يخلو من جماليات مهمة، لأنه لو خلا من هذه الجماليات لما طبع بتاتاً وصار نصاً.
وحتى لو تعاطفنا مع هذا النص / عواء الذاكرة ، فإنه يجدر بنا ألا نجعل من الحبة قبة، فنظهر أنفسنا نقاداً فوق العادة، على اعتبار ان اسطورة الناقد الجيد هي أن يكون الناقد المتميز، هو الأكثر فهما للنصوص غير المفهومة، أو هو الأكثر تعميقاً وتعقيداً للنصوص الواضحة والمباشرة، وجعلها مخزناً للدلالات والرؤى.
نحن بحاجة كي نخوض أعوام الألفية الثالثة إلى ان نعيد النظر بما شاع من عنجهية ثقافية ابداعية أو نقدية في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة في فضاء التداخلات بين: الحداثة، والبنيوية وما بعدها، والتجريب، والكتابة الجديدة أو المضادة,, الخ، خاصة بعد ان غدا الكثير من النقاد يتبرأون من هذه المرحلة!!
***
انهيت قراءة عواء الذاكرة فيما يقارب ستة شهور، وهذا الوقت الطويل ليس ناتجاً، في ظني، عن عجز في قراءتي أو ضيق في وقتي، بقدر ما أنني لم أستطع القراءة لأكثر من صفحة أو صفحتين في اليوم، وربما أقل، وربما أعدت ما قرأته مرات، وربما عزفت عن القراءة لعدم الرضا عن العمل,, علماً بأنني قد أقرأ ثلاث روايات لكنفاني في ليلة واحدة.
ومع ذلك لا أنكر انني تفاعلت أحياناً مع شاعرية اللغة، ومع التشكيل الفني المتداخل مع لغتها، ومع النصوص التي اختارتها الكاتبة لتزين بها مداخل روايتها ، ومع احساس الكاتبة وحرارتها في السعي إلى أن تكون روائية، ومع أنثوية الثرثرة التي أكدتها رجاء بكرية بتفوق.
لعل الكاتبة العربية الجديدة تسعى قدر الامكان إلى أن تتفوق على الرجل في الكتابة السردية، وذلك بمحاولة محاربة التقوقع داخل دائرة الثرثرة ودهاليزها الجوانية، كما فعلت ذلك سحر خليفة في رواياتها كلها، فكتبت بذلك روايات تستحق جائزة التعاضد بين الذاتي والموضوعي بجدارة، وهو ما لم تفعله رجاء بكرية في روايتها الأولى، فجاءت كتابتها مخنوقة في عنق زجاجة الأنا إلى حد فقد السيطرة على الكتابة ككل بسبب التداعي وانهيار الذات في دوامة اللغة وكابوسيتها.
يبدو أنها لو لم تتوقف في وقت محدد، لكان بإمكانها ان تكتب مئة فصل أيضاً على غرار الفصول الستة المتساوية في درجة الهذيان,, ودرجة الهذيان هذه هي خلاصة التعبير الجمالي عن كتابتها، وكل كاتب بإمكانه ان يهذي ويثرثر ليشكل من أي يوم من أيام حياته رواية، وفي حال التوصل إلى حاسوب قادر على تسجيل تداعيات الذاكرة، فأنا شخصياً سأزودكم في اليوم الواحد بأكثر من رواية، ان اتفقنا على أن يكون الهذيان أو الثرثرة رواية، ولا أظننا سنتفق على هذا المعيار!!
***
سنحاول التمثيل على حركية الثرثرة من خلال بعض الفقرات، ففي فقرة البداية، تكتب رجاء بكرية:
أعدو,, أعدو,, أعدو، وينبح قلبي، أنفاسي تسبق خطاي,, تتدحرج أمامي بإنهاك كرات ذات بريق شفاف، وتعدو خلف أسراب المواء الحزين لقطة طحنت عجلات سيارة أنيقة مسرعة نصفها الخلفي، وظل نصفها الأمامي صرخات استغاثة، ترتعش في وهج الظهيرة الحارقة لذلك اليوم الخاص من شتاء حيفا المضطرب, نداء محروق لنصف شطره الحنين، ينادي سراب نصف لا يميز من حقيقة كونه سوى خيط الألم الثقيل الذي يجرجره بمشقة خلفه، ويلتوي في التواءات الشارع الإسفلتي الخشن، يموء بذل، يستصرخ نصفه الميت يناقش مواءه موته,, يحتج بصمت يذبح ويبكي دماء , ص9
فهذا الموقف الشاعري الدرامي التراجيدي قادر على أن يولد حالة من التصاعد السردي، لكن حالة القطة الثابتة، تتحول إلى حالة ثابتة في حياة البطلة الرواية نفسها التي تعيش ظروفاً مشابهة للقطة، وذلك بعجز رجلها، بشلها أو بقطعها إثر مواجهة مع العدو في عملية عسكرية أو في انتفاضة، فتستمر اللغة ضمن تطور درامي محدود للغاية، وغير ملحوظ، تدور بوصفها هذياناً إثر حالة العجز هذه في دائرة التشابه، مع ورود اشارات غامضة إلى علاقات ثورية في المخيم في مواجهة العدو الصهيوني وربما من هذه الناحية قد نبرر للكاتبة غموضها الذي يعني التمويه على مقص الرقيب، لكونها تعيش ظروف الاحتلال، لكنها على ما يبدو تجاوزت الحد المطلوب في درجة الغموض, ربما كان عليها أن تستفيد من تجارب اميل حبيبي، وسلمان ناطور، وسميح القاسم وغيرهم، حيث استطاعوا ان يستخدموا شفافية الرموز، ويعبروا عن مقاومتهم الفاعلة لظروف الاحتلال، في لغة حافظت على تفاعلها مع المتلقين، واصرارها على العلاقة الحميمية بهم، إذ ظروف الصراع العربي الإسرائيلي توجب على الكاتب الفلسطيني ألا يكتب لغة مجانية، تتجاوز هذا الصراع، وتهمشه، وخاصة عند كتاب الأرض المحتلة، بوصفهم يعانون يومياً من سلبية ظروف الاحتلال وقمعه.
وبالتالي يصعب علينا أن نفرق بين فقرة وأخرى في مستوى درجة الكتابة وتعلقها بايقاع الثرثرة / الهذيان، إذ يستمر هذا الايقاع على مستوى السياق نفسه حتى نهاية الرواية,, نجد هذا واضحاً في فقرة النهاية:
أردد بذهول,, لست أدري، لست أدري، الغجرية صدئت مفاتيح مرفئها، وانتهت إلى عبث، رغوة الزبد البحري تتموج في نكهة مرفأ يتعرف حناياه بانقطاعه إليه,, ينشر شراعه تحت قوس المدى المثقوب بألف عين تتجسس ريش نسر يقتنص بآخرة الآتي بتصميم من عزم على تلاش يرحل,, يرحل، ويلاقي رحيله بين أكتاف غربة تعرفه بنمنمات الوجع البكر على خارطة قنصه, ص175
لو أخذنا أية فقرة على مستوى لغتها الخاصة لوجدنا، كما أسلفنا، أن الإيقاع الهذياني نفسه يتكرر، دون انزياح إلى السردية المغيبة في غالب الأحيان، ومع ذلك نسجل للغة انها توحي بشاعرية، وبصورة تشكيلية مركبة، وبايقاع ضبابي غرائبي، وبمحاولة كسر للمألوف وللوضوح لصالح الغموض العجائبي، وبمحاولة السعي الحثيث إلى توليد الجمل الشعرية غير المترابطة فيما بينها، فتظهر لنا أية فقرة على أنها نصاً سلطوياً قامعا، بمعنى انه نص يمتلك ادواته القمعية التي تجبر المتلقي على أن يقر بجماليته الشعرية رغم غياب الجمالية السردية، لأنه فعلاً يمتلك جمالية الهيبة والإثارة والقدرة على التلويح بامكانات سطوة اللفظة المتوترة في النفس أصلاً، عدا عن توترها الأكثر فاعلية في الابداع، هذا ما نحسه في جل الألفاظ في الفقرات، ومنها في الفقرة السابقة: ذهول، الغجرية، عبث، الزبد، قوس المدى، تجسس، غربة ، الوجع البكر,, الخ.
لا أظنكم تريدون المزيد من الفقرات للتدليل على ما أذهب إليه، فالمسألة هنا تحتاج إلى مزيد من الشرح، لكن قطع الشك باليقين يفرض ان نقتبس فقرة من الوسط، لنطبخ القدر على ثلاثة حجارة أثاف .
ينبهني الصمت المفاجئ، أحاول بقلق تلقف نباح العواء المتلاشي، وحين يتأخر أجرب تصديق حقيقة تلاشيه، وأخاف عاقبة توقعاتي، انتظر كمن يتهيأ ساعة تجدده، خمس دقائق,, عشر دقائق كافية لأن يعود ولا يعود, أتحسس ساقي كأنما اهنئها على سلامتها، وأهمس لعل العواء هدير طائرة، لعل طريقي مغمورة، لعله جيب آخر هاجمه رامو جديد وقتله,, , ص82
قد نعجب بتداعيات هذا الكلام، وهذيانه الشعري، لكنه من الصعب ان نقتنع بسرديته، أو بعلاقته تحديداً بالرواية التي همشت عناصرها الرئيسية كلها تهميشاً، فالشخصيات أشباح وعلامات بلا حياة، واللغة السردية لا وجود لها، والزمكانية كوابيس، وتنامي الحدث أو الفكرة غير موجود، وتعددية الأساليب السردية غائبة لصالح هيمنة تيار الوعي/ الهذيان المونولوج الداخلي ,, وكأن ما بقي للكتابة، التي ادعت بانها سردية، من ميزات لا يتجاوز جماليات اللغة الشعرية بما تفضي إليه هذه الجمالية من تجريد، ودلالات جزئية مكثفة، تستلزم قراءة شعرية، لا قراءة سردية!!
فالمكان وتجريده,, والزمن المبهم,, والحدث أو الفكرة الواضحة المغيبة,, وتعددية الأصوات المغيبة,, وتعددية الرؤي المغيبة,, وتعددية التعبير المغيبة,, وتنوع اشكال السرد المغيبة,, وتعددية التناص من الأجناس الأدبية او مع أشكال الواقع المغيبة,, كل هذه مغيبة، وبالتالي لا رواية!! لم يبق إلا هيمنة اللغة الشعرية!! فهل بامكاننا أن نصف هذا الكتاب بانه رواية بهذه اللغة، أو بطول العمل؟! ربما على سبيل المجاز!! أو على سبيل الادعاء بان الكتاب رواية جديدة!! أو من جهة طول مادة الكتاب الذي قد يغري بمسلكية التعامل مع هذه اللغة على أنها رواية!!
وهل فعلاً يخلو الكتاب من نفس الرواية؟ أم ان فيه تشبحاً سردياً؟ فما مدى هذا التشبح الذي ربما يقنعنا ان اعدنا القراءة مرة أخرى بوجود رواية؟!
***
رجاء بكرية: عواء ذاكرة، مطبعة النهضة، الناصرة، 1995.
|
|
|
|
|