| الثقافية
سيظل تكريم العلماء والمفكرين والأدباء والمبدعين عموماً: سمة من سمات الوعي، وعلامة تشير إلى الكثير من النضج والاكتمال، فالأمة التي تكرم علماءها ومفكريها، هي أمة ماضية في دروب التحضر والتمدن، صاعدة في سلم المجد ومعارج العزة، هكذا كانت أمتنا الإسلامية في عصور ازدهارها وعطائها على مر التاريخ، يَلقَى فيها العلماء والمفكرون وأولو النُّهى كل التكريم من العامة والخاصة، وكانت بيوت الحكام والخلفاء والأمراء مجالس مفتوحة امام المعتَفِين من طلاب العلم والعرفة، يحضرها كبار الشعراء وعلماء اللغة ، وأئمة العلوم الشرعية، ويجري بين أبهائها جمهرة من المناظرات والمداولات العلمية، وأمثلة ذلك كثيرة في العصر الأموي والعباسي وفي الأندلس وغيرها من حواضر الإسلام، وقد قامت دولة آل سعود وبخاصة دوحة عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمهما الله، على هذا الأساس المرتكز على الجمع بين قوة الرأس، وقوة البأس، حيث أفسح جلالته صدر مجلسه للعلماء، يستشيرهم فيما يحتاج إلى مشورة، ويستعين بعلمهم وآرائهم في مواجهة قضايا الحياة وشؤون الدولة، ويغدق عليهم من حبه وماله وفضله، ليتفرغوا لشؤون العلم تأصيلا وتحصيلا، ونشرا وتفصيلا، ولم تلهه رحمه الله مشاغل الدولة عن تكريمهم والسعي إليهم إذا لزم الأمر، في منازلهم، وأضاف إلى ذلك اهتمامه بتوفير الكتاب وطباعته وتوزيعه مجانا على طلبة العلم في مختلف مدن المملكة، بل وصل الكتاب السعوي العزيزيُّ إلى كثير من المناطق الإسلامية في خارجها، ونشأ عن ذلك التكريم والتبجيل للعلماء من لدن جلالته، أن أخصبت البلاد ضروبا من الإبداع الفكري والعلمي والأدبي، وما نحن في حقيقة أمرنا إلا نتاجٌ لتلك الجهود الاولى التي بذلها جلالة الملك عبدالعزيز،ورعاها من بعده أبناؤه الغر الميامين، وساروا بها أشواطاً، حققوا من خلالها أنماطاً من المعارف والعلوم والفنون، وأنشأوا أنواعا من الجوائز التكريمية والتحفيزية التشجيعية، وتسابقوا في ذلك، ويأتي الاحتفاء يجهود أديبنا الراحل الشيخ حمد الجاسر اليوم (مساء يوم الثلاثاء 9 رمضان 1421ه الموافق 5 ديسمبر 2000م)، ليؤكد حب ابناء العاهل العظيم عبدالعزيز بن عبدالرحمن، للعلم والعلماء، وانهم يسيرون على خطى الوالد الباني، فهذا الحفل الرامي إلى التكريم والتقدير بإنشاء مؤسسة حمد الجاسر الخيرية، وإقامة مؤسسة ثقافية تحمل اسمه أيضا هي مركز حمد الجاسر للثقافة، تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض، وبتوجيهات من سموه لهو امتداد لما بدأ به الوالد الباني، ولهو استمرار لما عرفه الجميع من سمو الأمير سلمان من حب للعلم وأهله، حبا ينسجم مع إدراكه لأهمية العلم في حياة الشعوب، ودور العلماء في بناء صروح العز والسؤدد، ولا أشك في أن كل مثقف في بلادنا الحبيبة يحس بأن تكريم (الحبيب حمد الجاسر) إنما هو تكريم لكل المثقفين، ذلك لأن الجاسر حبيب للجميع، فالناس قد يختلفون في الصغر وفي الكبر، ولكنهم يلتقون كلهم ويجتمعون على حب الشيخ حمد الجاسر، لانه قدم عمره كله لوطنه ومواطنيه، فهو من صناع الثقافة في المملكة، بل رائدها الذي لا يبارى ولا يزاحم، إذ له في كل ميدان ثقافي إسهام بيّن ومكانة عالية مرموقة، فهو أحد المسهمين في التعليم العام والعالي، وهو صحافي من الطراز الاول، ومنشئ لها على المستوى الفردي والمؤسساتي وما اليمامة والعرب إلا ثمرة من ثماره ، وهو مؤرخ تتبع الأحداث والوقائع التاريخية في أعماق الجزيرة العربية،واستنقذ كثيرا مما كنا نظن أنه ضاع أو كاد أن يضيع, وهو شغوف بكتب الرحلات، يحققها، ويدرسها، ويستخلص منها ما يساعده على بناء تاريخ الجزيرة ووصل أجزائه المبعثرة هنا وهناك، وهو جغرافي يحقق المواضع والأماكن، ويعالج المعالم والأعلام وهو عالم لغوي متمكن، وهو منشط للحركة الثقافية، ومحرك لها أتم التحريك، فكل الذين اشتركوا معه في الجهد الجغرافي، إنما كان بتحريض منه إما بالمطالبة والإلحاح وإما بالمقاسمة،وإما بالنسج على المنوال, ولم تقتصر جهود الجاسر على بلد دون بلد، أو اقليم دون اقليم، فقد أسهم في كل ميدان ومكان وعصر، بنصيب وافر، وجهد ظاهر، وكان يرى في الجانب التاريخي والجغرافي ان يهتم ابناء كل منطقة بمنطقتهم، ليكون ذلك أيسر، واقدر على تحقيق الأماكن والأحداث وبالمناسبة أذكر أنه حرضني كثيرا على تحقيق كتاب (الأخبار العجيبة) للسيد يحيى هاشم، وهو كتاب يؤرخ لفترة قريبة من تاريخ المدينة المنورة، ولكني شغلت عن الكتاب بأمور أخرى، فكلف الشيخ به غيره، قد يكون أخي الدكتور عبدالله عسيلان.
قد تطول الأعمار أو تقصر،ولكن يبقى المهم منها، ويعيش في ضمائر الأمة، ما كان ذا جدوى ونفع للناس قال الله تعالى، واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، لاشك ان الله بارك لنا في عمر الشيخ حمد الجاسر، حتى قيض له أن ينجز ما أنجزه بعون منه تعالى، مما قد لا يستطيع النهوض به فريق من الناس متكامل الأدوات والآليات، فنحن مدينون له، مسؤولون أن نوقره في الحياة والممات، وأن نترجم حبنا له وتقديرنا لجهوده بالدعاء له، وتخليد اسمه والإشادة بذكره فحيّا الله سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز، راعي فكرة تكريم هذا العالم الفذ الرائد، وحيا الله لجنة التكريم التي رأس فيها اللجنة التأسيسية أخي سعادة الشاعر المبدع الدكتور إبراهيم العواجي, ولا يسعنا في هذه المناسبة الجليلة إلا أن نترحم على الفقيد، ونشيد بجهود التكريم المتمثلة في سمو الأمير سلمان، والذين من حوله من المؤمنين بالفكرة، الأعضاء المؤسسين، وايضا شكرنا موصول لكل من حضر حفل التكريم من داخل الرياض وخارجها من كافة المناطق، والذين حرصوا كل الحرص ألا يفوتهم عرس ثقافي أقامه أحد رعاة الثقافة البارزين في بلدنا الحبيب سمو الأمير سلمان، لرائد من روادنا الحبيب حمد الجاسر.
د, محمد العيد الخطراوي
|
|
|
|
|