| الثقافية
الرياض نقطة انبثقت من أعماق التاريخ منتشية بأريج أمجادها تقرأ في جدرانها سيرة أمة ولدت مع انبثاق فجر قصُر مدى سراه، وطويت بيداؤه انه فجر اشرقت شمسه، ومع اشراقتها ولد تاريخها، فاذا به سفر دولة حافل بكل المعاني عمرانا وحضارة، ورقيا وتقدما، وعلما وثقافة، ووراء ذلك كله رجل حالفه التوفيق من الله فأذهل العالم بعقله الراجح، وبحكمته وحنكته وسياسته وبعد نظره، وصلاحه وتقواه انه الملك عبدالعزيز رحمه الله صاحب الشخصية الفريدة في تاريخنا المعاصر، والذي كانت مسيرته الخيرة في بناء كيان دولته المملكة العربية السعودية مثار اعجاب ودهشة كل من عرفه، او كتب عن تاريخه، لما عرف عنه من مواقف وصور حية ورائعة في التضحية والفداء، والاخلاص والورع والتقوى، والصدق والوفاء، والكرم والبناء والتشييد، والعلم والمعرفة والحكمة والحرص على مصالح شعبه خاصة، وامته العربية والاسلامية عامة، وسياسته الواعية داخل البلاد وخارجها، وتطلعه دائما الى مرافىء التقدم والتطور لبلاده بكل حميد ومفيد، وجاء من بعده ابناؤه البررة فتحملوا الأمانة كل بما وكل اليه وساروا على نهج المؤسس الباني، فأسسوا وشيدوا وعمروا، وسابقوا الزمن لينهض البناء شامخا في مدة زمنية تعد قياسية في حساب نشأة المدن والعمران والحضارة، ومسايرة منجزات العصر ومتطلباته.
وهاهو صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز يحتضن الرياض بكل الحب والشوق، يبثها شؤونه وشجونه، وتبثه شؤونها وشجونها، فتنتشي فرسا اصيلا شد عليه سرجه وامتطى صهوته، واجتاز به مضمار السباق في دنيا اليوم فهنيئا لرياض المجد والثقافة والحضارة والتقدم بأميرها المحبوب، ذلك الأمير الذي يبدو انه في قاموس المفاهيم ذات الدلالة العميقة ليس أميرا للرياض بالمفهوم المعلوم للامارة أصلا وجذرا ووظيفة فقد تجاوز ذلك الى آفاق رحبة تطلق العنان لمدلول الامارة من دائرة المألوف الى أخرى تجاوزته في بعد حضاري تتواكب فيه جوانب عديدة تغترف من محيط القيم الانسانية، والمنجزات الحضارية، والثقافية التي تبنى عليها الأمم دعائم رقيها وتقدمها، وعلى هذا المنوال اجتمعت في شخصيته مواهب عديدة، منها موهبة الادارة الحكيمة لشؤون الامارة وموهبة الثقافة وتقدير اهل العلم والعلماء وموهبة حب الخير والعمل الدؤوب في توفير موارده ومصادره لمؤازرة ومساندة ذوي الحاجات في الداخل والخارج على امتداد الوطن العربي والاسلامي، وغير ذلك من المواهب التي تستدعي وقفات طويلة متأنية لرسم ابعادها وآثارها وثمارها وما من شك ان محصلتها تنتهي الى الحكم بأنها تحمل في طياتها الخير وخدمة الدين والوطن لأن رافدها هو الاخلاص والحب والتواضع، والعزيمة الصادقة والسير على نهج الثوابت التي نعتز بها جميعا دينا ودنيا.
واذا جئنا الى عالم الثقافة في الرياض نجد انه عالم رحب واسع الآفاق متجدد العطاء والنماء، ومواكب لمنجزات العصر، على امتداد انواعه وانشطته، ومؤسساته ومصادره، في حركة دائبة لا تكاد تهدأ في الجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية، ووسائل الاعلام والمكتبات، فمن ندوات علمية وفكرية الى محاضرات ومهرجانات، مما أهلها الى ان تكون عاصمة الثقافة العربية ولا ريب ان وراء ذلك حوافز ودعم ولاة الأمر في بلادنا العزيزة، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الامين والنائب الثاني، وفي هذا المحيط العابق بأريج الثقافة والعلم تفتحت أزاهير رياض الأمير سلمان الثقافية، وفاح اريجها في الأفق القريب والبعيد، فمن يجالسه ويحادثه، او يستمع اليه يجد لديه سعة الثقافة الادبية والعلمية، ويبدو ذلك بوضوح في احاديثه وكلماته التي يرتجلها في مناسبات عديدة حيث تأتي متناسقة ومنسجمة ومتألقة اسلوبا ومضمونا، الى جانب ما يلمسه الجميع من حرصه الدائم على دعم ورعاية المناسبات الثقافية والعلمية التي تزخر بها عاصمة الثقافة العربية مدينة الرياض، ويتبع ذلك مشاركته الوجدانية والفعلية لهموم وشؤون وتطلعات الثقافة والمثقفين.
وما هذه المناسبة التي نعيشها اليوم والمتمثلة في رعايته الكريمة لحفل انشاء مؤسسة حمد الجاسر الخيرية، ومركزه الثقافي سوى شاهد ماثل للعيان على هذه الرعاية والتكريم لاهل العلم والثقافة، وليس من تفسير لذلك سوى التأكيد على عمق البعد الثقافي عند سموه ومدى ادراكه لأهمية الثقافة والعلم في رقي الأمة وتنامي وعيها الحضاري وتفاعلها المستمر في البناء والعطاء، ومَن هذا شأنه لابد ان يحرص على تقدير العلم والعلماء، ويستوعب تماما ما لهم من واجب التقدير والوفاء والتكريم اعترافا بفضلهم وجهودهم المعطاءة في مسيرة الحياة الثقافية والعلمية في بلادنا وعلى امتداد الوطن العربي والاسلامي، ومن هنا يتجلى لنا امير ذو حس مرهف، ووعي بحقائق التاريخ التي تعمل على تبصير الأمة بعظمتها ومكانتها وعزتها وقيمة رجالها المبدعين.
والحديث عن مؤسسة ومركز الشيخ حمد الجاسر ذو شجون، وبطول بنا امده لو اردنا ان نسهب وحسبي هنا ان اكتفي من الفيض بالغيض، فأقول انهما عملان رائدان في فكرتهما وساميان في اهدافهما، وهادفان في منطلقاتهما وتوجهاتهما، ومناحيهما المتعددة في الموضوعات والاختصاصات والاهتمامات التي تشمل جوانب متعددة من العلم والمعرفة والثقافة، وخدمة العلم وطلابه، والعناية بتراث الجزيرة العربية على اختلاف اشكاله وألوانه، والعمل على احيائه من خلال تنشيط الباحثين وطلاب العلم وحفز هممهم، وتشجيعهم لخدمة هذا التراث الثر، والعمل على نشره بصورة علمية دقيقة، الى جانب العناية بآثار واعمال علامة الجزيرة حمد الجاسر رحمه الله الذي تحمل هذه المؤسسة والمركز اسمه، وحسبك به فهو قمة شامخة، وطود سامق سموق العلم والمعرفة التي تربع على أرجائها معلما وموجها، وباحثا وعالما واسع الإدراك عميق النظرة، وناقدا بصيرا وكاتبا ذا مواهب أدبية متعددة، هام في حب العلم، وعشق التراث عشقا دونه عنترة، ومجنون ليلى، وملك عليه ذلك كله شغاف قلبه واستحوذ على أقطار نفسه، يمضي سحابة يومه في القراءة والاطلاع والبحث والكتابة، له كمٌّ غزير من البحوث والدراسات في مجال اللغة العربية والأدب والتاريخ والجغرافيا المكانية، والأنساب والرحلات، وهي بحوث ودراسات رصينة وجادة لا يضمها كتاب واحدا وأكثر ،بل تربو على ألف بين كتاب وبحوث ودراسات ومقالات مبثوثة في بعض الصحف والمجلات والكتب ولاسيما مجلته الرائدة العرب، وهو أديب وبحاثة موسوعي كما وصفه كل من الأستاذ عبدالله بن خميس ، والدكتور علي الطاهر, حيث ذهب الأول الى أن الشيخ حمد موسوعي فهو أديب، وهو مؤرخ، وهو جغرافي وصحفي على نهج الأقدمين من العلماء مجلة العرب 9 ،10، س18 ، عام 1414ه ص 820 وقال عنه الثاني مدهش هذا البحاثة الشيخ حمد الجاسر الملقب بحق علامة الجزيرة فهو علم يعد مجمعا علميا، وهو صورة لما نقرأ في كتب التراث عن امجد من يمجدهم التراث قولا وعملا وتأليفا مجلة العرب ج1، 2 س17، عام 1402ه .
لقد فقدت الساحة العلمية والثقافية برحيله علما بارزا من اعلامها يختزن في ذاكرته فكر اجيال وثقافة اجيال وعلم اجيال، وتجارب اجيال، قدم من الجهود والآثار العلمية والثقافية الشيء الكثير، واثرى الساحة علما وفكرا وعطاء، ونقش اسمه بجدارة في ذاكرة الزمن، وفي حياته علامات كثيرة بارزة تركت له بصمة واضحة في ميدان العلم والثقافة والصحافة وكانت له فيها الريادة، منها على سبيل المثال انشاؤه صحيفة اليمامة وهي اول صحيفة في الرياض عام 1372، ورئاسة تحرير جريدة الرياض عند تأسيسها عام 1385ه وكذلك اسس اول مطبعة تتولى مهام الطباعة والنشر في الرياض عام 1374، ثم اسس دار النشر المعروفة بدار اليمامة التي اصدر من خلالها كتبا ومؤلفات قيمة يعنى اكثرها بتاريخ المملكة العربية السعودية وجغرافيتها المكانية بخاصة والجزيرة العربية وتراثها، ومن مآثره البارزة مجلة العرب التي اصدرها عام 1386ه ، وهي مجلة متخصصة في رصد وتدوين تاريخ الجزيرة العربية وتراثها وآدابها وكل ما يتعلق بها، وهي رائدة في بابها، وقد نالت شهرة واسعة ومكانة مرموقة على مستوى العالم العربي لما حوته من بحوث ودراسات جادة ورصينة في مجال اختصاصها وكان الشيخ حمد هو ربانها الماهر الذي جعل لها كيانا واضح المعالم والقسمات وظل يقود دفتها على مدى يتجاوز الثلاثين عاما بصمود وعزيمة على الرغم من الصعاب التي واجهته في بعض المراحل، وفي غمرة المرض وتقدم السن حين بلغ التسعين من عمره.
ومما يثلج الصدر ان هذه الجهود المثمرة للشيخ حمد على دروب العلم والمعرفة وجدت عند ولاة الامر في بلادنا العزيزة قلبا مفتوحا للخير كما هو شأنهم في تكريم اهل العلم والثقافة، ودعم وتأييد وتشجيع وانشاء كل عمل مثمر بناء يخدم الوطن وابناءه وينهض به وبهم صعدا في مدارج المجد والحضارة والرقي والتقدم المبني على اسس علمية وقيم صحيحة.
وماهذا العمل البناء المتمثل في دعم وانشاء مؤسسة ومركز الشيخ حمد الجاسر سوى غيض من فيض في هذا المضمار المترامي الاطراف.
وإنا جميعا نتطلع ان تؤتي هذه المؤسسة وهذا المركز ثمارها وعطاءها المتدفق، وان تحقق اهدافها، خدمة للعلم وطلابه والتراث العربي والاسلامي الى جانب خدمة ورعاية جهود وآثار وتراث الشيخ حمد الجاسر الذي وان غاب عنا الى الدار الباقية فإن ذكره سيظل باقيا بأخلاقه وعلمه وآثاره وما تقدمه هذه المؤسسة وهذا المركز من آثار وجهود مثمرة خيرية وثقافية وعلمية والله ولي التوفيق.
* أستاذ الأدب والنقد بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية
|
|
|
|
|