| الثقافية
(1)
** يؤسس القاص (عبدالرحمن الدرعان) مفهوم (الطفولة) على انزياح تام
لسلطة (الفعل),, في نص يتلمس عوالم الطفولة عبر اعادة انتاج تفاصيلها وطقوسها الأولى,,!!
** ويكوّن (الفعل) بمفهومه (النحوي) صياغات
سردية لدلالات القص لديه,.
حيث يعتمد فيه على سرد الحكاية على لسان (الكاتب) الذي يتقمص سردها,, معلنا في عمق مضامينها على انتصار الارادة (الطفولية) على فوقية الشخصيات الكبيرة ومحولا محاور خطاباتها الى وقوف قسري أمام جنون طفولي يتوق للتكوّن,, وتجسيد مساحة لقناعاته,, واحلامه,.
(2)
** والمجموعة التي احتوت ثلاثة عشر نصا تقدم عوالم الطفولة بحركة ارتدادية والى الداخل,, الى الجوانب في ضمير,, وذهن (طفل) واحد يقدم نموذجا لحساسية تنطوي على مفارقة الموقف إزاء حركية الحياة وتقلباتها,, وظروفها,.
** وهذه الحساسية المتخلقة من طبيعة المواقف التي تواجهها وتعبر عن رأيها ازاءها تأخذ صفة (العادية) في خطابها الحواري,, والبساطة المغرقة التي تنزع الى تأصيل بيئتها,, في بداهتها الانسانية,, في تأكيد اشاري على نزعة الأسئلة الطفولية ومشاكساتها,, حيث يستصفي منها (القاص) دلالة منطق طفولي فاقع!
** (في الممر كنا وحدنا، امي وأنا وأخي، ولم يكن ثمة احد غيرنا، أجلت عيني في خارطة العائلة,, ثم زويت عيني الى اخي الاصغر فاذا به يحدق بعينين تغيضان بالاحساس بالفقدان,.
لكن شعرت في تلك اللحظة انه انا ذلك الطفل الصغير الذي يتعين عليه ان يبحث في ملامح اخيه,, عن ملامح ابيه,, وابتلعت السؤال:
ما الذي سوف يبقى لنا؟!!
** فالبنية الدلالية الجزئية في هذا المقطع التي ينهض بها (الفعل) عبر تكرره ثماني مرات
تقوم على دلالة محورية مقصودة تنزاح تلقائيا للطفل,, في سؤال ممعن في أساه,, دون ان ينطق به وهي السمة الدلالية التي تجذر المجموعة معانيها عبر أنساق حوارية عدة تقوم على صيغة حكائية (لما حدث) دونما مواربة في الافصاح عن مضامين النص بصيغة الحكائية (تلك) على عالم مفتوح الأجزاء,, والأركان,, يعري فضيلة بساطته,, وبداهته بحوار انطباعي ثر,, يعزز مفاهيم طفولة تكوينه ونظامه أو الانساني,,!
(3)
** وفي سياق الترابط النصي تظهر ممكنات الصيغة الحكائية بدوال استخدام الكاتب للمعجم الشعبي,, في دلالته المركزة والمبثوثه,, في جزئيات الحكاية وتعبيراتها,, حيث تكرر حاجة النص لدفق مفردات ذلك المعجم بنقلها من التعبير (الشفهي) الى حيزها في لحمة (التدوين) النصي,.
وبعد تواليها بالشكل الذي عبرت عنه النصوص,, نقلا للحدث الحواري من بعد الاصطفائي النصي,, الى (شعبيته) المتولدة من طبيعة سياقه البيئي,, ولتكن ثمة مرجعية دلالية منطقية للفعل الدلالي ذاته في بنية النص,, وتقديم مفهوم جديد لها ينهض على بناء الشخصية من خلال تصويرها في حالة الفعل,.
(اجتزت الممر المفروش بالحصباء الى الغرفة التي يرقد فيها ابي تحت حراسة المرضى,, كان متكئا مثل فزاعة الحقول وله عينان تنبئان أنه بالكاد يرى، وكانت أختي (سمية) تجر المروحة بعيداً عن كاحله الذي بدأ يزرقّ مخافة ان تلتهم شفراتها قدميه, قبلت رأسه، ويده كانت تعادل وزن طفل رضيع,, ولما احس ان احداً حوله بدأ اللغط، قال بصوته الاجش,, الصوت الذي وجده صامدا وقويا يقاوم العمر والتعرية:
(لا جاك الضبع يظلع,, يظلع، ويش تعشيِّه)؟!
ويتبدى من ثمة احساس الراوي للحكاية من طبيعة موقف انساني يجادل سنة الحياة ولا يجد ثمة تعبيرا يجذر دلالة الأسى من مآله غير ترديد هذه العبارة, المتقشفة,!
والتي تختصر (مقول) الموقف برمته وتنقله الى حيز التعبير الصادق,, وفحوى الدلالة العميقة,.
بينما يتحدد موقف (الطفل)
بمراقبة الفعل الصادر من (الأخت) والتوقف عند منطوق (الأب) الذي يضعه في مسافة مراجعة مؤثرة,, تظل تردد ما نطق به الاب دون ان تجد الاجابة؟
(4)
** وتختفي معالم المكان,, ودلالات طبيعته الاسمية جذريا من سياقات النصوص,, التي لم تعبأ كثيرا بالتوقف عن ترسيم حكائي لمعالم جغرافيته وان كانت دلالات الحوار,, وتجسيد الصفات الممكنة التي تتوالى بطبيعة السياق الحديثي في بنية النصوص في ابداء مواصفات بسيطة لا تتجذر دلاليا في الوقوف عند (هكذا) دلالة تاركة للفعل المحكي حرية اندياحه بضراوة ذاكرة (طفولية) تلتصق صميميا بحدود بصريتها الكاشفة لاجزاء البيت (الوحدة المكانية الداخلية) وتوصيف معالم تكوينه,.
اذ يهيمن توالي السرد بطبيعة تراتبية تنصب على عنصر (الزمن) في تجسيد دلالتها,.
وتترك للفعل,, حمولات دلالية تتماهى في اندياحها من الذاكرة دون اظهار تعاطفها مع ما يمكن ان تضيفه دلالة (المكان) على جو النص,, ومضامينه,.
** إلا ان اضطلاع نصوص المجموعة بتحذير مفهوماتها من خلال تحديد (القرية) كحيز مكاني تنطلق منه اجواء الحوار,, وقناعات الشخصيات
ومنطق حوارها,.
ويظل هاجس خروجها من اطار (القرية) بعفويته المعبر عنها والمؤكد عليها كثيرا,, في مقاطع من نصوص المجموعة,, انتقالا محفوفا بالتوجس والخوف من الاصطدام بالعالم المغاير,, والغير مكتشف,, (المدنية) والذي يظل حيزا تحيطه عوالم (الحكاية) في النصوص بالتوتر,, والترقب والتوجس من المغامرة باتجاهه,, الى الحد الذي يكمن فيه معنى الانقطاع والتواصل والانسجام بين (عالمين) متباينين,, يمثلان قوى تجاذب تقتضيها ظروف الحياة,, ويغالب (الطفل) تشوقه الى اكتشافها والاقتراب منها,.
** (,, يغالبك ألم,, وبينما تتلفت ترى الافق المحجوب عنك خلف النوافذ المتناثرة، السوداء، ينبثق السؤال المدبب يم ينطفىء كنملة أطلت ثم تراجعت عن رائحة الندى الى ثقبها:
ألم يجد القاطنون في هذه المغارات الصغيرة اماكن اخرى,, فإن مع اليسر يسري.
وتتذكر ان هذه المدينة بلا صحراء,, ولا أفق,, ولا هواء ولاعصافير,, تتنهد: يا لهذه المدينة الضائقة!!
(5)
** ويتمادى هذا المأزق الذي يطفح بمنطقة السؤالي المتمرد الذي يترك للوعي بمنطق الاشياء,, حتمية الظروف,, مسافة للتعبير الذي لا يصل بالفعل تحديدا لنتيجة
الخطاب السابق,.
وانما يتوقف عند تخوم السؤال,.
وينسحب مفهوم المكان ذاته الى رؤية عمومية لكل الشخصيات التي تلتحم بدفء الرغبة في المعرفة وتتناور عند حدود اطلاق افكارها من عنان الاستفهام المؤلم في حدود تعبيرية بسيطة،، الى تخوم فكر (بدائي) محكوم بانغلاقه في اطار براءات القرية,, وعفوفية قناعاتها,.
(6)
(,, حالة صمت صغيرة رفَّت علينا، كسرتها امي تسأل من جديد هل هناك مساجد؟
الرياض كلها جوامع يا أمي!
ولكن خالتك قالت ان ام مبارك يحلف على لسان امه انه ما سمع منهم الله اكبر، ولا الصلاة على محمد، والحريم هناك يشربن الدخان ويمشين امام عيون الرجال كاسيات عاريات لا يا أمي! مبارك كان في امريكا، البنك ارسلوه في دورة لكن الرياض مثل ديرتنا هذه!!
اجابت بهزة من رأسها دلالة
على الاستسلام,,)
** فنقل هذه الرؤية بتعبيراتها البسيطة ووفقا لكونها الشخصي,, يحظى باهتمام بالغ من لدن (القاص) في خفز شخصياته على اطلاق مكونات وعيها الطبيعي والبدائي,, الذي يظل على ارتباط عضوي دال بمفهومه بمأزق (القرية/ المدينة) في ذهنيات البيئة التي يطلق لشخصياتها اندياحاً في نقل فضائها المهيمن على قيم النص الى الكمون في بني تأخذ بعدا طبيعياً في التكون,, في أفق القرص.
** وعلى المستوى البنيوي
تحتكم اشارات هذا القص الى (دوال) عينية تنضوي تحتها صيرورة الخطاب القصصي وتوجهاته مثلما تحتكم العلاقة بين (الطفل) الذي كبر وقرر السفر من القرية/ الى المدينة وبين أمة,, الى منطق خطاب,, يهتم بفرض الجزئيات الحكائية على سياق نصي ينهض بمهمة تعبيرية تحتفي بها مجموعة (رائحة الطفولة)
** وتكون عفوية نماذج الخطاب الحواري فيها انتقالا الى ايجاد وحدة عضوية وبنيوية تجمع بينها,.
بحيث يمثل كل مقطع عنصرا سرديا ووظيفيا في بنية سردية والتي يربط بينها على مستوى (الموضوع) محور رئيسي واحد وهو مأزق العلاقة بين مكانين,, مختلفين وتوجس الانتقال من الانغلاق المفاهيمي والوجداني في القرية
الى نواميس المدينة ومظاهر
الحياة فيها,.
** ويظل المنطق اللغوي للشخصيات لافتا الى هيئة انسانية ذات ملامح خاصة,, مسكونة بألفة أشيائها الظاهرة,, والملامح الأولى من طبيعة العلاقات بين اناسها,, مندغما في الآن ذاته مع حرص الراوي للحكاية على جعلها عنصرا متناغما ومتلاحما في البنية السردية (ككل) تتجزأ مواقفه وظروفه,, ولغة منطقه,, مع مستجدات الظروف والأحوال.
** وينسجم هذا المفهوم الذي تتأسس عليه تقنيات المجموعة مع اساس بنيتها العامة (الفعل) في قدرة تخلقه,, وامكانات نقله للحدث وصياغات الحوار,, الى الفضاء القصصي بحسب الدلالات التي يبتغيها,, غير آبه بممكنات فنية أخرى ك(التخييل) كانت اقدر على توسيع فضاء جمالي للنصوص,, ولا سيما وهي تحتفي بنسج محفوظ الذاكرة,, واعادة سيرة الطفولة,, عبر وقائعها المتعددة وعنصر تتيحه ظروف انولاد النص في هذه الحالة,, كان اقدر على النهوض بالمعمار الفني القائم على جمالية المكان (القرية) وفعل الانتقال الى حدود فضاء المدينة الغامض والمبهم او كما حددته دلالات النصوص!
(8)
** وبنص احتفى بجزئيات بسيطة مما ذكرناه كنص (ذاكرة مثخنة بالدم) احتفى بوقائع,, تتلمس بطبيعتها جماليات (التخييل) وفق نموذج انساني متلبس بالرغبة بالتعبير عن مكنونه,, وفضح اسرار وعيه باتجاه تغييبها في حدود وعي الام البدائي والبرىء او كما صوره النص في اطار تفسيرات غير منطقية,, لا تتيح طبيعة الشخصية غير منطوقها المعلن عنه,.
(,, يتذكر حتى اكاذيبها العذبة وهو يسترق السمع لكي يتخيل هذه الاسطورة ويتمنى ان يراها,.
هي البنت الصغيرة التي كانت ذات يوم في مثل سنك، ويدوم فيك ذلك الصوت:
قم تكبر وتنسى
هل أصبحت كبيرا حقا؟ تصحو تتجرع كأس الماء ثم تحاول اثناء ذهابك الى العمل ان تجمع نسيانك من فضلات نسيانها)
** فليس ثمة في نص مواتي لقدرات فنية أكبر من رؤية (عبدالرحمن الدرعان) الابداعية غير الملامح الأولى لفعالية التعبير الجزئي,, وتغيب امكاناته في تجريدية وصفية,, لائذة دائما بالفعل لتوجيه مساراتها,,!.
إلا ان السمات المشتركة التي
تبتنيها نصوص المجموعة وانزياحه الى دالها العنواني,, واحتفائها المركز بزمن الطفولة,, ولواعج مناخات هذه المرحلة,.
يعطي لسببية مستوياتها الجمالية صياغيا ودلاليا والمحددة وفقا لشروط فعل مختار,, وبيئة مكانية مقومة في اطار زمني مفتوح وطقوس مفاهيمية مرتبطة بمستوى شخصياتها,, وحدود أفق وعيها,, تجعل من هذا التناول الفني مسارا انفراديا في مشهد القصة السعودية,, وفق قراءاتي لها ومتابعتي لانجاز مبدعيها يلجه الكاتب باقتدار,.
وان كانت مستوياتها الجمالية اللغوية منحبسة في اطار تعبيري مبسط يكاد يلمح بامكانات الشخصيات دونما حضور لانتقائية ابداعية تمنحها امكانات القاص قدرات أكبر في الظهور,, والتجلي.
* رائحة الطفولة عبدالرحمن الدرعان مجموعة قصصية صادرة عام 1421هـ عن مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية
|
|
|