| الثقافية
تؤكد الكتب والمصادر الأجنبية على أن أصول القصة القصيرة موغلة في القدم حيث عثر على نصوص قصصية قصيرة فرعونية تعود الى 4000 عام قبل الميلاد بعض النصوص الأخرى التي وصلتنا كتبت بالاغريقية واليونانية والصينية واليابانية والهندية والعبرية ولا ننسى المقامات العربية التي ظهرت فيما بعد, ارتبطت رواية القصة في العصور الوسطى وعصر النهضة بالأساطير والخرافات، ولم تبزغ شمس القصة القصيرة بشكلها الحالي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أعمال الرواد أمثال:
Honoree de Balzac. Guy de Maupassant, Anton Chekhov Washington Irving, Nathaniel Hawthorne, Edgar Allan poe ولكنها لم تظهر بشكلها المركب والفني الا مع القرن العشرين حيث ازدادت تنوعاً وصقلاً على كتاب مثل: Earnest Hemingway, Katherine Mansfield, William Faulkner: وليست القصة القصيرة سوى نتاج زواج سعيد بين المحتوى والشكل، فهي أشبه بفن التصوير محاولة للامساك بلحظة انسانية ذات كثافة عاطفية عالية، ومحاولة لاحداث تأثير لهذه اللحظة على أكبر عدد من القراء يتحقق هذا التأثير اذا ما تعرفوا على أنفسهم في الشخصية المحورية.
تكلف محدودية وقصر القصة القصيرة الكاتب الكثير من الجهد والمهارة والصنعة ليحقق أهدافه من خلالها وليوصل رسالته في مساحة صغيرة، اذ عليه ان يختار ما يقول وان يعرف كيف يقوله, على هذه الوحدة الصغيرة أن تضم طاقة تأثيرية هائلة ومفاجئة، مزاج معين احساس سار بين السطور كالغبطة أو الاحباط أو البؤوس أو الذعر ، ولهجة أو نغمة خاصة بالكاتب كالسخرية أو السكينة أو الاستفزاز , وشأنها شأن الرواية، يمكن أن تكون القصة القصيرة مأساوية، كوميدية، أو واقعية، أو فانتازية أو طبيعية, ولكن القصة القصيرة تكشف عن الشخصية المحورية عن طريق حدث واحد أساسي ومركزي في حين نتتبع في الرواية تطورات الشخصية وتدرجها من خلال سلسلة من الأحداث.
خلاصة ما سبق ان خصوصية القصة القصيرة تكمن في قصرها الذي له تبعاته، فهي لاتعتمد على السرد كما الرواية ولذا ظهرت قصص قصيرة أشبه بالخواطر, ولكن القصة القصيرة الحديثة تعتمد بشكل أساسي على عنصر التنوير epiphany اذ تتعرض الشخصية المركزية الى حالة من التبصر تنتقل الى القارئ وتظهر مهارة الكاتب في تعامله مع هذا العنصر من حيث اختياره له، والحبكة التي تؤدي بالشخصية للتبصر وتعبيره عنه وتعميق الاحساس لدى القارئ بأهميته.
في النصف الثاني من القرن العشرين تسببت مرحلة ما بعد الحداثة بتغيرمفاهيم وتأصل أخرى, ساد توجه زيني بامكانية التوصل إلى حقيقة هذا العالم من خلال ملاحظة وتقصي التفاصيل الصغيرة، وذهب الادباءإلى استعراض مهاراتهم في الاقتراب من هذه الحقيقة عبر منافذ شعرية ودقيقة لا يمكن ان يلحظها الانسان العابر, ولاسباب توضيحية سأعرض للنص الكامل لقصة بعنوان المرأة العاملة تحقق النجاح تتناول غياب الأم عن أطفالها لاضطرارها للعمل، لقد تناول م ستانلي بوبيان M. Stanley Bubien هذه القضية الهامة من خلال نظرة هذه الأم إلى صورة لطفلها: رفعت الصورة المفضلة لديها من فوق سطح المكتب, كانت يداها ترتجفان حين احتضنتها وهمست: آسفة انتهت القصة نافذة برسالة الكاتب كالسهم بثمان كلمات في النص الأصلي!
كما وظهرت الصنعة والتجريب في الشكل، ولعل هذه التغيرات حكمت و بنسب مختلفة أشكال الأدب الأخرى، ظهر ضمن ما ظهر من الصراعات الأدبية، التي سرعان ما رسخت نفسها كاتجاهات أدبية مستقلة، ما يسمى بالقصة القصيرة جداً (The very short story) أو ( The micro short story) ويزعم جون بارث john Barth في مقدمة كتابه الذي ضم مجموعته القصصية أنه أول من قدم هذا النوع من القصة القصيرة، هذه القصة مكتوبة على ما يشبه الشريط داخل الكتاب، هناك ارشادات بقص الشريط ولصق أطرافه لتحصل على اسطوانة مكتوبة عليها القصة التالية بعنوان Frame tale (الشكل التوضيحي):
Once upon a time there
was a story that began
كان يا ما كان، كان هناك قصة بدأت
يقول بارث: هذه أقصر قصة قصيرة في اللغة الانجليزية (عشر كلمات) ومن جهة أخرى هي لا نهائية يرمي بارث من خلال قصته إلى حياة الإنسان التي بدأت ولم تنته، هناك تلميح مبطن ومرير بأن هذه البداية نتج عنها الكثير من الويلات يكتب بارث عن التجربة الملحمية الانسانية ابتداء من التاريخ والمستقبل والشعوب والحضارات وحتى حياة الفرد البسيط وعلى أية حال قد تكون قصة جون بارث هي الأولى ولكنها بالتأكيد ليست الأخيرة فعلى غرارها كتب بوبيان .
Life, It Keeps Going And Going and Going
الحياة إنها لا تنفك تستمر وتستمر وتستمر,,,
أسهم العنوان في اعطاء القصة دعماً خاصاً The Great Deplession البؤس العظيم وهو أيضاً لفظ ألصق بحقبة زمنية عصيبة شهدتها الولايات الأمريكية وأوروبا أبان الحرب العالمية الثانية, للكاتب نفسه قصة The Impossible أي المستحيل ونصها: دعني أعطيك رأيي فيها بكل حياد,,, هي رسالة اجتماعية حاول الكاتب ايصالها واضحة وبسيطة وحساسة ودقيقة.
ان القصة القصيرة الجيدة هي التي تعكس حالة انسانية عامة من خلال تجربة شخصية وهو ليس بالسهولة, لعل مشكلة كتابنا المحليين هو تمركزهم حول الذات الفردية فنجد معظم قصصهم تحاول أن تعكس طفولتهم وأيام زمان من منظورهم وتدون حديثهم الخاص مع أنفسهم, قد يكون النص الكامل لقصة فئران لأيرين مكولكب مثالاً مناسباً للتسجيل لحظة انسانية من خلال الذات الفردية:
فأر آخر وقع في المصيدة على الطاولة في مطبخنا, يحاول الخروج منها, أرقبه من مكاني على أريكة غرفة المعيشة وأختي تنام على ذراعي, أمي خرجت للعمل، وتركتني مسؤولة عنهم، لذا لن أتركهم ينامون وحدهم في غرفة تعج مراتبها بالنمل، والفئران في المطبخ, حديد المصيدة على رقبة ذلك الفأر بثقل أختي على ذراعي, كلانا يحاول الخلاص .
لم يقف قصر النص عائقاً دون تحقيق الأثر المطلوب للتعاطف مع هذه العائلة الممعنة في البؤس والعوز, بدت حاجة بطلة القصة الى الحرية واضحة, في حالات كهذه لا يعدو الانسان كونه فأر في مصيدة.
احدى القصص المباشرة والناجعة هي تلك التي تنتهج صيغة المخاطبة: أيتها المعلمة: دعي هؤلاء الأطفال وشأنهم! القصة دون عنوان ولكنها واضحة ومغايرة لرمزية القصة التالية: جلست الضفدعتان على جذع الشجرة تحلمان بأنهما صقران، حتى أتى صقران وشاهدا الضفدعتين فهبطا من السماء وحققا حلمهما,,, من الواضح ان الضفدعتين المسكينتين قضتا نحبهما بسبب أحلامهما, قصة ذات مغزى تقوم بعض الشيء على فلسفة القناعة كنز لا يفنى.
ولأخلص الى ما أحاول قوله هو انه، عالمياً، القصة القصيرة في تطور مستمر نحو الأفضل حيث شهدت تغييراً جذرياً وثورياً مع كتاب الحداثة فأخذت منهجاً واضحاً يركز على القضايا الانسانية الرئيسية كالوجود والجدوى والخلل الفادح في العلاقات والحروب ونتائجها, واكب ذلك تطور في الأسلوب ومنه انبثق علم الأساليب التطبيقي ليحلل الطريقة التي ينتهجها الكاتب ليبلغ رسالته, أتت ما بعد الحداثة بقصص قصيرة فائقة الدقة والتطور يمارس فيها القاص ألاعيب بهلوانية في شكل القصة وطريقة عرضها، الأمر الذي لكز جواد النقد قدماً ليكون أهلاً لدراسة وتحليل هكذا نتاج محترف, ويكمن الاسهام ما بعد الحداثي في تأثير فلسفات عالمية كاليابانية والسانسكريتية وغيرها كثير وهنا تأتي العولمة, في كثير من القصص، يقوم الكاتب بحركة بسيطة وخفية بعصاه السحرية للفت الأنظار الى أمور أصبحت بديهة في حياتنا لكنها، للمتفحص، ذات دلالات عميقة ومصيرية.
لعل الوقت قد حان لأن نلتفت الى سطحية الطرح في معظم قصصنا القصيرة المنهمرة والتي نعتقد خطأ انها فسحة للتعبير عن الذات الفردية بدلاً من التعبير عن الضمير الجماعي الذي هو قوة ديناميكية فاعلة في مجتمعاتنا العربية, لعل من الأجدر ألا تخدعنا البساطة المغررة في بعض الأعمال الأدبية فالقيمة الحقيقية للعمل الأدبي تكون أحياناً أعمق من أن نصل اليها نحن معشر البسطاء!!
مراجع:
* Baldic, Chris. THE CONCISE OXFORD DITIONARY OF LITERARY TERMS 1990.
* Barth, john. LOST IN THE FUNHOUSE. 1998.
* Cudden, 3.A. dictionary of literary terms And literary theory. 1991
* Morner. Kathleen and Ralph Rausch. Ntc.s dictionary of literary terms. 1991
* مرفق شكل توضيحي من صفحتين (أول قصة قصيرة جداً لجون بارث).
paperblade@hotmail.com
|
|
|
|
|