| مقـالات
كل عام وانتم، وكل الحبايب بخير، ورمضان مبارك على الجميع, ولو سألت أي مسلم عن شهر رمضان، لقال انه شهر الخير واليمن والبركة، شهر العمل العظيم والبر والاحسان، شهر نقترب به من الله، ونتأمل في دواخلنا فنحارب شرور ذاتنا, شهر نحس فيه بمعاناة الآخرين، ونتذكر من يصومون قسرا طوال العام، قد يكونون في أطراف المدينة أو في ذرا جبال أفغانستان المكسوة بالثلوج.
وهذا صحيح، على مستوى الكلام وعلى مستوى الفعل: تمتلىء المساجد، ويؤم مكة المتعبدون، ويتجه أهل الورع الى الاعتكاف في المسجد الحرام, وتزيد الصدقات، ويخرج الكثيرون جزءا من زكاة أموالهم في هذا الشهر, الحمد لله على كل شيء.
لكن، وآه من لكن، التناقض الكبير بين الليل والنهار, مع أذان المغرب تمتلىء الموائد بالمقلي والمطبوخ والمحمر والمقمر, والعصير الفلاني والمزيج الترتاني والحلوى الشامية والفالوذج واللوزينج, الاعلانات التجارية عن المأكولات والأطعمة الرمضانية تترى في الاذاعة، والتلفزيونات تتبارى في استعداداتها لملء الليل بالبرامج.
ولأنه رمضان كريم فهو شهر الاسترزاق التلفزيوني، يفيق أهل المسلسلات التلفزيونية المحلية من سباتهم لتظهر المسلسلات بذات الأسماء والأبطال والعاملين وكأنها مقرر مدرسي, والشاطر يفكر طوال العام في كيفية اقتناص ربع أو نصف ساعة تلفزيونية اما بكاميرا خفية، أو بلطجة تلفزيونية، وكله يلقط رزقه.
في الليل تمتلىء الأسواق، وتزدحم الطرقات، وتنطلق الجنون أسرها النهاري، لتعربد بأحصنتها الحديدية في الشوارع، رمضانها في النهار فقط وحتى صلاة التراويح.
والتناقض الآخر في النهار نفسه، في النهار النفوس شينة ابتداء من الخروج من باب البيت، وصولا الى العمل، وحتى العودة منه، الموظف نفسه شينة باعتباره صائما، وكأن المواطن الذي يراجعه ليس صائما بدوره او وكأن الصيام يستلزم شينة النفس.
ويبدأ العمل في نهار رمضان في العاشرة صباحا وفي بعض الأماكن في التاسعة ولخمس أو ست ساعات بما فيها أوقات الصلاة,, خسارة يا ليت العمل من بعد صلاة الظهر، ويخلص عند أذان العصر, أليس رمضان كريما أرجو صادقا ان تزيد الحسنات في شهر رمضان، لأن ساعات العمل والانتاجية تتدنى الى أدنى مستوياتها ولأن بيروقراطيتنا العتيدة تنهي في أسبوع ما يجب انجازه في ساعة، فانها في رمضان تنجز في شهر ما يجب انجازه في ثوان وراجعنا بكره، أو عقب العيد أحسن, والعذر دائما رمضان كريم! صم يا رجال !
عندما كنت في المستشفى، كان زميلنا عبدالله أكثرنا ورعا وتقى ولما نلتقي في اجتماع أو عيادة نكون منطفئين، عابسي الوجوه، نرسم بألوان هزيلة ابتسامة ميتة، وننفث مع النفس آهات القرف ما عداه, لماذا يا عبدالله؟ ما هو السر؟ هل سحورك يختلف عن سحورنا؟ أم اصطفاك الله عز وجل بقوة اضافية خاصة؟ فيقول عبدالله بهدوء لا هذا ولا ذاك السر بكل بساطة انه وكل أهل بيته لا يغيرون عاداتهم في رمضان, مواعيد السحور والنوم والعمل والمذاكرة هي نفسها لذا عبدالله أكثرنا هدوءا وانتاجية في رمضان.
صحيح يا عبدالله! أذكر في اليمامة الثانوية منذ أكثر من عشرين سنة كيف تذمرنا، وتمتمنا باحتجاج خافت، عندما أخبرنا المدير الثاقب ، الله يمسيه بالخير، ان الدوام لن يتغير في رمضان وستبدأ الدراسة في السابعة كالعادة, الفرق الوحيد ان الانصراف سيكون أبكر بساعة, وداعا لسهر الليالي الرمضانية الملاح، وسلاما يا نوم الضحى الهانىء ولكننا اكتشفنا ان هذا أفضل ما حدث لنا: نظامنا الداخلي لا يتغير, نأتي المدرسة بنفس نشاط الأشهر الماضية حتى من يكون يطرد بقايا الوسن من عينيه يتحول الى عفريت يجري في حصة الرياضة بطول الملعب وعرضه.
بعدها ذهبت للدراسة الجامعية في مصر المحروسة، ولا شيء يتغير هناك في دوام العمل والدراسة في أيام رمضان أما اجازة العيد فهي أربعة أيام، هو شهر عمل وعبادة، وليس شهر كسل ونوم, في تلك الأيام لم تكن هناك دشوش في تلك الأيام، ولكن التلفزيون المصري شهير ببرامجه الرمضانية، وفوازيره، ومسلسلاته للسهرات الرمضانية, والمقاهي في حي الحسين الشعبي أو الزمالك الأرستقراطي، والفنادق من خمسة نجوم حتى نصف النجمة، تفتح أبوابها الى وقت السحور، وربما أربعا وعشرين ساعة ولكن العاقل خصيم نفسه: من يريد ان يسهر حتى الهزيع الأخير من الليل، ويواجه تبعة سهرة فليفعل، ومن يريد ان يستمر في نظامه يفعل.
لماذا نحن وعدد قليل من الدول العربية نغير مواعيد الدوام في شهر رمضان! قبل ان استرسل أقول لمن توقف عن القراءة عند هذه النقطة محتجا ان ينتظر ويسايرني حتى النهاية, أنا متأكد ان المشرع عندما ابتدع هذا النظام كان يريد ان يريح الناس، وأن يعطيهم الوقت للعبادة، والتهجد والسحور, ليذهب الموظف والتلميذ والتاجر الى عمله ومدرسته ودكانه وقد تناول سحوره متأخرا، ونام بضع ساعات ملء عينيه, ولكن هاهي عقود من السنين تبين لنا ان حسن النية وشرف المقصد لم يؤديا الى الهدف المنشود فشينة النفس في أقصى معدلاتها، والانتاجية العملية في أدنى مراتبها.
والأمر يحتاج لوقفة صادقة مع النفس، ليكن رمضان شبه اجازة رسمية, الدوام بالتناوب ثلث الموظفين يومين في الاسبوع، والدوام من الظهر الى العصر فقط, أو ان نعيد النظر في مسألة الدوام الرمضاني.
أولا: المسألة بهذه الوضعية الحالية تعطي المرء انطباعا غير مباشر يستقر في عقله الباطني بان رمضان ليس شهر عمل، بل شهر صوم وسهر ونوم بدليل تقصير ساعات الدوام، وتأخير موعد مباشرة العمل, ثانيا لن أتحدث عن مصاعب الهضم، والبشم من جراء النهم الليلي، ولكني أتحدث عن جانب تأثير تغيير مواعيد الدوام.
في داخل كل منا ساعة بيولوجية حيوية تضبط مواعيد نومنا وصحونا, وتحكم الفترات التي يتم فيها افراز الهرمونات المختلفة, وتؤثر اللخبطة في هذه الساعة على كل الوظائف الحيوية للانسان لأن هذه الهرمونات تتدخل في كل شيء: النمو، المزاج، الجنس، التركيز,, الخ ويتم افراز هذه الهرمونات بتناغم مدهش ضمن برنامج زرعه فينا خالقنا سبحانه وتعالى، فشينة نفس الموظف ليس مردها الصيام والخرمان الى كاسة الشاهي، وصحن الفول، وقرص التميس الساخن المقرمش ولكن مردها الى خلل مفاجىء ألم بالساعة الداخلية.
وتحتاج الساعة الداخلية الى أسبوعين لتنضبط مع النظام الجديد, وبعد اسبوع من ذلك تأتي اجازة عيد الفطر طولها في المتوسط أكثر من اسبوعين لتختل هذه الساعة مرة أخرى.
وعندما يبدأ دوام شوال تكون الساعة الداخلية قد مرت بفترة عصيبة من الاضطراب على مدى ستة أسابيع، ولذا يجد الموظف ان مباشرة العمل بعد اجازة عيد الفطر أثقل وطأة من معاودة العمل بعد اجازة عيد الأضحى.
أهم عامل في ضبط الساعة الداخلية، وأهم خطوة في ضبط نظام النوم لدى الانسان، هو وقت الاستيقاظ، وليس وقت النوم، ويجب ألا يتجاوز أي تأخير أو تبكير في الاستيقاظ من يوم لآخر الساعة الواحدة, طبعا هذا لا يعني ان يأخذ المرء كلامي حجة فينتقع أمام التلفزيون حتى الثالثة أو الرابعة ثم يستيقظ في السابعة، فالانسان بحاجة لعدد كاف من ساعات النوم تختلف من شخص لآخر والحفاظ على مواعيد النوم مهم بدوره,, ما رأيكم؟
fahads@suhuf.net.sa
|
|
|
|
|