| الثقافية
السوق، والمتسوقون، والواجهات البراقة للمحلات، وليل جدة المزدحم، وأنا أتجول معك بفتات النقود الذي نملكه,.
اغفر عتب عيني اللتين ترمقان مرورك الخاطف من أمام الأواني الزجاجية، وتحولك الى أخرى لا تقتني الا لرحلة عابرة.
واعف عن تسمري أمام ذلك المشجب الأسود، وسؤالي اللحوح عن سعره، وتلكؤي في اللحاق بك رغم نداءاتك المكررة.
معذرة يا وليد فلن استطيع اكمال هذا التسوق الكوميدي، فما بأيدينا لا يكفي لشراء مستلزمات طفل فضلاً عن أن يمكننا من اقتناء ما يكفينا لاقامة حفل زفافنا خلال الشهرين القادمين كما حلمنا.
لكننا كبرنا يا وليد والعمر يجري دون أن نشعر به، ألمح ضبابية أحلامنا تهزأ بنا، سئمت المواعيد المؤجلة,, أرتبط مع قريباتي في جمعيات لا استطيع الالتزام بها، ثم أكتشف ان الذي يأتي كالذي يصرف، أدور حول نفسي في حلقة مفرغة للبحث عن وظيفة ولا أجد، أقترح عليك أن تعمل في سيارة أجرة فنكتشف ان ثمن الوقود يستنزف ثلاثة أرباع المحصول، وراتبك لا يكاد يغطي مصروف جيبك، وسيارتك التي اشتريتها مستعملة.
كم أتوق لبيت يجمعنا، لطفل يملأ أوقاتنا، نتدفأ بالأحلام، ونظل نرتعش من البرد، وتصطك أسناننا من صقيع الفاقة، نبني ناطحات السحاب من الحصى، ونعلم أنها ستتساقط على رأسينا، ونتجاهل النداءات، والتحذيرات من حولنا، لقد أنهكنا الركض كجوادين يواصلان عدوهما رغم انتهاء السباق، وتوزيع الجوائز، وانصراف الجماهير، ونظل نبحث عن يدين رسمتا لنا بداية الأحلام، ثم مضتا وتركتانا نواجه عقبات الطريق دون سند، يدي والدي الذي تولى تربيتك بيننا، وزرع بذورالحب في قلبينا، منذ كنا طفلين نتسابق في الجلوس على ركبتيه، وهو يحتسي الشاي أمام مكيفه الصحراء كل مساء.
الى أن جاء صوت شرطي المرور المرتبك بخبرنا ذات صباح أن حافلة قد دهسته، وهو يقطع الطريق حاملاً كيس الخبز بيد، وزجاجة الدواء بأخرى، وانه قد فارق الحياة قبل وصوله المستشفى بدقائق.
ركضت الى الباب، كدت أخرج حاسرة الرأس، ولكن يديك دفعتاني بوهن الصدمة، وعزيمة الغيرة، وسقطت جوار الباب أنتحب، وأتوسلك أن توصلني اليه، أريد ضم جثته العابقة بالرجولة والحنان، وشم شذى الوعود والأماني التي ألمح تصاعد أبخرتها بين عيني وعينيك.
وظننت ان الشوارع ستحتج على كل الحافلات، وستمنع مرورها، وستضطرها الى العيش في المنفى، ولكن ذلك لم يحدث، وظل ينبعث من صرير كل حافلة نتن الفاجعة، وتخلف عجلاتها لزوجة دم والدي,, والناس يدوسون على قلبينا كلما صعدوها ضاحكين، يشمتون بعذاباتنا، ويئدون احتجاجاتنا، وكأن القاضي الجائر قد برأ سلالة الحافلات من دم ابي,, اغفر وهني عن مواصلة هذا الركض المحموم يا وليد فأنت تعي كم جاهدنا معا، وضحينا بكل ما نملك كي نكمل مع أمي رسالة والدي في تربية أخوي حتى كبرا، واعتمدا على نفسيهما، وأصبحا لا يتذكراننا الا باتصالات عابرة، يخاطباننا فيها من برجيهما العاجيين اللذين كان لكلينا اليد الطولى في تشييدهما.
فصراخ الذات في داخلي يعلو، والأماني تتشظى عند عتبة العوز، وهتاف العرض الذي جاءني منذ أيام يزمجر: ان قد حان وقت التفكير في مصلحتي مجردة من عواطف لن أستطيع معايشتها الا بسلاسل متواصلة من التضحيات التي أخشى أن ينتهي بي العمر دون أن أحصل مقابلها ولو على لحظة استقرار,, فهو عرض مغر بكل معنى الكلمة، رجل غني، وأموال طائلة، تكفي حاجتي، وثلاثة أجيال من بعدي، واستعداد كامل للقبول بشروطي مقابل أن أرضى بالعيش مع رجل لا يعيبه سوى عقدين من الزمن تفصل بين مولدي ومولده.
لكنني أحبك,, يا ابن عمي,, وأتذكر لهفتي عليك كلما تلكأت في العودة الى البيت، وانشغلت بلعب الكرة مع أقرانك، وكيف انني أعاتبك كثيراً، وأتوسل أمي أن لا تخبر أبي، وأعدها نيابة عنك أنه لن يتكرر ذلك.
أريد أن أرى أكاليل الاستقرار تزين هذا الحب، تنقل الأحلام المحلقة الى أرض الواقع، أريد أن أثبت لمن يتهمونني بأنني خيالية أنتمي لعصور مضت، ولم تعد تناسب عصر السرعة والانترنت: ان الحب يصنع المعجزات، ويحول طعم كسرة الخبز الى لذة الكعك، ولكن هيهات فالشقة قد بعدت، وسئمت البقاء أمام نافذة الأوهام أنتظر مراكب الفرج,, وحنيني يزيد الى العيش بين جدران دافئة تنسيني رعشة سقوطي بين يديك متوسلة، وتمحو صورة دم والدي بين عجلات الحافلة من ذاكرتي.
ولكنني أعود الى التفكير في قلبي، وهل يمكن أن يقتنع، ولذا أريدك أن تنطلق من الواقع الراكض لتحقيق أمانينا، علينا أن نبدأ من جديد، نستثمر الفرص، نغامر بخوض معارك الاستقراض، والمشاريع التي لا تزيد نسبة توقع نجاحها على 2%، دعنا نسافر، نبحث في المجهول عما يجعلنا نمتلك ما يمكننا من مواكبة العصر، لا تنظر لمطالبي باستهزاء وعتب، فبتنفيذ ما أطلب قد نصل الى ما نريد، ولو بعد جولات مع الاخفاق تمهد طرق النجاح، المهم أن لا نقف مكتوفي الأيدي، ونرضي بهذا الدخل الراكد، ولكنك تصم أذني وتصرخ بي: متهورة أتحفز لدفع التهمة عني بنظرة تحد، وأقول وأنا أصعد السيادة مغادرة السوق: أمامك أسبوع لتختار، اما ان تخوض معي غمار التجربة، واما أن تحررني من هذا القيد الذي يطوق قلبي بطوق من ياسمين، ويسور عنقي بسوار من حديد!، ثم تعيدني الى بيتي وتتركني بصمت,, أحبك,, يا ابن عمي,, ولكنني أريد أن أعيش كغيري، افرح بثوب فاخر، أزهو بعقد ثمين، فتربيتك على كتفي وترديد كلمات العشق على مسامعي، لا تلغيان رغبتي في تناول وجبة عشاء شهية في مطعم فخم، ولا تنسياني حلمي القديم بأن أدفن نفسي في أحضان معطف من الفرو,, هل يتعارض الحب الصادق مع مظاهر الحياة الفارهة، التي أغرق طوال ليلي في تخيلها، ثم تصدم عيناي بالشوق التي تعلو جدار غرفتي حال استيقاظي؟؟!
مللت رتق ثوبي كل اسبوع، ومداراته حتى لا يهترىء بين يدي وأنا أغسله، وأحلم بثوب زفافي الذي ظننت لسنوات أن خيوط الشمس تواصل غزلة كل صباح,, أرتمي بين جدراني المتشققة بعد مغادرتك، وصرير الحافلة يعلو في أذني، ولا يقطع تواصله الا صوت ضحكة ابي المجلجلة، وهو يضمنا الى صدره قائلا، مرحبا بأصغر عروسين في الدنيا، وتتسلل من بين الشقوق دماؤه، ويزداد تدفقها، تغرق حجرتي بها، ويتحول كل ما حولي الى حمرة داكنة، وتقترب أمواج الدم القاني المتعالية، تجرفني الى خارج الغرفة، وأرمق والدي وسط الصالون مطرقا، يرفع عينين عاتبتين، يسمرهما عليّ، وأنا بين كتل دمه المتجلط، أصرخ: لقد عدت يا أبي عدت لتدلني على الاختيار الأسلم، فقضبان الحيرة تفصلني عن وليد، ومساحات الرخاء تمتد بي الى ذلك الخمسيني المتصابي,, ويختفي طيف والدي، وأعود لمراسم الفقد.
أدخل حجرته، أقلب أوراقه، وأجد كل ما يخص وليد من أوراق وصور، أحن الى كفيه اللتين تحويان دفء كفي والدي، تتساقط أوراق شجرة ظنوني بامكانية العيش دون وليد، وينكسر غصنها، وأكمل اجتثاث جذورها بقبضتي، أركض الى الهاتف، واتصل به، يجيبني صوته الغارق بالدموع، أقبل تأوهاته عبر الأثير، وأعتذر، وتجلجل ضحكته البريئة، فتحيل ضيق غرفتي الى مساحات خضراء تتمايل الأغصان على جوانبها.
آمنة بنت محمد العسيري مكة المكرمة
* القصة الفائزة بجائزة جمعية الثقافة والفنون بالمدينة المنورة لعام 1421هـ
|
|
|
|
|