| مقـالات
لم يسبق أن كتبت مادحا احدا!!,, إنني أميل إلى توضيح المواقف ومناقشة الأمور بموضوعية, أما مشاعرنا تجاه حكامنا فهم يعرفونها جيدا ونعرب لهم عنها أثناء محاوراتنا ونقاشنا معهم في صدق وإخلاص,, ولم يحدث أن أحداً منهم استهان باقتراح أو تضايق من نقد هادف,, إستراتيجياتهم السياسية واضحة لألي الألباب وأصحاب الضمائر السليمة والشريفة, أما وسائل تحقيق تلك الإستراتيجيات فمن الطبيعي أن تكون وجهات النظر بشأنها متباينة, ولا شك أن اختلاف وجهات النظر بين العقلاء، في أي مجال ظاهرة صحية تنبىء عن تدفق الحياة الفكرية في المجتمع, وتتيح فرصة مُثلى للمحكومين كي يسبروا أغوار من في موقع السلطة ويتأكدوا من سلامة منهجه وصدق توجهه نحو مصالح أمته، وهذا الاختلاف أيضا عامل من أهم العوامل المساعدة على إثارة الفكر الخلاق وحماية الأمة من الكوارث التي تسببها النمطية الممقوته في الإجماع الكامل عند مناقشة القضايا, ومن القضايا المصنفة على أنها مدار اختلاف في وجهات النظر، أن حكامنا الأجلاء يتبعون وسائل شفافة ويعلنون بصدق عن وسائلهم تلك وهو منهج قل ما تتبعه أية سياسة في هذا العالم، فالسياسات الصهيونية والاستعمارية تقوم على الكذب والمراوغة والخداع والغدر والانتهازية والأنانية والمزايدة على المواقف، وبمعنى أوضح فإن مفهوم الأداء السياسي الناجح عند تلك السياسات هو أن يُظهر السياسي خلاف ما يبطن, وهذا الأسلوب يرفضه حكامنا الأوفياء وكم تمنينا عليهم عند التعامل مع أصحاب المنهج السيىء أن يقارعوا السلاح بالسلاح والحجة بالحجة, والأسلوب بالأسلوب نفسه؛ وأرجو الله أن يغفر لي إن كان ذلك ليس من قبيل إعداد العدة لمواجهة الأعداء، أو ليس من قبيل الاعتداء على من اعتدى علينا بالمثل.
ومما يؤسف له أشد الأسف أن المنهج السياسي السيىء لم يعد محصورا في السياسات الأجنبية فحسب، بل نجده قد أصاب البعض من بني جلدتنا ممن سقط في وحل السياسات الصهيونية والاستعمارية وغرص في أوكارها المظلمة, فنراهم يسربون ما يسر إليهم به الساسة السعوديون ويحرفون الكلم عن مواضعه ويفشون المواقف للأعداء، ويطلقون العنان لوسائل إعلام نعرف جيدا من أين أتت كوادرها العربية مع الأسف وإلى أين تذهب بعد انتهاء عقد العمل، وقد كانت تلك الكوادر بالأمس كالذباب المتهافت على التمرة يطرقون أبواب سفاراتنا في البلدان الغربية وفي بلدانهم ويحصلون على ما يريدون من مساعدات فرضتها علينا روح الإخوة العربية والإسلامية، ويتناسى أولئك الإخوة في الدين والدم أن المملكة العربية السعودية على ثغر من ثغور الأمة, ولم يسبق أن أتت الأمة غائلة من مأمنها الذي ترعاه السعودية, كما لم يسبق قط أن فشلت السعودية أو تراخت في أداء ما أنيط بها من مهام لخدمة الأمتين العربية والإسلامية.
في عام 1319ه بدأ الملك عبدالعزيز تغمده الله بواسع رحمته في مشروعه الإسلامي العظيم لإعادة توحيد الجزيرة العربية وحين صدر وعد بريطانيا لليهود بإنشاء وطن لهم في فلسطين (وعد بلفور) عام 1917م كان الملك عبدالعزيز في ذروة الكفاح من أجل مشروعه النبيل، ومع ذلك لم ينشغل عن قضية فلسطين فكان أول المحذرين من خطر الصهيونية القادم على المسجد الأقصى وعلى الدين الإسلامي وعلى الأمة العربية، وشاركت المملكة العربية السعودية في جميع الحروب العربية ضد أطماع الصهيونية والاستعمار القديم والجديد، والمجتمع السعودي يدرك هذا جهدا فليس هناك قبيلة أو عشيرة من هذا المجتمع إلا وقد اشترك واحد أو أكثر من أبنائها في جميع تلك الحروب من عام 1947م حتى عام 1973م ضمن الجيوش السعودية التي أرسلها الملك عبدالعزيز أو ابناؤه من بعده, ولو نطق التراب الذي دارت عليه رحى تلك المعارك لوصف بصدق كيف امتزج الدم السعودي بدماء إخواننا العرب للدفاع عن الحق العربي، يقول الرئيس السوري حافظ الأسد رحمه الله ما ملخصه: (لن أنسى كلمة (أبشر) تلك الكلمة التي أجابني بها قائد أطقم المدفعية السعودية في الجولان عندما طلبت منه توجيه نيران مدفعيته لصد هجوم إسرائيلي بدأ يتقدم), هذا فضلا عن الدعم المادي والسياسي الذي لم ولن ينقطع في سبيل الدفاع عن الحق العربي والإسلامي في فلسطين ومصر وسوريا ولبنان والأردن، ولا أظن وزارة الخارجية السعودية تحجب ملف هذا الدعم عن مؤرخ أو باحث منصف يريد الاطلاع عليه.
وحين أحرقت الصهيونية المسجد الأقصى فاق الرد السعودي كل التوقعات إذ بادرت المملكة العربية السعودية إلى تجميع القوى الإسلامية، فكان إنشاء منظمة المؤتمر الاسلامي أحد الردود السعودية على تلك الجريمة، كما قام الملك فيصل يرحمه الله بزيارات متعددة إلى كثير من دول العالم أسفرت عن قيام تلك الدول بقطع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع اسرائيل, وحين أعلن الفلسطينيون في مؤتمر القوى والفصائل الفلسطينية في الجزائر عن قيام الدولة الفلسطينية استبشرت المملكة العربية السعودية بهذا الإعلان خيرا واعترفت بهذه الدولة ودعمتها في كل المحافل الدولية، إلى جانب حصة المملكة من الدعم المادي لمنظمة التحرير الفلسطينية ودول المواجهة، دعما أخوياً صادقا لم يربط بإعلان أو شروط، ولم يتأثر بالمتغيرات السياسية على الساحة العربية، ولم تقف الحكومة عند الحصة المحددة لها من هذا الدعم بل أفسحت المجال لمزيد من التبرعات الحكومية والأهلية, وإبان الانتفاضة الفلسطينية في الثمانينيات كان للسياسة السعودية أبلغ الأثر في تحريك المجتمع الدولي وتوضيح الصورة والحقيقة العنصرية لمولود الاستعمار (إسرائيل) وعملت جاهدة على أن تكون القضية الفلسطينية مدرجة في جميع الجداول الخاصة بالمؤتمرات والمنتديات العالمية، ولم نسمع بياناً أو تصريحا صدر عقب أي محادثات سياسية كان أحد أطرافها سعودياً إلا وكانت القضية الفلسطينية مدرجة ضمن ذلك البيان, ومن عجب العجاب أن القضية الفلسطينية وقضية الأراضي العربية المحتلة أُدرجت ضمن مباحثات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز مع الرئيس الأمريكي بوش أثناء زيارة الأخير للمملكة وقد كانت تلك الزيارة مخصصة في الأصل لبحث السبل الكفيلة بإجلاء القوات العراقية عن الكويت ومواجهة الخطر العراقي القادم باتجاه الأراضي السعودية، وقد كانت تلك الكارثة كفيلة بالاستيلاء على فكر ومشاعر الملك فهد لو لم تكن قضية فلسطين قد أمسكت بلباب عقله بنفس القدر الذي كانت عليه في فكر والده الملك عبدالعزيز وابنائه من بعده, ولم يكن وجود سمو الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز في مؤتمر مدريد من قبيل الفسحة أو الصدقة بل هو تأكيد من خادم الحرمين الشريفين على أن السعودية تعتبر نفسها طرفا حقيقياً في قضية فلسطين، وكانت المملكة العربية السعودية من أوائل الدول التي دعمت انتقال السلطة الفلسطينية من المنفى الى فلسطين.
ومنذ بدء انتفاضة المسجد الأقصى صدرت عن المملكة العربية السعودية خمسة انتقادات للولايات المتحدة الأمريكية كانت من أقوى الانتقادات وأكثرها صراحة بل إنها وصلت إلى حد تحميل أمريكا مسؤولية الانتكاسة التي أصيبت بها عملية السلام, ومسؤولية استمرار دعمها للعدوان الإسرائيلي: جاء الانتقاد الأول على لسان خادم الحرمين الشريفين والثاني والثالث على لسان سمو ولي العهد والرابع على لسان سمو النائب الثاني، والانتقاد الخامس على لسان سمو وزير الخارجية, أما ما صدر عن الحكومة السعودية تجاه إسرائيل فهو أشهر من أن يذكر أو يعرف وكان آخره ما صدر عن سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز يوم السبت الماضي من تحقير لإسرائيل واستخفاف بتهديداتها للبنان,, ومن يراجع خطاب سمو ولي العهد في القمة العربية الطارئة بالقاهرة وما تضمنه من دعم للشعب الفلسطيني، وكذلك خطاب سموه في مؤتمر القمة الإسلامية التاسع بالدوحة وما احتواه من مضامين ثم يراجع, ولو على عجل، المواقف السعودية من قضية فلسطين وجميع القضايا العربية والاسلامية فسيجد الحزم والصدق والتأثر والتأثير والإيثار جلية كرابعة النهار للمنصفين ولأولئك الذين ينظرون من خلال النجمة الإسرائيلية ويكتبون بلعاب الصهيونية وينفثون سعار الاستعمار، وسيجد أيضاً أنه على الرغم من الأساليب القذرة للمشككين في المواقف السعودية فإن صورة قيادتنا في ذهن المجتمع السعودي والمجتمعات العربية والإسلامية لم تهتز أو تتغير,, ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فأعدمه!.
يؤكد أحد التفسيرات السلوكية أن المحروم من شيء ما يحاول أن يعمم حالته ليجعل الناس كلهم محرومين، وأن المصاب بعيب يود لو أصيب الناس بمصيبته ثم يخلع ما يشعر به من نقائص وعيوب على الآخرين، وأن المقصر في واجب يبرر تقصيره باتهام الآخرين بأنهم مقصرون وأنهم سبب تقصيره, ولوا أن الشخص من هؤلاء الإسقطايين اعترف بما فيه من عيوب أو نقائص، واعترف بمسؤوليته عن تقصيره ثم اتهم الآخرين بأنهم مثله لهان الأمر، غير أن الإسقاطي يبرىء نفسه ويرى أنه كامل الأوصاف، ولا يقبل نقدا أو نقاشا أو توضيحا لحقيقة الامور.
إن مسؤولية الدفاع عن الأخلاق وعن حقوق الإنسان ومن أهمها وأكثرها إلحاحا قضية فلسطين لا تقع على عاتق المملكة العربية السعودية وحدها, ومسؤولية الجهاد ووصول المجاهدين الى فلسطين ليست مسؤولية السعودية لوحدها أيضا, وإجبار أمريكا على التخلي عن دعم إسرائيل ليس في حدود القدرات السعودية بمفردها، وكما أسلفت في بداية هذا المقال نريد مناقشة الأمور بموضوعية,, فالوصول إلى فلسطين يمر عبر دول عربية كتف أقواها باتفاقيات وعهود سلام مع إسرائيل أفرزتها تراكمات خطيرة لظروف ومشاكل الماضي، هذا فضلا عن كون إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة لا يمكن زوالها إلا بمساهمة أمريكا أو انهيارها هي الأخرى، ومن أعظم البلايا التي حلت بالفكر العربي أن فينا من ينادي بمثاليات يستحيل تطبيقها مع استمرار النسق الطبيعي للحياة السليمة، ويطالب بأهداف معلقة بالثريا وهو يتمرغ في الثرى,, وقد يكون ذلك في الحدود الطبيعية حين تظهر هذه الأمور من البسطاء وممن يتوقع منهم الشطط والسذاجة, لكن الأمر عندما تأتي هذه التصرفات من أشخاص يتبوؤون مراكز سياسية أو اجتماعية أو ثقافية ويفترض فيهم حصافة العقل والحكمة والتروي ومعالجة الأمور بمسؤولية وواقعية تامة, وحين يأتي منهم العكس فإن الأمر لا يخرج عن تفسيرين:
أن يكون الشخص المتبوىء لهذا المركز قد تسلق إلى مركزه, ولم يصعد إليه بطرق شريفة, ثم تشبث به عن طريق غرس أنيابه ومخالب يديه ورجليه في لحوم الآخرين، وفي هذه الحالة لا يكون خليقا بمركزه أو مكانته هذه, وليس كفؤا للوصول إلى مكانه فضلا عن البقاء فيه.
أن يكون هذا الشخص ممن يتمتعون بالصفات والكفاءات المناسبة لمركزه لكنه يحتقر مجتمعه وأمته ويعتقد أنها لم تصل بعد إلى المستوى الذي يمكنها أو يجعلها خليقة بفهم تصرفاته على حقيقتها، بالإضافة الى احتمال أن يكون كارهاً لأمته وحارساً لمصالح الصهيونية والاستعمار مما يدفعه إلى إسقاط عيوبه هذه على الآخرين، ويعمد الى المطالبة بأهداف مستحيلة كي يصيب أمته بالإحباط ويشعرها بالدونية والانكسار، لأهداف تخدم مصلحته الذاتية ومصلحة أعداء الأمة.
ومن قبيل تلك الأهداف المعلقة أن البعض من أولئك الإسقاطيين يطالبون المملكة العربية السعودية بإيقاف تصدير البترول إلى أمريكا والغرب عموما، ويطالبون كذلك بمقاطعة المنتجات الغربية، وقد علموا أن ذلك ضرب من المستحيل لأن الغرب يمكنه أن يستغنى عن بترولنا تماما دون أن ينهار اقتصاده أو يموت المواطنون هناك جوعاً أو يعيشوا في الظلام أو دون اتصالات ومواصلات, ومن سخافة العقل أن يعتقد أحد أن بترول العالم العربي سيستمر في التدفق إلى أسواق اليابان والدول الآسيوية الأخرى أو أن منتجات تلك الدول ستستمر في التدفق إلى أسواقنا في الوقت الذي نكون فيه قد أوقفنا صادراتنا من البترول إلى الغرب أو أوقفنا استيراد المنتجات الأمريكية والأوروبية, ذلك من سخافة العقل لأن الدول الكبيرة قد رتبت الأمور بشكل بارع إلى درجة أن انخفاض المعروض من البترول في الأسواق الأمريكية والأوروبية من شأنه يتسبب في كارثة للاقتصاد الياباني، وأن إفلاس شركة في اليابان من شأنه أن يهز مركز التجارة العالمي في أمريكا واليورو في أوروبا وما حدث عام 1973م لن يتكرر إلا إذا ارادت الحكومات العربية المصدرة للبترول أن تفرض حصارا على نفسها وتجوع شعوبها,, فنحن بصراحة لا نملك مقومات عيشنا حتى الآن، فلماذا لا نمسك تفاحة أمريكية بيد ونرفع السلاح للدفاع عن حقوقنا باليد الأخرى، وها هو منتدى الطاقة في الرياض ولعل الله يغير ما بنا من ضعف حين نغير ما بأنفسنا من حب مرضي للذات, وحقد وحسد ومزايدة غير صادقة على المواقف.
|
|
|
|
|