| مقـالات
كم عدد ضحايا الصراعات التي مر بها العالم خلال القرن العشرين؟ ومقارنة ذلك بالضحايا التي كانت في القرن الذي سبقه؟.
تشير الاحصاءات الى ان العالم وخلال المائة عام الماضية (القرن العشرين) دخل في صراعات كثيرة وعلى مختلف الأصعدة والقارات والفترات,, وبلغت الصراعات الرئيسية في القرن العشرين (250) مائتين وخمسين صراعا مسلحا ذهب ضحيته أكثر من (110) مائة وعشرة ملايين شخص,, وأضعاف هذه الأرقام من المصابين والجرحى والمعاقين,, ونسبة الضحايا خلال القرن العشرين تعد نسبة كبيرة جدا اذا ما قورنت بالقرن التاسع عشر، حيث بلغت الصراعات المحتدة في ذلك العهد (211) صراعا رئيسيا، راح ضحيته (19) تسعة عشر مليونا,, أي بما يصل الى معدل حوالي 18% فقط من نسبة ضحايا القرن العشرين,, وبنسبة أقل بكثير بلغت الخسارات البشرية من الأرواح في القرن الثامن عشر حوالي سبعة ملايين من خلال (55) خمسة وخمسين صراعا مسلحا.
والسؤال الكبير الذي يقلق البشرية في الوقت الراهن,, كم من المتوقع أن يخسر العالم من ضحايا بشرية خلال القرن الجديد (الحادي والعشرين)؟, وهذا ليس من شأن هذا المقال,.
والصراعات نوعان رئيسيان,, هما خارجي مع عدو يقع خارج الحدود السياسية، وداخلي يعيش في اطار المجتمع والدولة,, وتتعدد مسببات الصراعات بين العوامل السياسية والأيديولوجية والاقتصادية والعرقية والدينية والاجتماعية,, والسؤال المهم هو كيف يتم التعامل مع هذه الصراعات والأزمات، وبمعنى آخر كيف يمكن ادارتها واحتواؤها,, وهل آليات ادارة الصراع مختلفة من مجتمع الى مجتمع آخر,, وما هي الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الاجتماعية في سبيل المساهمة في ادارة الصراع والأزمة؟ والصراعات الدولية التي تنشأ بين الدول تكون مختلفة لا شك مع تلك التي تقوم داخل المجتمعات والتي يمكن إجمالا تسميتها بالصراعات الداخلية أو الاجتماعية,, ونعيش حاليا بوادر صراع كبير يدور داخل المجتمع الأمريكي بين الجمهوريين والديموقراطيين على خلفية الانتخابات الرئاسية لاختيار الرئيس الأمريكي الجديد,, ولم يحدث أن انقسم المجتمع الأمريكي على مرشحين رئاسيين مثلما حدث هذا العام,, عدا ربما ما حدث عام 1960م بين المرشح الديموقراطي كندي والمرشح الجمهوري نيكسون، حيث اقتسما تقريبا الأصوات الشعبية مثلما هو حادث تقريبا حاليا بين جورج بوش والبرت جور,, وربما يكون هناك إلحاح لطرح سؤال أساسي في هذا الموضوع,, لو حدثت هذه المشكلة الانتخابية في دولة أخرى ولتكن من دول افريقيا أو آسيا أو أمريكا الجنوبية فماذا ترى سيحدث؟ من المؤكد أن الخلاف لن يظل حبيس المحاكم وأروقة المحاماة والبرلمانات، بل سيمتد الى الشارع وتدخل فيه الدبابات والمدافع وربما أيضا الطائرات لتعمل على تحديد الفائز في مثل هذه الانتخابات، وربما يكون الفائز شخصا واحدا، ولكن الخاسر هو آلاف وربما عشرات الألوف من البشر، الى جانب حالات من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في تلك المجتمعات الى أمد غير معلوم.
ولكن ماذا يحدث داخل المجتمع الأمريكي؟
ربما أن دولة المؤسسات كما نتعارف عليه يتضح كثيرا في مثل هذه المواقف,, فمأسسة الصراع institutionalization of conflict هي كلمة السر وعقل الحكمة التي وضعها الدستوريون الأوائل في المجتمع الأمريكي,, والمأسسة التي تحتاجها مواقف الخلاف والأزمات والصراعات هي في صلب البنية الاجتماعية والاتفاق العام الذي يتأسس عليه المجتمعات الغربية,, وعند حدوث أزمة أو نشوب صراع أو ظهور خلاف تكون الأطراف ملمة ومدركة بكيفية وآلية فض النزاع وحسم الخلاف,, بحيث يكون الاحتكام الى محكمة محلية أو ولائية أو فدرالية أو من خلال كونجرس الولاية أو الكونجرس الفدرالي,, ولن تتعدى هذه الخلافات حدود وأروقة المحاكم والبرلمانات,, وسيضطر الطرف الآخر بوش أو جور الى الرضوخ لرأي المحكمة الدستورية العليا اذا هي حكمت لصالح اعادة العد اليدوي أو رفضت هذه الآلية,, ولن يكون أمام الطرف الآخر أي فرصة أخرى للمناورة لإحداث تغيير أو رسم سياسية أو كتابة التاريخ من خلال مصالح فردية أو حزبية,, وهذا ما نقصده بمأسسة الصراع أي وضع آليات وشروط يتحدد من خلالها كيفية فض النزاع أو حسم الصراع أو تذويب أزمة داخل المجتمع,, والمجتمعات التي مرت بصراعات اجتماعية ودخلت في حروب أهلية واكتوت بنزاعات عرقية تكون قد وصلت الى قناعات الحلول الدستورية الكبرى,, والخيارات المؤسساتية الواضحة,, وهذا ما يحدث حاليا داخل المجتمع الأمريكي الذي ربما لا يكون نموذجا يقتدى به لكل المجتمعات ولكن ربما يكون تفكير ومنطلق ارتكاز يساهم في تقعيد الاستثناءات وتأسيس القناعات الصعبة أمام الجماعات والأحزاب هناك.
والمهم في عملية المأسسة هو خلق قاعدة استقرار وأمن يتم الاعتماد عليها عند حدوث خلافات مثل التي تحدث حاليا بين خمسين في المائة من المجتمع الأمريكي والخمسين في المائة الأخرى,, وهذه نسبة خلاف عالية جدا قابلة لتقسيم المجتمع الى نصفين,, وهي أصعب من كون الصراع يضع أقلية في مواجهة الأكثرية العددية لباقي المجتمع,, وقد اهتمت كثير من المجتمعات الأخرى في الفترة الأخيرة بموضوع المؤسسات فأخذت تضع القوانين والأنظمة والدساتير الوطنية لمواجهة خلافات أو صراعات اجتماعية معينة سواء كانت صغيرة أو كبيرة فردية أو جماعية داخلية أو خارجية, ولا يعني كل هذا أن مأسسة الصراع وحسمه من خلال المحاكم الدستورية هو نهاية لعملية الصراع الذي قد تحدث في المجتمع الأمريكي بسبب هذا الخلاف الانتخابي، بل من الممكن أن تكون هناك مظاهرات وأشكال من العنف والاضطرابات التي تعكر صفو القرارات التي تكون قد حسمت قضائيا,, ولكن هذا العنف المحدود لا يشكل تصدعا في وحدة الجماعة أو الأمة الأمريكية,, كما لا يعني فعلا ان الرئيس الأمريكي القادم بوش أو جور سيعيش في سلام وأمان خلال فترة رئاسته، بل المؤكد أنه سيتعرض لمشاكل وقلاقل تعكر صفو رئاسته التي اختطفها من المحكمة أو الكونجرس بعد جهد ومشقة مضنية,, ولربما يعيد التاريخ نفسه فيظهر من بين أبناء الشعب الأمريكي جمهوريا كان أو ديموقراطيا شخص يريد أن يضع حداً لانتصار شخص على آخر أو حزب على آخر, وقد يرى ان اغتيال الرئيس الجديد هو الحل في نظره,, كما حدث للرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي,, قد يحدث هذا فعلا,, وقد لا يحدث,, ولكن المهم هو ان المؤسسة الدستورية تكون قد انتصرت على أزمة كبرى كان من المتوقع أن تنهك المجموع الأمريكي وتطرح خيارات التصدع والتشقق في جدار الوحدة الوطنية هناك,, وحتى لو اغتيل الرئيس فستظل المؤسسة قائمة وراسخة في ذهنية وعقل المواطن هناك.
|
|
|
|
|