| مقـالات
ألّف هذا الكتاب الأستاذ فاسيلييف؛ وهو واحد من أشهر الكتاب الروس المهتمين بقضايا المشرق العربي الحديثة المعاصرة, وقد ترجمه إلى العربية الأستاذان خيري الضامن وجلال الماشطة؛ إذ قام الأول بترجمة مقدمته والجزء الأول منه المكون من عشرة فصول، وقام الأخير بترجمة جزئه الثاني المكون من أحد عشر فصلا إضافة إلى خاتمته، وأصدرت ترجمته إلى العربية دار التقدم في موسكو قبل ثلاثة عشر عاما.
لقد جاءت ترجمة كتاب فاسيلييف جميلة الأسلوب، صحيحة اللغة بصفة عامة، على انها اشتملت على بعض الهفوات في كتابة بعض الأسماء والمواضع، وهو أمر متوقع من استاذين كريمين ليسا من أبناء المنطقة التي تتناولها الكتابة.
ولعل هذا هو ما جعل الدار التي نشرته تناشد القراء في آخر الكتاب متواضعة مشكورة إبداء ملحوظاتهم على ترجمته وأسلوب عرضه وطباعته.
رجع المؤلف فاسيلييف في كتابته عن تاريخ المملكة إلى كتب وبحوث ومقالات كثيرة جدا بلغات متعددة, وهذا يوضح مدى جديته وحرصه على اخراج ما اطمأن إلى جودته، وكان مما رجع إليه من الكتب والبحوث والمقالات ما هو مؤيد للحكم السعودي، وما هو معارض له، وما هو محايد في موقفه تجاهه, على انه في مواضع كثيرة ينقل عن المصادر دون نقد أو مناقشة أو مقارنة بين المصادر المتنوعة, وسيتضح شيء من ذلك خلال عرض بعض ما أشار إليه، إن شاء الله.
على ان كاتب هذه السطور حول قراءته للكتاب المتحدّث عنه يقدم اعتذاره عن عدم تعرضه للفصول الواردة في الجزء الثاني من الكتاب الذي يبدأ من الفصل الحادي عشر، وذلك ان المؤلف عدّ آخر شيء تحدّث عنه في الفصل العاشر نهاية لتاريخ الجزيرة العربية الحديث وبداية لتاريخها المعاصر الذي هو في نظري أقرب إلى ميدان العلوم السياسية منه إلى مجال التاريخ, لقد جاءت كتابة فاسيلييف منسجمة بدرجة كبيرة من المنطلقات الفكرية السائدة في بلاده الاتحاد السوفيتي حينذاك ، إذ حاول صبغ حركة تاريخ المملكة بالصبغة المتداولة في كتابات اليساريين كالطبقية والاقطاع والبرجوازية الخ، ناسيا او متناسيا اختلاف المناخين الاجتماعيين والسياسيين في جزيرة العرب عنهما في بلد مثل روسيا وأوربا.
ومع انه اعترف في عدة مواضع بما تم من إنجازات جيدة على أيدي القادة السعوديين فإنه بصفة عامة متعاطف مع أي حركة قامت ضدهم سواء كانت تلك الحركة ذات خلفية عمالية وهذا أمر غير مستغرب من كاتب يساري مثله أو عسكرية أو دينية, ولقد أوقعته أحيانا محاولة تفسير حركة تاريخ المملكة بفكر اشتراكي محدد في مواقف متناقضة لم يستطع ان ينكرها نفسه, أشار باسيلييف في مقدمته إلى أهمية المملكة اقتصاديا وماليا، إضافة إلى مكانتها الفريدة باعتبارها مهد الإسلام حيث توجد فيها الكعبة التي يتجه إليها المسلمون في صلواتهم, على انه في حديثه المختصر عن هذه الأمور بدا قاسيا في أحكامه عليها ومبالغا في تقدير إمكاناتها، فقد قال ص3 مثلا: ان القرارات التي تتخذ في الرياض بالرغم من انها ليست مستقلة اطلاقا هكذا ، وغالبا ما تكون اضطرارية ومفروضة من القوى الخارجية إنما تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على ميزان المدفوعات في الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الرأسمالية الأخرى، وعلى وتائر تطورها الاقتصادي ومستوى التضخم وعلى مستقبل الدولار، وعلى سير النزاع العربي الإسرائيلي، وعلى استقرار بعض أنظمة الحكم في البلدان النامية .
وبعد أن أعطى ذلك الحكم بالأسلوب الذي رآه، لفظا ومضمونا، راح يتحدث عن مصادر تاريخ المملكة بمختلف أنواعها, ولقد أفاض افاضة تامة في حديثه عنها, ويأتي في طليعة هذه المصادر المؤلفات التاريخية المكتوبة بلغة عربية وكتابات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنصاره من علماء البلاد، ومذكرات الرحالة الأوروبيين الدبلوماسيين ورجال المخابرات الذين زاروا المنطقة ثم الوثائق البريطانية الهندية والدراسات والبحوث التي عملت في بلدان مختلفة، على ان من الواضح انه لم يشر إلى الارشيف العثماني والمصري ومع اهميتهما وبخاصة عند الحديث عن أواخر عهد الدولة السعودية الأولى وأول عهد الدولة السعودية الثانية.
وقد بدأ فاسيلييف في حديثه عن المؤلفات التاريخية العربية بكتاب ابن غنّام روضة الأفكار والأفهام الذي قال عنه: انه يعتبر مرجعا فائق الأهمية، فالمادة التي يحتويها هي حصيلة متابعة شخصية للمؤلف أو مستقاة من منابعها الأولى , ثم انتقل إلى الحديث عن تاريخ ابن بشر عنوان المجد قائلا عنه ص5 : انه عايش الكثير من أحداث الجزيرة العربية بعد الفترة التي توقف عندها ابن غنام، وانه تميز عن سابقه بسعة آرائه، إذ تحدث عن بنية الدولة السعودية الأولى وعن الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية وبعد ذلك تكلم عن كتاب لمع الشهاب الذي قال عنه ص6 انه استند إلى روايات أشخاص شاركوا في الأحداث وإلى اشاعات وخرافات.
وبعد ان أشار فاسيلييف إلى أهمية كتابات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنصاره من العلماء المحليين، تحدث عن كتب الرحالة الأجانب حديثا مختصرا مفيدا، ثم أشار إلى بعض الدراسات والبحوث التي تناولت تاريخ الدولة السعودية بأدوارها الثلاثة، او تناولت فترة معينة، او موضوعا خاصا من ذلك التاريخ.
وعنوان الفصل الأول من كتاب فاسيلييف هو الجزيرة العربية قبل ظهور الوهابية,, الاقتصاد والمجتمع والسياسة ، وقد أبان ان كلامه في هذا الفصل منصب على المناطق الوسطى والشمالية والشرقية من جزيرة العرب، أي على نجد مهد الوهابية ودولة السعوديين والمنطقتين المتاخمتين لها من الشمال والشرق, ومما تكلم عنه في هذا الفصل الزراعة وما تعانيه من مشكلات وما ينتج عنها من المحصولات، كما تكلم عن الرعي ومشكلاته الخاصة، وقد قسم السكان غير الحاضرة إلى بدو من رعاة الإبل وشبه بدو من رعاة الغنم, وتحدث أيضا عن الحرف والتجارة، مشيرا إلى جلب عرب نجد إبلا كثيرة إلى حلب ودمشق.
ولقد أتى حديثه عن القبائل وتقسيماتها السياسية بالذات مفصلا، وموضحا لأعداد فرسانها، وجاء اعتماده في كثير مما قاله عن تقسيمات هذه الفبائل على مؤلف لمع الشهاب ومنجين في كتابه عن تاريخ مصر، ولكن ما ذكره يحتاج إلى كثير من التدقيق والتمحيص.
ومما يوضح تعصب فاسيلييف لنظرته الايديولوجية الخاصة في تفسيره لمجريات الأمور التاريخية في وسط جزيرة العرب خلال الفترة المتحدث عنها قوله فيما عنونه التقسيم الطبقي في الواحات : بنتيجة عملية طويلة معقدة في المجتمع الزراعي في الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر وقع قسم من الأراضي في حوزة الوجهاء من بين البدو وكذلك الذين تحولوا إلى حضر من زمان في الواحات، فإن حاكم واحة العيينة,, مثلا، كان يمتلك ارضا في الاحساء ويستلم منها عائدات وكانت بساتين النخيل والجنائن والحقول ملكا للفقهاء ايضا, والمثال على ذلك أملاك مؤسس الوهابية .
وما ذكرته المصادر الموثوقة هو ان ابن معمر، أمير العيينة كانت له مزرعة في الاحساء يأتيه نصيبه من ريع ما تنتجه، أما ما قاله عن الشيخ محمد، مشيرا في الهامش إلى انه اعتمد فيه على كتاب التوحيد طبعة المنيرية ، فإنه بالرجوع إلى الموضع الذي ذكر فيه اتضح انه لا يوجد شيء مما قاله، على ان فاسيلييف نفسه ذكر بعد الكلام السابق مباشرة ما لا يتفق مع هذا الكلام، إذ قال: لا نجد عند مؤرخي الجزيرة والرحالة الأوروبيين إشارة إلى ان الملكية العقارية الكبيرة كانت سائدة أو منتشرة في نجد والحجاز والاحساء .
ومما تحدث عنه فاسيلييف في الفصل الأول ما سماه العلاقات القبلية العشائرية داخل قبائل البدو، مبينا قوة بعض تلك القبائل من المحاربين، وعلاقات افرادها برؤسائهم، ومما تحدث عنه، أيضا، قضية الخوة او الخاوة أي الضريبة التي تدفع للبدو مكافأة على الحماية، والوجود العثماني في جزيرة العرب، وانحساره عن كثير من مناطقها قرب نهاية القرن السابع عشر الميلادي، والهجمات على نجد من قِبل كل من أشراف مكة وزعماء بني خالد حكام الأحساء والقطيف وما كان يتبعها من مناطق على ساحل الخليج.
ومما قاله فاسيلييف في الفصل الأول ص72 : وقد بلغ تعسف وطغيان الوجهاء في الواحات اقصى الحدود واتخذ الاستغلال طابعا وحشيا .
أما ظلم بعض أمراء نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فأمر أشارت إليه عدة مصادر تاريخية وشعرية، ومن ذلك قول جبر بن سيّار:
شيوخ إلى فكّرت فيها لكنها ثعالب طرفا تفسد الحكم جايره تركّبوا ظلم الرعايا وطبعهم يدلّك عليه إن مات تشبح بصايره |
على ان من الأمراء النجديين من كانوا عادلين، مثل عبدالله بن معمر.
ولم يقف وصف فاسيلييف للمتنفذين في نجد عندما ذكره سابقا، بل واصل كلامه مستخدما نظرته اليسارية الخاصة في تفسير الأمور قائلا: وهناك مبررات للقول بأن اشتداد استغلال المزارعين من قِبل الاقطاعيين آنذاك قد أدى إلى اشتداد الصراع الطبقي، فقد كتب ابن غنام عن انتفاضة السكان المتذمرين من دهام إلى حد الغليان، ويمكن اعتبار ارسال محمد بن سعود أخاه لنجدة دهام مظهرا للتضامن الطبقي بين الاقطاعيين , ثم اختتم الفصل الأول بقوله ص73 : ما كان بالإمكان تحقيق الاستقرار السياسي، ووقف النهب البدوي، وتأمين سلامة الروابط التجارية إلا في ظل دولة مركزية، وكان بوسع سياسة التخفيف من الظلم الطبقي ان تؤمن لمثل هذه الدولة دعما جماهيريا، لكن كان من اللازم العثور على مصادر خارجية، أي على غنائم الحرب، لأثريا الوجهاء وعدم الإضرار بمصالحهم، وفي هذه الفترة ولدت في نجد حركة دينية جبارة نشأت على أساسها دولة مركزية كبرى .
|
|
|
|
|