| الثقافية
إن عملية الاستيطان متجذرة في كيان كل فرد بشري فانغرس حب الوطن في عملية التكوين التربوي الأولى للفرد، فمشاهداته الأولى، وتفاعله مع الكون متواصل مع الطبيعة المحيطة به بل كل وطن له خاصية اجتماعية ذات علائق بالمكان والزمان ومن هنا انطلقت حكمة ابن الخطاب لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، فلا بلد سوء في نظر المواطن، وكل منا يتعرض للمفاضلة بطريق المحاورة بين مكانه أو موطنه وموطن محاوره.
فيتبين أن الحب لا غير هو مدعاة المفاضلة لأن الموضوعي والمحايد والمتأمل يدرك المحاسن والمساوئ لكل مكان أو موطن.
فمثلاً من يحاورنا في جزيرتنا، فيقول : إنها قليلة الأنهار، قليلة الخضرة قليلة الأمطار صحراء قاحلة فنبادله بأن الله اختارها لتكون مهوى أفئدة الناس قبل الإسلام وهي مهبط الوحي، وهي أم اللغة العربية والعرب أمة حملت راية الخير إلى العالم لا تريد مالا ولا جاها, فتكون المعادلة قوية ومن هنا فإني أرى أن قضية المفاخرة المكانية باطلة عقلا، ولكن هل هذه الواقعية العقلية تنتزعها من البشر، لا أظن ذلك إلا عند ثلة بشرية من الصفوة المخلصين لرب العالمين, لذا فإن التعامل مع الوطن المكان أمر حتمي، وما دام تطور مفهوم الوطن وارتباطه في عالمنا المعاصر بالدولة ووحدة الأمكنة في هيكل وطني موحد، تتآزر فيه عوامل الحب الاجتماعي والمكاني والزماني عند سائر البشر وتزداد عند بعض الشعوب بالمعتقد الديني، إذا كانت تحوى مكانا مقدسا أوتضم تاريخاً متعلقاً بالأمة, والوحدة الوطنية أمر حتمي عند العقلاء والمفكرين من سائر الشرائح الاجتماعية، وهذه الوحدة الوطنية تتفاعل وربما تتضاد في جبهتين قويتين إحداهما داخلية, والأخرى خارجية والذي أميل إليه أن فتك الداخلية أشد فتكاً، فهو المرض الداخلي الذي يدمر جسم الفرد وكلما كانت المناعة قوية لدى المجتمع كان أقوى على مقاومته التي لا مناص منها فالأمراض الداخلية هي التي فتكت بالاتحاد السوفيتي وهي التي تلتهم أفريقيا، وتشعل حرائقها التي تفوق حرائق الغابات وهي العواصف التي تعصف بأفغانستان، والصومال.
وربما أن التأثير المكاني الذي يتأثر بالأديولوجيات كان له نزعة الطاغي كما في الجزائر فالنزاع ليس لمذهب ديني فحسب وإنما لمادي وعنصري، وتضاد في المصالح، ومن هنا فإن التوافق إما بتنازلات فردية وجماعية أو بتدمير كلي فالثمن باهظ في سائر الحالات لكل من الفرد والمجتمع, بل إن الصراع يتشطر لأسباب مكانية أو إيديولوجية أو مادية أو سلطوية ويمثل شرائح معدودة في بداية الأمر ثم تتشطر هذه الشرائح وتتوالد من بعضها لتحترق من الداخل وهكذا فإن نار الصراع المكاني الداخلي أشبه باحتراق الغابة الواسعة المساحة التي تمتد نيرانها تدريجيا ثم تزداد ضراوة شيئا فشيئا فتأتي إليها الرياح من كل مكان وتوجهها وجهات مختلفة مما يصعب التحكم فيها حتى تحترق وتذوي, وهكذا فعلت العنصريات بالعالم الإسلامي أولا ثم دب إلى العالم العربي وتشطر إلى دويلات وأخشى الآن من تشطره إلى أقاليم ثم مدن وهكذا فلنا الويل إذا لم يرض الفرد والمجتمع بالتنازلات الباهظة الثمن, أليس هناك تنازلات أسرية بين الزوج وزوجته، وبين الأب وابنائه وأعظمها وأكثرها من الام لأبنائها فلابد من أن تكون التنازلات للمواطنة كتنازل الأم في أسمى حالاتها وكتنازل الأب في مرحلة تقرب من الكمال وكتنازل الابن البار في معتدل الأمر، ولنا الثبور، إذا هيمن العاق والأناني, إن الفرد له فعاليته فإذا هيمنت أفراد من هذا القبيل على شرائح اجتماعية فهناك يكون الصدام.
أما الصدام الخارجي فله أثره الكبير لكنه أقل فتكا إذا تضامنت الوحدة الداخلية ولنضرب مثلا بالخلافة الإسلامية ألم يكن التشطر الداخلي هو المرض الذي استجاب لإشعار العدو الخارجي، وأضعف مكونات التلاحم حتى سمي بالرجل المريض ثم أجهز عليه العدو الخارجي، والعقلاء يدركون ان مكاسب التنازلات من أجل الوطن أعظم شأنا للفرد ذاته وللمجتمع حمانا الله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا ونعوذ بالله من شر ما خلق فالدعاء المأثور في الأحاديث الشريفة يحذر من النفس أولا ومن الشر الخارجي ثانياً فاللهم أنعم على المسلمين بنعمة الإيثار لأخية المسلم ولمواطنه.
د, مسعد بن عبدالعطوي
|
|
|
|
|