أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 23rd November,2000العدد:10283الطبعةالاولـيالخميس 27 ,شعبان 1421

الاقتصادية

يُناقش ضمن برامج الأمانة العامة لاحتفالات عاصمة الثقافة وبالتعاون مع مكتبة العبيكان
فخ العولمة كتاب يتناول العولمة ومخاطرها والمحاذير الواجب اتخاذها
* الرياض الجزيرة
أصبحت العولمة حديث المجتمعات أينما كانت، وأضحت الظواهر والسلوكيات,, بل الثقافات والرؤى كلها عرضة لعمليات التصدير والاستيراد حسبما يتوفر من وسائل التلقيم، ولكن لا أحد يلتفت للظاهرة في وجهها الشمولي,, اي بما تتوافر عليه في أرض الواقع من مجالات وحقول متكاملة، وما تحدث من آثار على كافة تلك المجالات، وتكاد ملاحقة الظاهرة بالكاد تنحصر في أحد وجوه التأثير، كالتأثير الاقتصادي، أو انتقال المعلومات، أو ثورة الاتصالات,, أو,, أو,,, الخ.
وفي إطار الاحتفالات بمناسبة اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية لعام 2000م تقام يوم السبت المقبل 29/8/1421ه أمسية تنظمها الامانة العامة للاحتفالات بالتعاون مع مكتبة العبيكان للكتب الاكثر مبيعا بعنوان (كتاب ومؤلف),, حيث خصصت الامسية لكتاب (فخ العولمة) الذي يتناول الظاهرة بشكل شامل، ويعرض للكثير من أوجهها المتعددة، كما يعتبر المؤلف الرئيسي للكتاب (بيتر مارتين هانس) من الشخصيات المهمة، فهو عضو في البرلمان الأوروبي، وعضو في جمعية العلماء الالمان وعضو نادي روما، فضلا عن اهتماماته الصحفية,, ويتحدث فيه عن العولمة ومخاطرها والمحاذير التي يجب اتخاذها.
والكتاب الذي جاء في 431 صفحة من القطع المتوسط اسهم في تأليفه هارالد شومان، وقام بترجمته د, عدنان عباس علي وراجعه وقدم له أ,د, رمزي زكي، وصدر ضمن سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت باسم عالم المعرفة .
(,,, والحقيقة ان الميزة الاساسية التي تميز بها هذا الكتاب، هي تلك المقدرة اللافتة للنظر التي يمتلكها مؤلفا الكتاب، على تبسيط وشرح واستخلاص اعقد الامور والقضايا، والنتائج التي تنطوي عليها قضية العولمة Globalization وهي القضية التي كثر الحديث عنها فجأة ليس فقط على المستوى الاكاديمي، وإنما أيضا على مستوى اجهزة الاعلام والرأي العام والتيارات السياسية والفكرية المختلفة, ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن هناك الآن سيلا أشبه بالطوفان في الادبيات التي تتحدث عن هذا الموضوع, ولم يعد الامر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين وعلماء السياسة او المهتمين بالشؤون العالمية، بل تعدى الامر ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة والاعلاميين والفنانين، وعلماء البيئة والطبيعة,, إلى آخره, ولا غرو في ذلك، لان قضية العولمة لها من الجوانب والزوايا الكثيرة ما يثير اهتمام كل هؤلاء ولكن وسط هذا الكم الهائل من الكتابات عن العولمة، يكاد المرء أن يحار في كيفية الالمام بهذاالموضوع او فهم حقيقته، خاصة ان كل كاتب عادة ما يركز تحليله على جانب معين من العولمة، مثل الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي او الثقافي او السياسي او الاعلامي,,, إلى آخره, ولهذا أصبح يوجد الآن ما يشبه التخصص في تناول قضية العولمة، ومن النادر أن نجد مرجعا محترما يتناولها من جميع جوانبها، دون ان يكون ذلك على حساب المستوى العلمي او العمق في التحليل, بيد ان كتاب هانس بيترمارتن وهارالد شومان يجيء استثناء في هذا المجال، لأنهما استطاعا بجدارة ان يحيطا بقضية العولمة من جوانبها المختلفة ومن خلال رؤية عميقة، ثاقبة، موسوعية، واعية وذات نزعة انسانية نحن في أمس الحاجة إليها عند تناول هذه القضية,,,).
بهذه المقدمة التي كتبها أ,د, رمزي زكي يمكن الولوج الى عنصر مهم ورئيس في كتاب (فخ العولمة)، وهو قدرة المؤلفين على تبسيط وشرح واستخلاص اعقد الامور التي تتعلق بالعولمة.
فلقد تجاوزت العقول الآن مرحلة التشكيك في مدى التغييرات المذهلة التي ستطول الحياة البشرية جراء العولمة، وأصبحت رياح العولمة تهب على الكرة الارضية دونما استئذان، وبتنا نرى ونحن نعيش ثورة الاتصال والانفجار المعلوماتي الدنيا وقد بدأت تتشكل كقرية كونية، بل وأضحت الكثير من السلوكيات الاستهلاكية والاستثمارية والاجتماعية وغيرها وكأنها تأخذ قوالب موحدة,, بفعل تيارات العولمة التي لا تستثني أحداً، ولا تقف أمامها الاسوار, لقد انطلقت العولمة من اسارها,, ولا يملك انسان مواجهتها والقضاء عليها,, فلم يبق سوى العمل على كيفية التعامل معها، وكيفية تحويل الطاقات الكامنة فيها إلى فاعلية ايجابية، نحاصر بها السلبيات، وننمي قدر الطاقة ما يمكن ان نجنيه منها من ايجاليات.
والدكتور رمزي زكي الذي كتب هذه المقدمة,, هو الذي تولى مراجعة مادة الكتاب، وبالتالي فقد اتيح له معايشة النص بشكل عميق,, يفوق ما قد يتاح للقارئ العادي العابر,, الذي قد لا يتوقف عند كل كلمة,, بل قد يتجاوز صفحات وفصولا بكاملها,, بعد ان اضحت سمة العجلة جزءاً من نمطية القراءة تحت ضغط ثقافة الفضائيات, وعندما يبدي مُراجع المادة رأياً في النص، فإن أقل ما يتوجب هو الاستماع لهذا الرأي,, واحترام ما فيه من وقفات لانه يكون نتاجا لمعرفة اعمق لما بين الثنايا,, وبالتالي يبقى الاقرب إلى الصواب، إلى ان يتم تأكيد ذلك الفحص والاختبار,, أو نفي مافيه بالمدارسة والحجة والمنطق.
مجتمع الخُمس!!
يقود سباق النص في فخ العولمة إلى فرضية راجحة في ذهنية من سماهم البراجماتيين وهي ان 20% من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي.
ويشير الكتاب إلى ما يعضد هذا الرأي,, بما أكده عملاق التجارة (واشنطن سب) حين قال: لن تكون هناك حاجة إلى أيد عاملة أكثر من هذا ، فخمس قوة العمل سيكفي لانتاج جميع السلع، ولسد حاجة الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي، إن هذه ال20% هي التي ستعمل وتكسب المال وتستهلك,, ولربما زادت النسبة بمقدار نقطة او نقطتين,, ويعزز رئيس مؤسسة سان كما اشار المؤلفان هذا الرأي مستشهدا بمدير شكرته، إذ يقول: ان المسألة ستكون في المستقبل هي إما ان تأكل او تؤكل!!.
ويناقش الكتاب هذا الرأي عبر سؤال طرحه حول ما إذا كانت هذه الافكار مجرد تنبؤات تحمل صبغة الاسراف والمغالاة.
انتصار والت دزني!
وفي سباق الاقرار بسيادة المنهجية الأمريكية في التفكير على المستوى الدولي,, يتساءل المؤلفان: لِمَ استطاع اسلوب الحياة السائد في كاليفورنيا ان يغزو العالم؟ ولِمَ انتقد دزني على كل شيء آخر؟ ويتصل حديث المؤلفين بالقول: حقاً لعبت سعة السوق الأمريكية والقوة الجيوسياسية التي حظيت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وجدارة ادارتها للحرب الاعلامية ابان الحرب الباردة دوراً مركزياً,, ولكن مع هذا لا يمكن اعتبار هذا كله هو فقط العامل الحاسم، فالامر ببساطة هو ان ستالين اراد ان يكون القوة العظمى إلا ان ميكي ماوس قد تفوق عليه.
وفي حين يذكر الكتاب بعض التبريرات لما حدث,, يبرز تبرير بنجامين ر,باربير مدير مركز والت وايتمان في جامعة روتغيرز في ولاية نيوجرسي والذي يقول: ان سبب نجاح استعمار والت ديزني للثقافة العالمية يكمن في ظاهرة قديمة قدم الحضارة: إنها المنافسة بين الشاق والسهل، بين البطيء والسريع، بين المعقد والبسيط, فكل اول من هذه الازواج يرتبط بنتاج ثقافي يدعو للاعجاب والاكبار, أما كل ثان من هذه الازواج فإنه يتلاءم مع لهونا وتعبنا وخمولنا,, .
منهجية متواترة
اللافت للانتباه ان مؤلفي الكتاب اتبعا منهجية متميزة في بث قناعاتهما,, قوامها ضرب الامثلة البسيطة من خلال ممارسات حياتية عادية,, ويبدآن في السرد العادي,, ثم يدخلان إلى الايجابيات المتحققة من الممارسة,, وأخيراً يعبران الى الجهة الأخرى من الجسر حيث الصورة القاتمة,, والنتائج السلبية التي تترتب في شكل نتائج نهائية.
وقد فطن الكاتبان إلى ان كل معطيات الحياة العصرية تصب بشكل أو بآخر في صلب منهجية العولمة,, فتجدهما يتحدثان هنا عن سطوة الاعلام الفضائي، ثم يتحدثان هناك عن القرية الكونية، فيتجاوزان ذلك إلى البورصات، ثم التجارة الخارجية، ثم العمل في الشركات والبنوك,, الخ, كما تجدهما يحافظان على منهجية سرد الصورة الخارجية المباشرة للحدث، ثم تبعاته القريبة، وأخيراً آثاره الوخيمة,, باعتباره مظهراً من مظاهر العولمة,, والتي يتوجس منها منهج الكتاب ويشكك في كل معطياتها للبشرية المحتملة للبشرية.
فحول التشابك الاقتصادي بين دول العالم عن طريق المنظمات ذات الاختصاص أو الاتفاقيات والبروتوكولات، يشير المؤلفات الى ما حدث في العالم الصناعي، حيث يقول الكتاب: (,, ولفترة طويلة من الزمن لمس المواطنون في البلدان الصناعية ان النمو المطرد في التشابك الاقتصادي مع العالم الخارجي قد أدى فعلا إلى رفع مستواهم المعيشي أيضا, إلا ان الحال قد تغير في نهاية السبعينيات، إذ حدث تحول تاريخي في السياسة الاقتصادية المطبقة في اوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية، وهو تحول أضفى على الاقتصاد العالمي بُعداً جديداً,, فحتى ذلك الحين كانت غالبية البلدان الصناعية تسير في ضوء المبادئ التي صاغها الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز، كرد على الكارثة الاقتصادية التي اندلعت في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين, وكان كينز قد رفع الحكومة إلى مصاف المستثمر المالي الرئيسي في الاقتصاد الوطني، إذ أناط بها التدخل، عبر موازنتها المالية، في النشاطات الاقتصادية بغية تصحيح حالات البطالة والركود التي يفرزها السوق فإذا تميزت الحالة السائدة بالركود، فإن على الحكومات رفع الطلب الكلي من خلال زيادة الانفاق الاستثماري، وذلك تفاديا لانكماش النمو الاقتصادي, اما في الحالات التي تتميز بنشاط اقتصادي يفوق حجم الطاقات الانتاجية المتاحة، فإن على الحكومات تفادي التضخم وذلك من خلال استخدام زيادة الايرادات الضريبية، لتسديد ما ترتب عليها من ديون كانت قد مولت بها ما انفقته لمواجهة حالة الركود, ومن هنا فقد دعم الكثير من الدول على نحو انتقالي، تلك الصناعات التي كان يُعتقد انها الضامنة لتحقيق نمو اقتصادي سريع ولزيادة الطلب على الايدي العاملة, إلا ان هذا التصور اثيرت من حوله الشكوك، بفعل ارتفاع اسعار النفط في الفترة الواقعة من 1973م وعام 1979م ففي الكثير من الحالات لم تتمكن الحكومات من السيطرة على العجز في الموازنة ومن التحكم في التضخم, كذلك لم يعد في الامكانات بقاء اسعار صرف العملات في مستوياتها السائدة,,).
ويواصل المؤلفان حديثهما الذي يريدان ان يفضي في النهاية إلى النتيجة التي يعرفانها فيقولان: (,, فالتحرير، والليبرالية، والخصخصة: لقد غدا هذا الثلاثي هو الوسائل الاستراتيجية في السياسة الاقتصادية الاوروبية والأمريكية، التي أعلى من شأنها المشروع الليبرالي الجديد لتغدو أيدلوجية تتعهد الدولة بفرضها,,,, .
وبعد مضي فترة وجيزة على ذلك، لم تعد مجهولة هوية اولئك الذين سيتحملون في المستقبل عبء مخاطر الاسواق، فعلى وجه الخصوص في القطاعات المنتجة للسلع الكثيفة العمل البشري والتي تشغل كثيرا من الايدي العاملة غير المتعلمة او قلة من الكادر المتخصص، واجهت المشروعات من كل الاحجام المنافسة القادمة من بلدان الايدي العاملة الرخيصة الاجر, ولذا أضحت صناعة الاثاث والمنسوجات والأحذية والساعات اليدوية ولعب الاطفال مجدية في اوروبا الغربية والولايات المتحدة فقط، في حالة تحول اجزاء واسعة من الانتاج إلى الانتاج الآلي أو إلى العالم الخارجي,,), ويخلص المؤلفات الى النتيجة النهاية التي مؤداها: ان التخلي عن الانتاج الواسع للسلع الكثيفة العمل البشري، والتحول صوب الانتاج المعتمد على التقنية العالية، وصوب المجتمع الخدمي اصبح هو التطور الذي كان يراد منه تضميد الجراح التي سببتها المنافسة الدولية والانتاج الآلي, وفي الحقيقة لم يتحقق هذا الامل أبداً, فبالرغم من النمو الدائم لم يجد باستثناء اليابان عدد متزايد من السكان في كل دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي فرص عمل بأجر مناسب .
التجارة الحرة,, الوعد الكاذب
ويتعرض المؤلفان الى التجارة الحرة باعتبارها احد المعطيات الرئيسية للعولمة, ويقولان في هذا الصدد ان التبادل الحر للسلع عبر الحدود الدولية يؤدي، حسب ما يقوله دعاة التجارة الحرة حتى هذا اليوم، إلى زيادة الرفاهية لدى كل الامم المشاركة, ولتبرير هذا الادعاء يستشهد الجميع بنظرية التكاليف النسبية التي صاغها الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو في القرن التاسع عشر.
,,, وبعد مضي قرن ونصف القرن أكل الدهر وشرب على فرضية ريكاردو الاساسية, فاليوم لاشيء قادر على التنقل بالسرعة التي ينتقل بها رأس المال, فمن ناحية توجه الاستثمارات الدولية تدفق التجارة، ومن ناحية اخرى تحدد المليارات المتنقلة بسرعة الضوء اسعار الصرف الاجنبي، وكذلك القوة الشرائية للبلد المعني ولعملته إزاء باقي بلدان العالم, ومعنى هذا هو ان الفروقات النسبية في التكاليف لم تعد هي المحرك الدافع للمتاجرة لقد صارت العِبرة للتفوق المطلق في جميع الاسواق والبلدان في آن واحد, فحيثما تكون الشركات دولية النشاط قادرة على انتاج بضائعها في مناطق تتصف بتدني الاجور، وبخلوها من مدفوعات الضمان الاجتماعي او تكاليف المحافظة على سلامة البيئة، فإنها تخفض في الواقع التكاليف المطلقة التي تتحملها في سياق عملية الانتاج ولا يترتب على هذا الامر انخفاض اسعار السلع فقط، بل يترتب عليه انخفاض سعر قوة العمل ايضا.
والاختلاف ههنا ليس خلافا هينا ذا طابع أكاديمي تتجادل حوله المدارس المختلفة في النظرية الاقتصادية, فالسعي لاقتناص التفوق المطلق غيّر على نحو جذري الآليات التي يتطور وفقها الاقتصاد العالمي, فكلما كان الانتاج ورأس المال أكثر قابلية على التحرك عبر الحدود الدولية، كانت أقل خضوعا للحكومات تلك المؤسسات العملاقة، التي ترعب اليوم الحكومات وناخبوها على حد سواء وتجرد الجميع مما لديهم من سطوة: أعني الشركات العابرة للقارات, وبناء على احصائيات منظمة مؤتمر الامم المتحدة للتجارة والتنمية، UNCTAD فهناك ما يقرب من أربعين ألف شركة تمتلك مصانع فيما يزيد على ثلاث دول, ووصلت قيمة مبيعات المائة الكبرى منها إلى ما يقرب من 1,4 بليون دولار في العام الواحد, وتهيمن الشركات العابرة للقارات على ثلثي التجارة العالمية، ويُنجز ما يقرب من نصف هذه التجارة في داخل شبكة المصانع التي تعود ملكيتها إلى الشركة الأم, من هنا فإن هذه الشركات قد صارت محور العولمة والقوة الدافعة لها بلا انقطاع, وفي هذا كله تمكنها طرق الامدادات الحديثة وتكاليف النقل المنخفضة على توحيد مراحل الانتاج وتركيزها, فالشركات جيدة التنظيم الشبيهة، على سبيل المثال، بالشركة العملاقة Asea Brown Boveri )ABB( وهي شركة متخصصة في انتاج الالآت والمكائن وفي تشييد المصانع، والتي تمتلك ألف شركة موزعة على أربعين بلداً، تستطيع، عند الحاجة، تحويل انتاج كل سلعة تنتجها من بلد إلى آخر في غضون ايام وجيزة, وهكذا لم تعد البلدان المختلفة وشركاتها الوطنية هي التي تقوم بنفسها في المتاجرة دوليا بما ينتج في هذه البلدان من سلع، وهو أمر كان يمكن ان يتيح الفرصة للتفاوض او الاختلاف حول الحصص التي ستحصل عليها الاطراف الوطنية من الارباح المتحققة في التجارة الدولية، بل وبدلا من هذا صارت البروليتاريا العالمية هي التي تتنافس الآن على فرص العمل الضئيلة التي يتيحها لها الانتاج المنظم عالمياً.
ولا ريب في ان هذا التطور قد تسبب في القضاء على القواعد التي قامت عليها فيما مضى من الزمن الاقتصادات الوطنية: فمن ناحية يُعجل هذا التطور في توالي الابتكارات التكنولوجية وعمليات الترشيد على نحو غير معقول، الامر الذي يؤدي إلى ان تنمو الانتاجية بوتائر اسرع من وتائر نمو الناتج القومي الاجمالي, إن حصيلة هذا كله هو ما يسمى ب)Jobless growth(، اي نمو لا يفضي إلى زيادة في فرص العمل, ومن ناحية أخرى فإنه يغير توازن القوى بين رأس المال والعمل على نحو جذري, إن الأممية التي كانت فيما مضى من الزمن الشعار الذي رفعته الحركة العمالية، في مواجهة دعاة الحرب من الحكام والرأسماليين، اضحت الآن شعار الطرف الآخر, فالطبقة العاملة، التي لا تنتظم في الغالب الأعم، إلا في إطار وطني لا غير، تواجه شركات دولية تُسخر الانتقال إلى خارج الحدود للقضاء على كل ما يواجهها من مطالب, على ضوء هذا فلربما كان الوعد بزيادة الرفاهية من خلال التجارة الحرة صادقا بالنسبة للمستثمرين ولقادة الشركات, إلا انه يفتقد المصداقية بالنسبة لعمالهم والمستخدمين لديهم، وكذلك بالنسبة للعدد المتزايد من العاطلين عن العمل على وجه الخصوص, فبالنسبة لهؤلاء يفضي التقدم المزعوم إلى عكس المتوخى.
ومع مطلع التسعينيات على أدنى تقدير كان هذا المسار قد بدا جليا ولم يعد في الامكان تجاهله, ومع هذا فبدلا من ان تتخذ الحكومات الخطوات اللازمة للتخفيف من وطأته، راحت هذه الحكومات الآن تساعد على التعديل به, فأنشأت بلدان أوروبا الغربية السوق الاوروبية المشتركة، وأخذت، وفقا للخطة المسماة أوروبا 92 تُلغي، من لشبونة وحتى كوبنهاجن، تقريبا كل العوائق التي تمنع انتقال رأس المال والبضائع والخدمات عبر الحدود, وكانت الولايات المتحدة الامريكية وكندا والمكسيك قد ردت على هذه الخطوة، بأن قامت بدورها بتأسيس منطقة التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية المسماة بالنافتا )Nafta(، وبانضواء أمة المائة مليون مواطن ساكن إلى الجنوب من نهر ريو جراندا، يكون قد شارك، لأول مرة، بلد نام كبير مشاركة كاملة في هذا التكامل الاقتصادي, وفي الوقت ذاته كان هؤلاء جميعا قد بذلوا في إطار الجات قصارى جهدهم، للتعجيل في آخر جولة من جولات تخفيض الضرائب الجمركية، وهي الجولة التي أسفرت في ديسمبر 1993م عن رفع القيود عن الكثير من الخدمات ايضا، الامر الذي سهل المتاجرة الدولية بها كذلك.
وكان الاعتقاد السائد هو ان هذا كله سيدر على البلدان المشاركة الخير الوفير حقا وحقيقة، وسيرفع من المستويات المعيشية, وكان تقرير سشيني Cecchini، وهو دراسة اشتملت على ما يزيد على الألف صفحة كانت المفوضية الاوروبية في بروكسل قد اتخذتها في عام 1988 برهانا على جدوى اقامة السوق المشتركة، نعم كان هذا التقرير قد بشر بستة ملايين فرصة عمل جديدة وبتخفيض العجز في الموازنة الحكومية، بمقدار اثنين بالمائة وبنمو اقتصادي اضافي يصل إلى 4,5 بالمائة, وكانت بشارات من هذا القبيل قد رافقت إنشاء النافتا Nafta ومنظمة التجارة الدولية WTO إلا ان العكس هو الذي تحقق في الواقع, فالسوق المشتركة تركت الصناعة الاوروبية تترنح تحت ما أسمته صحيفة Die Zeit سياط المنافسة ، هذه السياط التي تسببت في اندلاع حركة ترشيد شملت القارة برمتها وبعنف لم يكن معروفا حتى ذلك الحين, وكانت حصيلة هذا هي ارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وزيادة العجز في الموازنات الحكومية ايضا, أما النمو الاقتصادي فقد كان أقرب إلى التباطؤ منه إلى التسارع.
خاتمة
وفي ختام هذا العرض السريع لكتاب (فخ العولمة) لا نجد افضل مما ذكره المؤلفان للتعبير عن خلاصة آرائهما فيما يقبل العالم عليه من (عولمة) حيث اشارا تحت عنوان (تصدع العالم) إلى نتائج ما يحدث بسبب العولمة في عالم اليوم قائلين:
(لقد أخذت تسود أرجاء المعمورة مدن شبيهة بأتلانتا من حيث التقنية العالية وعدم الاهتمام بالمشاعر الانسانية, ومع ان أرخبيل الثراء هذا قد صار يشد اجزاء العالم بعضها إلى البعض الآخر، إلا ان هذه الجزر ظلت اجساما غريبة عما يحيط بها من مجتمع, وتنطبق هذه الحقيقة على الدول التي لاتزال في مرحلة النمو ايضا، فما في هذه الدول من مدن شبيهة بمدينة كوالالمبور ليست في واقع الحال سوى قلاع للاقتصاد المعلوم, فالجزء الأعظم من العالم يتحول، خلافا لتلك الجزر، إلى عالم بؤس وفاقة، عالم غني ببضع مدن كبرى فقط وبأحياء فقر وجوع هي الأخرى كبرى ايضا، ويسكنها مليارات من البشر لا يسدون رمقهم إلا بالكاد).
المؤلف في سطور
الاسم : الدكتور هانس بيتر مارتين
تاريخ ومكان الولادة: ولد عام 1957م، في مدينة بريجنز النمسا.
الجنسية : نمساوية.

المؤهل العلمي:بدأ حياته التعليمية بارساله في بعثة دراسية إلى كاليفورنيا.
حصل على الدكتوراه في القانون والعلوم السياسية من جامعة فيينا النمسا عام 1984م.

الحياة العملية :1 عمل محرراً في مجلة الاخبار الالمانية ديرشبيجل من عام 1986م إلى عام 1999م وكان تركيزه في اثناء عمله هذا على اوروبا، وقضايا البيئة، والولايات المتحدة، وروسيا، والعولمة.
2 عمل مراسلا أجنبيا للمجلة نفسها في أمريكا اللاتينية في ريودي جانيرو .
3 عمل مديراً لمكتب المجلة في فيينا وبراغ.
عضويته في بعض الهيئات:
1 عضو مستقل في البرمان الاوروبي منذ يوليو 1999م.
2 عضو في مجلس ادارة جمعية السلام الأخضر.
3 عضو في جمعية العلماء الألمان.
4 عضو في المجلس الاستشاري لمجلة الرأي في لندن.
5 عضو في نادي روما.
نشاطه العلمي:
يعد الدكتور هانس من انجح الكُتاب الاوروبيين خاصة في مجال الكتب العامة، ونشاطه العلمي ملموس، وعلى هذا تعد كتبه ضمن اكثر الكتب الالمانية بيعا وذلك منذ عدة سنوات، وقد بيع من كتبه اكثر من اربعة ملايين ونصف المليون كتاب في جميع انحاء العالم، ولأهمية كتبه فقد ترجمت إلى أكثر من 27 لغة.
من مؤلفاته :
1 مناوبة العمل الليلية.
2 دراسة بيئية لوزارة الصناعة الوطنية (1985/ 1986م).
3 مشاركة في تأليف الأعمال الصحية 1981م.
4 الدواء المر، وقد طبع منه 72 طبعة ما بين عامي (1983م، 1996م)، وقد بيع منه اكثر من مليوني نسخة.
5 الطريق إلى الصحة، طبع منه طبعتان في عام 1989م، وفي عام 1997م، وبيع منه اكثر من مليون ونصف نسخة.
6 فخ العولمة الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، طبع 17 مرة حتى الآن منذ عام 1996م وبيع منه أكثر من 800,000 نسخة، وترجم إلى 26 لغة.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved