| الثقافية
أصبحت كلمة الثقافة مصطلحاً عاماً تنطوي تحت لوائه العلوم بشتى فروعها والمعارف المتنوعة والفنون على اختلاف ضروبها المسموعة والمرئية والحركية, وقد اشتقت كلمة الثقافة من ثقف أي صار حاذقاً فطناً.
وإدراكاً لدور الثقافة العربية في تماسك الأمة العربية والحفاظ على كيانها ودورها المهم والفعّال في الوحدة العربية، فقد سارع العرب بتوقيع معاهدة ثقافية كانت هي أولى المعاهدات العربية التي تم توقيعها في إطار الجامعة العربية، بعد ميثاق إنشاء تلك الجامعة 1945م، وقد تلا ذلك خطوات عديدة في هذا المجال من مؤتمرات للوزراء وندوات وغير ذلك سعياً نحو سياسة ثقافية عربية واحدة, ولاشك أن اللغة العربية هي أبرز محاور ثقافتنا العربية وأبرز مقومات الشخصية العربية مما يستوجب زيادة الاهتمام بها والحفاظ عليها وتضافر جهود مجامع اللغة العربية في هذا العصر الذي يوصف بعصر العولمة وعصر الاختراق الإعلامي.
إن الصراعات الثقافية والأيدلوجية التي تجتاح اليوم تفرض على أمتنا العربية والإسلامية اليقظة حتى لا يعصف بها بعيداً عن ثوابتها ويقذف بها في ركب التبعية باسم التقدم والحضارة وتحت تأثير الغزو الفكري, على أن الحرص على الحفاظ على هويتنا الثقافية المتميزة واعتزازنا بها لاينبغي أن نتخذه ذريعة للانغلاق وإيصاد الأبواب, لانريد أن نحصر انفسنا وأن نقف جامدين أمام خيارين لابديل لهما وهما ثقافتنا التقليدية وحدها ورفض كل جديد تحت ستار الحفاظ على الهوية الثقافية، أو الارتماء في أحضان التبعية الثقافية ونبذ تراثنا الثقافي بدعوى أن من أراد أن يتقدم فلا يلتفت خلفه، ولاينبغي لنا أن نتجه إلى المستقبل ووجوهنا متجهة الى الماضي لاتتحول عن الأمس والتغني به!
إن الجمع بين تراثنا الثقافي الأصيل الذي لاغنى عنه، والذي يضمن الحفاظ على هويتنا أمام العواصف الثقافية الغربية، والأخذ بأساليب التقدم والرقي الذي لايتنافى مع قيمنا ولايهدد ثقافتنا هو الذي يؤدي الى نهوض امتنا والرقي بثقافتنا وهذا مايمارس وإن كان كثير منا يغفل عن ذلك.
وللننظر ونتأمل إلى جانب من جوانب حياتنا لنرى أننا قد جمعنا بين الأصيل الذي لاغنى عنه وبين الوافد المستورد أو الدخيل الذي لاضرر منه بل ترجى من ورائه الفائدة، وعلى سبيل المثال تدرس في الجامعات اللغة العربية والتاريخ والقرآن والثقافة الإسلامية، جنباً الى جنب مع اللغة الإنجليزية والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم التي تفوق فيها الغرب ونأخذ عنهم وعن مراجعهم الآن.
كما أن نقدنا للحضارة الغربية وما بها من فساد وانحلال لايحول دون ركوب سيارة انتجتها إحدى الدول الغربية، وصفوة القول في ذلك إن الحفاظ على هويتنا الثقافية العربية ليست دعوة الى التقوقع على الذات، وان الدعوة إلى الأخذ بالأساليب التقنية الحديثة ليست هجراً لثقافتنا أو قطيعة لتقاليدنا الأصيلة.
علينا أن ندرك أن التقدم في ميادين الحياة ومجالاتها المتنوعة يقتضي النهوض والازدهار في مجال الثقافة بمعناها الشامل كي يكتمل التقدم ويكتمل بناء الشخصية العربية بملامحها الذاتية المتميزة.
وما من شك في أن أهم الأهداف التي ينبغي للأمة العربية أن تسعى الى تحقيقها هي تنمية الثقافة وتطويرها والحفاظ على هويتنا ولن يتيسر ذلك إلا من خلال إعطائها دورها الحقيقي ومكانتها المهمة في خريطة اهتمامنا، ومع العمل على أن يتاح لها البعد العالمي حواراً وتفاعلاً مع الثقافات الأخرى وفق أسس من التقدير المتبادل والفهم والوعي بأن التنوع ليس مدعاة للقطيعة أو حتمية الصراع.
إن الحرص على أن يكون غد ثقافتنا العربية أكثر إشراقاً وازدهاراً يغريني على أن أضع بعض الاقتراحات التي تسهم ايجابياً في تحقيق ذلك على النحو التالي:
أولاً: الاهتمام بالتراث العربي والإسلامي.
لاشك ان الاهتمام بالتراث العربي والاسلامي تحقيقاً وفهرسة ونشرا ييسر الانتفاع به ويحصن شبابنا إزاء الهجمات المستمرة التي تهدف الى ابعادنا عن جذور اصالتنا وثقافتنا، ويجب على المعاهد والكليات والجامعات استحداث مقررات تهتم بالتراث في شتى مجالاته، مع تشجيع اجراء البحوث في مجال التراث لنيل الدرجات العلمية العليا.
ثانياً: الاهتمام بالآثار العربية والإسلامية والحفاظ عليها وصيانتها وإنشاء المتاحف وإعداد المناطق الأثرية لاستقبال الزائرين وإعداد الأطالس الأثرية التي تحدد المواقع الأثرية مع عدم الاعتداء على تلك المناطق بالمشروعات العمرانية المختلفة.
ثالثاً: تشجيع التأليف والنشر وتيسير تداول الكتاب العربي وتخفيض أجور نقل الكتب وتشجيع إقامة معارض الكتب والاهتمام بالنشرة العربية للمطبوعات وتشجيع التعاون بين مؤسسات النشر والتوزيع في الوطن العربي.
رابعاً: في مجال الفنون هناك فنون مسرحية، مثل مسرح الطفل والمسرح المدرسي، ولاشك ان لهذه المسارح دوراً في تربية الذوق الفني وإرهاف الحس وتطوير الوعي الاجتماعي مع الحرص على ان تكون اللغة العربية الفصحى هي لغة الأداء وأن تكون المسرحيات التي تعرض هادفة وداعية الى الفضائل والأخلاق الحميدة والتمسك بالقيم الإسلامية.
كما يجب الاهتمام بالخط العربي والعناية به ورعاية الخطاطين المبدعين في هذا المجال الأصيل.
ولاننسى في هذا المجال الفنون الشعبية ومهرجاناتها، ومن هذه المهرجانات مهرجان الجنادرية الذي يهدف إلى التوعية التراثية ويستقطب اعداداً كبيرة من المثقفين والأدباء من داخل المملكة وخارجها وتعقد الندوات والأمسيات الشعرية والمحاضرات مما يسهم في إثراء الثقافة العربية ويزيد من التقارب بين الأدباء والمفكرين العرب ويتيح مزيداً من التعاون بينهم.
خامساً: اللقاءات الثقافية بين الجامعات العربية:
إدراكاً لدور جامعاتنا والتعليم العالي في التنمية البشرية وإعداد الشباب للمستقبل فإنه من الضروري ان تتعدد اللقاءات الثقافية بين جامعاتنا العربية في الأقطار المختلفة مثل الأسابيع المتخصصة والأيام الثقافية وقد اسهمت المملكة في بضعة أيام ثقافية منها ما كان في اقصى وطننا العربي غرباً في المغرب ومنها ما كان في أقصاه شرقاً في دولة الإمارات والهدف من هذه الأيام ان تحقق الجامعات العربية دورها في خدمة أمتها العربية ديناً وتقاليد وقيماً، وأن يزيد الارتباط العضوي الفعّال بين جامعاتنا ومتطلبات الأمة صوناً لثوابتها وتوفيرا لمتطلبات تنميتها، وقد تناولت هذه الأيام الثقافية، قضايا معاصرة مهمة مثل واقعنا الثقافي والعولمة، وقد تم عرض تجربة المملكة في مجال تطويع العلوم لخدمة الفكر الإسلامي حتى يمكن للمملكة أداء دورها القيادي ورسالتها لبناء الحضارة الإنسانية، كما دعت الجامعات السعودية من خلال تلك الأيام الى الاهتمام بتراثنا الثقافي والعناية به حتى نبصِّر شبابنا بدور اجدادهم وفاءً واعتزازاً بدور الأجداد المتميز حتى لاتستقطبهم التوجهات الحضارية المعاصرة الهادفة الى طمس معالم حضارتنا وإقصاء شبابنا عن ذاتيتهم الأصيلة, وعلى ضوء التجارب التي خاضتها جامعاتنا فإننا نقول بأمانة وصدق إن هذه الأيام الثقافية هي أحد المسارات المهمة التي يجب التأكيد عليها والتي تنم عن يقظة ووعي وحسن إدراك لما يتسم به هذا العصر، عصر اللاحدود، عصر الاختراق الإعلامي.
كانت تلك بعض المقترحات التي جادت بها القريحة وأنا أتابع في تأمل موضوع مستقبل الثقافة في العالم العربي وهو موضوع مهم للغاية، وقد أحسن القائمون على أمر مكتبة الملك عبدالعزيز العامة اختياره ليكون موضوع ندوة ثقافية عامة يشارك فيها عدد كبير من المتخصصين والأدباء والمثقفين من مختلف انحاء العالم، وما من شك في أن الثروة الحقيقية لأية أمة من الأمم تنحصر في البناء الثقافي الفكري المتواصل انتاجاً وإبداعاً والذي يتردد صداه في جميع جوانب المجتمع، على أننا مقتنعون اقتناعاً تاماً بأن الآراء السديدة والمقترحات والأفكار الطيبة لاتؤتي ثمارها إلا إذا تحولت إلى واقع نعيشه وسلوك نمارسه.
*وزير التعليم العالي
|
|
|
|
|