| العالم اليوم
الذي يغيب عن تونس كالمدة التي اشرت إليها امس خمسة عشر عاماً لابد وأن يلحظ التغيير الكبير الذي طرأ على البلد, سواء على صعيد المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، اضافة الى الانجازات التنموية العديدة التي لا يمكن حصرها في مقالة أو مقالتين لأن التراكم البنائي في النمو المتواصل منذ تسلم الرئيس زين العابدين بن علي يصعب مهمة المراقب الذي انقطع طويلاً عن متابعته، فيرى حجما وكتلة كبيرة من الانجازات، كنت احاور النفس عن الأسس والمنطلقات والامكانيات التي ساعدت الرئيس زين العابدين بن علي على تحقيق كل ما لمسته، خاصة وانه ورث تركة ثقيلة في بلد يتصور المرء أن امكانياته الاقتصادية قليلة، إلا ان كل تساؤلاتي وجدت اجابات بعد الخطاب الطويل الذي ألقاه الرئيس في صباح السابع من نوفمبر في الذكرى الثالثة عشرة للتحول، ولأن التونسيين يحتفلون بهذه الذكرى التي تشكل منعطفاً مهماً في تاريخهم الحديث، فقد دعوا العديد من رجال الفكر والصحافة والإعلام لمشاركتهم هذه المناسبة الوطنية التي تكتسب أهمية اخرى من تحويلها الى محطة يراجع من خلالها التونسيون ماحققوه من إنجازات ويحاسبون بأسلوب النقد الذاتي ما عجزوا عن تحقيقه، وبلا عقد او استعلاء تتم المعالجة من خلال ما يتضمنه الخطاب الذي يلقيه الرئيس في المناسبة.
واذا كانت الدول تحرص في مناسباتها الوطنية او في افتتاح اعمال الفصول التشريعية للبرلمانات على ان تكون البداية خطاب العرش للدول الملكية الذي يتضمن خطة وبرنامج العمل للسنة القادمة، وان يكون خطاب الرئيس في الدول الجمهورية، فإن خطاب التحول الذي دأب الرئيس زين العابدين بن علي على ان يكون الخطاب مراجعة لما تم في العام الماضي مع الاشارة الى القصور الذي يفطن إليه المتابع والمراقب السياسي من خلال تضمينه الخطاب جملة قرارات تنبه البرلمانيين لبحثها وصياغة قوانين لجعلها نافذة في السنة البرلمانية.
وفي الخطاب الذي القاه الرئيس زين العابدين بن علي في الذكرى الثالثة عشرة للتحول في 7/11/2000م فتح العديد من ابواب الأمل امام التونسيين فبعد ان رسم صورة واضحة المعالم للحاضر شكلتها المكاسب والانجازات التي تحققت على امتدادات سنوات التحول في كل الميادين والمجالات وبعد الاستماع للخطاب وقراءته ملياً وجدت الاجابات التي كنت ابحث عنها والتي اشرت اليها في البداية، فمن خلال الخطاب يستشف المراقب برنامجا لم يستثن قطاعاً او مطمحاً له علاقة بحاضر ومستقبل تونس إلا وتعرض إليه وعالجه بالنظرة الواقعية.
وبقدر ما شملت محاور الخطاب واقع تونس ومستقبله فقد لامست مباشرة مشاغل وتطلعات كل التونسيين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية والمهنية والفكرية والسياسية ذلك ان الاعتناء بالطفل وبمرحلة تعليمه ما قبل المدرسي كان في اهمية النظرة الى قضية العولمة والتحسب الى تداعياتها بالخطط الوطنية وبالآليات الناجعة التي استحدثها عهد التحول لتأمين المسار ومغالبة التحديات الى فرص للنجاح ولقد سجلت تونس في عهدها الجديد أكثر من انتصار على تيارات العولمة.
ففي الظرف الذي لم يتخط فيه معدل نمو الاقتصاد العالمي خلال العام المنقضي عام التحسن والانتعاشة نسبة 3% وتدخل في هذه النسبة اقتصاديات الدول السائرة على طريق النمو والصاعدة والمصنعة ظلت تونس تحقق معدل نمو سنوي بلغت نسبته 5,4% خلال المخطط التاسع الحالي وتطمح قطاعاتها الاقتصادية الواعدة الى مضاعفة هذه النسبة على غرار قطاع الخدمات, وتترجم معدلات النمو هذه حكمة القيادة وقدرتها على ترويض الصعاب وتحويلها الى عناصر اثراء لمكونات التنمية الشاملة,ولأن التنمية الشاملة في مفهوم عهد التحول كلٌّ لا يتجزأ، اختار الرئيس زين العابدين بن علي توخي الطريق الاصعب في وضع المخططات والأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتكمن الصعوبة اساسا في غزارة هذه الطموحات وتزاحمها.
لكن حجم العزم والجهد كامل سنوات التحول تجاوز الارهاصات وطوع الصعاب وحقق العهد الجديد سلسلة المكاسب والإنجازات التي أتى على اهمها الخطاب.
ولئن امتاز انموذج التنمية بثوابت وبقيم انسانية هي من صميم شيم شخصية الرئيس بن علي، فإن تميزه يكمن في شموليته وعدم مفاضلته بين ميدان وآخر.
فالصرح الديمقراطي الذي تم تشييده وظل الرئيس بن علي يتعهده بالاضافة وبالمبادرة الذكية على غرار تلك التي اعلن عنها في الخطاب اعطته عملية اسعاد واقحام مليون نسمة يقيمون فيما كان يعرف بمناطق الظل قيمة مضافة لها انعكاس مباشر على تعزيز قطب السياسة الاقتصادية والاجتماعية.
ولذا الخطاب البرنامج غذّى الآمال وشرع الأبواب للطموحات الجديدة التي تبررها سلسلة النجاحات وجاء لتفعيل خيارات المستقبل التي تضمنها البرنامج الرئاسي بما يؤمن دخول تونس القرن القادم بثقة راسخة في قدراتها وفي مؤهلاتها استنادا الى كل النجاحات التي تحققت في تونس.
وعلاوة على الانجازات والمكاسب الهامة والقرارات التي تفعل وتحرك النمو الاقتصادي وتدفع مجهودات التكامل والتطور الاجتماعي، والذي أوضح العديد من التساؤل الذي كنت ابحث عن اجابات عن كنه وسر التطور الذي حصل في تونس، حمل خطاب الرئيس زين العابدين بن علي توجيهات وتدابير لدعم وتطوير الاصلاحات السياسية التي كان لابد منها تفاعلاً مع المتغيرات المتلاحقة التي يشهدها عالمنا اليوم ولترسيخ الحريات العامة وحقوق الانسان وهذا الموضوع بالذات ثار حوله لغط كبير خارج تونس إلا ان ما تضمنه الخطاب من اجراءات ارى ومن خلال اطلاع وتدقيق ان الكثير من الدول وبالذات التي تنصب من نفسها مدافعة عن حقوق الانسان تخلو قوانينها واجراءاتها مما سنه بن علي في خطابه وبالذات مبادرته بتولي الدولة التعويض لكل من يتعرض الى الايقاف التحفظي ولا تثبت ادانته وجبر الاضرار لمن يعاقب بالسجن ثم تحكم المحكمة ببراءته.
اما قرار احالة السجون والمؤسسات العقابية واداراتها الى وزارة العدل، فاعتقد ان تونس تسبق بهذا القرار العديد من الدول الغربية ذاتها بالاضافة الى انها قد تكون الوحيدة من بين الدول الآسيوية والأفريقية التي تتخذ مثل هذا القرار الرائع.
هذه الاجراءات الجريئة لا تسكت اصوات المزايدين على حقوق الانسان فحسب بل تثري المكاسب المسجلة في مجال حقوق الانسان في تونس وتدفع العديد من الدول لحذوها ضماناً للعدل وصيانة لكرامة الفرد، الذي وجد استكمالاً من خلال توفير الضمانات القانونية للمساجين وتكريس مبدأ المساواة امام العدالة لكل المواطنين، اذن الرئيس زين العابدين بن علي قام بوضع مشروع قانون ينظم ظروف واقامة السجناء ويضمن حقوقهم مع توفير الاعانة العدلية لمن لا يستطيع بوكيل محام.
وفي قطاع الاعلام والصحافة جاءت القرارات التي تضمنها الخطاب تأكيداً واضحا لحرية التعبير وحرية الرأي اذ اعلن عن مشروع تنقيح مجلة الصحافة قانون الصحافة يقضي بحذف العقوبات البدنية وحذف ما تنص عليه تلك القوانين من تجريم لثلب النظام العام وهي اجراءات تقطع الطريق امام كل تأويل فيما يتعلق بالثلب وتلغي ما يحمله هذا المفهوم من غموض حتى لا يبقى أي عائق امام حرية التعبير وممارسة مهنة الصحافة.
هذه القرارات الجريئة والتوجيهات التي تضمنها خطاب التحول تجيب على اسئلة المراقبين عن سر النمو المستمر والمتواصل في تونس منذ تسلم زين العابدين بن علي قيادته، اذ ان البصيرة السياسية والقوانين التي تصدر بعد تمعن ودراسة تفرز مناخات تنعكس ايجابياً مع مجمل الاعمال الأخرى، ولعل أكثر القطاعات استفادة من المناخات الايجابية المشاعة في تونس هو الاقتصاد التونسي الذي تميز خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية بعديد الإصلاحات التي شملت جل الميادين والأنشطة بما غير جذريا هيكلة الاقتصاد التونسي الذي تحول من اقتصاد مسير ومنغلق إلى اقتصاد متحرر ومتفتح على الخارج, واصبحت نسبة 96 بالمائة من الإنتاج الوطني بعد ان الغيت تدريجيا حمايتها في منافسة مباشرة مع المنتجات الأجنبية.
وبالرغم من سنوات الجفاف تمكنت تونس من تحقيق نمو بمعدل 4,2% وهو ما يعد في خضم الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم إنجازا على غاية من الاهمية, ومن أبرز المؤشرات على الاندماج التدريجي والإيجابي للاقتصاد التونسي في الدورة الإقتصادية العالمية ما حققته الصادرات التونسية من تطور مطرد بلغت نسبته 8,7 بالمائة اي ضعف نسبة نمو الإنتاج.
وما انفكت التوازنات المالية تتحسن بفضل التنامي المتواصل للادخار الوطني الذي بلغ حاليا نسبة 22 بالمائة من الناتج الداخلي الخام مقابل 16 بالمائة سنة 1986 كما تم بفضل التحكم في التداين الخارجي تقليص نسبة خدمة الدين من 28 بالمائة سنة 1986 إلى 18 بالمائة سنة 1996م.
وشهدت كذلك التوازنات الاجتماعية تحسنا واضحا نتيجة احداث 50 الف موطن شغل سنويا خلال العشرية الفارطة وتكثيف المبادرات المتعددة لفائدة الفئات الضعيفة وحملات التضامن الى جانب التحسن المتواصل الذي شهدته القدرة الشرائية في إطار السياسية التعاقدية المتبعة في مجال الأجور.
وتمكنت تونس بفضل هذه الإنجازات من الانضمام الى البلدان الصاعدة والحصول على درجة البلد المستثمر من قبل وكالات الترقيم الدولية, والهدف المنشود اليوم هو المرور الى نسق نمو ارفع حتى تتمكن تونس في مطلع القرن القادم من الارتقاء الى مصاف الدول المتقدمة.
ومن ابرز ما تميزت به هذه السنة ايضا على الصعيد الاقتصادي اللائحة الاقتصادية التي صادق عليها مؤتمر الامتياز للتجمع الدستوري الديمقراطي باعتبار انها حددت الخطوط العريضة للخطوات التي ستنجزها تونس في هذا الميدان خلال السنوات القادمة ورسمت ملامح السياسة الاقتصادية التي من شأنها أن تهيىء دخول تونس القرن الحادي والعشرين تحت شعار العولمة والحداثة.
ولئن ستبقى هذه السياسة مستندة الى عدد من الثوابت فانها تتضمن بعض التغييرات المستوحاة من تجربة البلاد في المجال التنموي والتي تهدف الى إضفاء مزيد النجاعة والفاعلية على العمل التنموي والاستفادة القصوى من التحولات الجارية على الصعيدين العالمي والوطني.
وعلى مستوى الثوابت تبقى تونس متعلقة بمثلها الأعلى المتمثل في نحت مجتمع وسط متماسك تتقلص فيه الفوارق وتسوده روح التضامن ويقوم على تكافؤ الفرص,ولتحقيق ذلك وفي إطار تفتح الاقتصاد على محيطة الذي يمثل خيارا اساسيا للعهد الجديد تعمل تونس على إعادة توزيع الأدوار بين القطاعين العمومي والخاص حتى تتفرغ الدولة الى الحفاظ على التوازنات الكبرى والإشراف على القطاعات الإستراتيجية وتوجييها وتوفير الخدمات العمومية.
وقد انتهجت تونس في ها الإطار سياسة اقتصادية ومالية حازمة جلبت لها تقدير ودعم المؤسسات المالية الدولية, وستتواصل هذه السياسة بالخصوص من خلال تأهيل الجهاز البنكي والمالي وتطوير قدراته وتعصير آلياته.
كما تواصل تونس العمل على مزيد الإدخار الوطني والتخفيض في عجز الميزانية وتحسين مؤشرات المديونية بتقليص نسبة التداين ونسبة خدمة الدين والحد من كلفة التمويل من خلال خاصة تدعيم المزاحمة الفعلية بين مختلف المتدخلين.
وتتركز الجهود ايضا على مزيد التحكم في التضخم تهيؤا للتحرير الكامل للدينار الذي سيتيج مزيد استقطاب الاستثمار الخارجي وما يرافقه من تكنولوجيات واسواق جديدة وبالتالي إحداث مواطن شغل جديدة.
أما على مستوى الجباية ونظرا لتزايد حاجيات تمويل المجهود الإنمائي فقد أوصت اللائحة الاقتصادية لمؤتمر الامتياز بمزيد توسيع قاعدة الأداء وتحسيس المواطنين بواجبهم الجبائي مع الحد من الأنظمة الخاصة وترشيد نظام الحوافز ولاسيما المتعلقة منها بالامتيازات الجبائية والمالية وربط إسنادها بمدى مساهمة المشاريع في تحقيق الأهداف المرسومة في مجالي التنمية والتشغيل.
وينطبق نفس الشيء على صندوق التعويض الذي سيواصل تدخلاته في إطار تكريس البعد الاجتماعي لإستراتيجية التنمية من خلال المساهمة في المحافظة على القدرة الشرائية للفئات الضعيفة مع إحكام مزيد توجيه هذه التدخلات بما يكرس مبدأ الاحقية ومبدأ الأولوية في الانتفاع.
على هذه الأسس تبني تونس انموذجها للتنمية الاقتصادية المستديمة والمتناسقة والذي ستتمكن بالتاكيد بفضله من تحقيق تطلعات شعبها في مزيد الازدهار والتقدم.
|
|
|
|
|