| مقـالات
صنعت (انتفاضة القدس) انتفاضات اخرى رأينا بعضها وتفهمناها وأحسسنا بالبعض الآخر ولم ندرك معانيها وأبعادها.
ومن الانتفاضات التي صنعها الأطفال الأبطال في فلسطين (انتفاضة الجماهير العربية) التي دفعت الحكام للقمة ودفعت الأيدي للجيوب من أجل التبرع، وحركت الماكينة الإعلامية العربية لتواكب الحدث، وحررت إلى حد ما أجهزة الاعلام من الرسميات القاتلة.
ليس ذلك فحسب وإنما حولت تلك الجماهير العربية الحائرة المتوثبة بعض الزعماء الى إعلاميين وأبطالا للجماهير,, بالرغم من عدم تقديمهم أشياء كبيرة للقضية الى الآن، لكن الانتفاضة في داخل الوجدان العربي هزت الحياة العابثة المتواكلة في الشرق الأوسط فكانت (المخرجات) خليطا من الغث والسمين كما هي عادة الحركات والتحولات الجماهيرية عبر التاريخ.
نجح بعض الزعماء في استثمار المشاعر الساخنة وأخفق البعض وكان من أولئك المخفقين الزعيم ياسر عرفات الذي امتدح رئيس الولايات المتحدة الامريكية في كلمته في الوقت الذي تندد به وبدولته الجماهير العربية، بل بعض كلمات القادة العرب في القمة العربية الطارىء حملت امريكا مسؤولية تردي الأوضاع في فلسطين، وكان يمكن لياسر عرفات أن يجامل اشخاصاً قادرين على تغيير المعادلة وصادقين مع العرب لكنه أحجم في الوقت المناسب عن ذلك وأشرف في الوقت الذي لا يناسب مع رجل يلفظ آخر أنفاسه في الرئاسة على بلاده وهو يعمل في الوقت الضائع الى حين تولي الرئيس الجديد.
تستلهم (الجماهير المنتفضة) قناعاتها من الصور والكلمات والشعارات المؤثرة التي تبقى محفورة في أعماق وجدانها تدفعها للفداء والتضحية وهي قادرة على نقل مشاعرها الى بقاع متعددة، وقادرة على تغيير موجات اندفاعها من زمن لآخر والتاريخ يعرف ان الجماهير لا تخضع لنظام غير نظامها الذي تبتدعه لنفسها إبان هيجانها ولا تسمع لقيادات غير قياداتها التي ارتضتهم لتزعم مشروعها وإيصال رسالتها, لذلك ترضخ الدول والشركات للتفاوض مع زعامات العمال عند إضرابهم وقيادات الأحزاب عند مشاغبتهم بصرف النظر عن القناعة بهم.
الجماهير تحترم القوة وتنشد الزعماء الواضحين الذين يشبعون نفسيتها ويتحدثون بلغتها ويتألمون لآلامها ويشاركونها في طموحاتها، وهي حسب الدراسات المختصة لا تعير للعقل كثيراً من الاهتمام ولا تحسب للتوازنات الوطنية والدولية حساباً، كما أنها في نفس الوقت غير قادرة على التفكير المتأني المتزن, يقول المفكر الفرنسي غستاف لوبون (الجماهير بحاجة دائماً الى الأفكار الجاهزة) وذلك لأنها تحترق من داخلها ولكن غير قادرة على صناعة الحلول بل ربما ان نفسيتها الملتهبة عطلت عقلها.
من هنا فإن القادة التاريخيين الذين نجحوا في حشد الجماهير لإنجاز مشاريعهم النهضوية سياسياً أو دينياً او اجتماعياً او عسكرياً عرفوا كيف يوجهون الجماهير، وكيف يكسبون عواطفها، وكيف يرضون عقولها,, لتصبح لهم لا عليهم فحولوها من حشود غاضبة عليهم,, مُحطمة لصورهم الى حشود مصفِّقة لهم في الحياة باكية عليهم عند الممات.
الجماهير العربية المنتفضة اليوم استطاعت ان تحرز بعض الانتصارات، ولعل من أبرز ذلك دفعها بالقيادات السياسية الى التحدث بلغة أقرب الى تطلعاتها واستطاعتها حمل القادة العرب على عقد مؤتمر القمة الطارىء بمصر بالرغم من الجفوة بين القادة، ثم إنها استطاعت تشجيع الاعلاميين العرب على التفاعل مع القضية الفلسطينية باحتراف ومهنية وأعانتهم بوضوح على (تعليق) الرقابة الذاتية التي قتلت الكُتَّاب العرب منذ نصف قرن, ليس ذلك فحسب وإنما اعادت الانتفاضة الجماهيرية طرح الحل الإسلامي وهو (الجهاد) بعد الإحجام عن ذكره واستهجان اصطلاحه فضلاً عن الدعوة اليه ردحاً من الزمن.
عرّت (انتفاضة الجماهير) العربية شعارات السلام من مدلولاتها واصبح دعاة السلام نشازاً في المجتمع العربي,, علماً بأن الجماهير المنتفضة سارت من دون قيادة واضحة وتحت مجهر الحكومات والقيادات المتحفزة من اي عمل شعبي وجماهيري بصرف النظر عن أسبابه وشعاراته وشعائره.
احتكرت الحكومات التعامل مع القضية الفلسطينية ربما ليس بقناعة مُحررة او مدبرة، ولكن الواقع يقول أن التعامل مع القضية الفلسطينية كان (محتكراً) من قبل سلطات وحكومات وجهات لا تمثل الشعوب على حقيقتها بما في ذلك السلطة الفلسطينية التي تريد احتكار التعامل مع القضية,, بالرغم من الهزائم التي منيت بها مع عدم إنكار ان هناك بعض المزايا والانتصارات التي حققتها.
الجماهير العربية انتفضت وهي جاهزة لأعنف القرارات وأصعب الخيارات,, لكن الزعماء العرب أو لنقل بعضهم لم يتعاملوا معها بصدق وأمانة وذكاء بل ولا بدهاء وسياسة.
إن ما فعله مثلاً الرئيس اليمني علي صالح رفع قيمته لدى الشعب الفلسطيني ولدى شعبه ولدى مثقفي العرب وجماهيرهم,, لماذا؟ لأنه خاطب الجماهير بلغتها كما ان كلمة صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز في القمة العربية الطارئة بمصر استطاعت ان توصل رسالة صادقة من القلب الى الشعب الفلسطيني والى الجماهير العربية فكان لها ابلغ الاثر في نفوس الجميع بما في ذلك بعض المتحفظين على المواقف السعودية لسبب او لآخر.
الاستقراء للتاريخ يعطي المؤشرات الصادقة على إمكانية التعامل مع الجماهير، والعرب أقل الأمم تقديراً للجماهير وهو أمر محزن كما ان الدول العربية أكثر الدول تعسفاً معها وتشككاً في نواياها من دون مبررات مقبولة.
لم تتعامل امريكا مع الجماهير المتظاهرة ضد اتفاقية القات )GAT( في مدينة سياتل قبل عام بعنف بالرغم من عنف الجماهير وحجزهم لوزيرة الخارجية الامريكية لعدم تمكينها لحضور افتتاح المؤتمر بل استطاعت الجماهير إرباك حفل الافتتاح ومع ذلك كان التعامل مع الجماهير يتم بحنكة وصدق وقانونية وعلنية، وتصوروا لو حدث ذلك في بلد عربي، كيف سيكون التعامل مع تلك الجماهير؟
والحقيقة أن الجماهير قوة احتياطية وجيوش متطوعة تحتاج لها الدول والشعوب والأمم عند الأزمات، والجماهير العربية تسجل في بداية الألفية الثالثة أولى (انتفاضاتها) وهي القوة التي تخشى منها إسرائيل، والقوة التي سوف تحرر المسجد الأقصى، والقوة التي تحتاجها القيادات العربية إن ارادت الاستقلال والانتصار والاستقرار والازدهار.
|
|
|
|
|