| العالم اليوم
قبل أيام كنت في زيارة لتونس، ليست هي المرة الأولى التي احظى فيها بزيارة هذا البلد العربي الذي تشعر وأنت تدلف اليه ان له نكهة خاصة تحاول طيلة مكوثك فوق أرضه ان تعرف سرها فتحرك شذى ياسمينه وندى خضرته وطيبة اهله ينسيك كل ذلك وتظل تملأ رئتيك بشذى الطيب ونفسك بالاطمئنان وعقلك بعلم اهله فتمر الايام وأنت تتمنى ان تطول، إلا ان وراءك عملا والتزامات فتغادر وأنت تحلم وتمني النفس بالعودة, كل مرة أزور فيها تونس اشعر بالحنين إلى العودة إليها إلا ان آخر مرة زرتها قبل ان اعود إليها طالت فتجاوزت العقد ونصف العقد من السنين لأرى تغيراً,, وتطوراً أذهلني وافرحني فكل رقي لبلد عربي يفرح القلب ويزيد الهامة شموخاً.
وأنا أقول إن العودة لزيارة تونس اسعدتني كاصطلاح لفظي مختزل لما شعرت به,, بهذا التونس الجميل الذي يعرض الطبيعة كما خلقها الوهاب مع اضافة لمسات حضارية تعكس القدرات الابداعية لاهل تونس, فلذلك تحس فيها بالاصالة الحقيقية التي تنضح بها هذه البلاد مثلما تتفتق الوردة عن عطرها الاصيل، مشذبة بلمسة حداثية فتصبح كقنينة عطر يتعطر بها زوارها صباح مساء.
بلاد أنعم الله عليها بجبال خضراء وسواحل زمردية تمتد رمالاً تلتقي بصحراء يشع منها اللون الذهبي تتوسطها واحات تنصب داخلها وعلى حوافها اشجار النخيل الباسطات التي تثمر تمراً ذهبياً شفافا وبتداخل عجيب بين البحر والصحراء والجبل تتكامل لوحة بلد يغفو على ساحل البحر الابيض المتوسط حيث يعطي هذا التنوع الجغرافي تنوعاً مناخياً يصبح مرغوباً للاوروبين في الشتاء، فيصبح مشتى لهم ومصيفاً لأهل الخليج والجزيرة وباقي العرب، فيكون لهم مصيفاً لا يدانيه مكان آخر فالساحل الرملي الملتصق بالصخور الملونة بالاخضر والازرق يذكرك بصدور الحسناوات والاحجار الكريمة تلمع فوق صدورهن، وزرقة البحر الصافية الشفافة، تشدك للواقع لتعيدك لشفافية اهل تونس في صدقهم وتعاملهم ومع الاشجار التي تطوق السواحل وتربط الجبل بالبحر لتشكل حاجزاً من رمال الصحراء تتناثر منازل تونس التي تتميز عن المنازل العربية الاخرى بأسلوب معماري هو مايمكن اعتباره تجسيداً للسهل الممتنع معمار عربي قديم مصاغ وفق نمط حداثي يرتكز على تقديم اقصى درجات الراحة لساكنيه حيث يعتبر كل ساكن سلطان زمانه,, بيوت يغلب عليها اللون الابيض شبابيكها زرقاء تذكرك بروشن الحجاز وشناشيل بغداد ودمشق,, وأزقتها بأزقة الرياض القديمة,, لوحة معمارية تجسد اصالة المعمار العربي ذي اللمسة الحديثة دون اخلال او تخريب، تأكيداً للهوية العربية الاسلامية الاندلسية عبر الاقواس والشرفات والشبابيك وباحات المنازل وغرف الجلوس والنوم والنقوش والزخارف المعتمدة على الفسيفساء الاندلسي,, حضور هادئ وجميل للمدينة العربية الاندلسية الاسلامية وفق منظور رائع للحداثة دون صخب او طغيان مما يجعلك تتنفس ببط لملء جوفك بالنقاء وعقلك بالتأمل.
قبل أن أصل تونس سمعت وقرأت ان الرئيس زين العابدين بن علي اختصر مسافات كثيرة من الزمن لينظف وجه تونس الجميل من بعض البثور التي افرزتها تحديات العصرنة، فالصراع من اجل مواصلة التنمية ومواجهة امتدادات الفقر التي ابتليت بها دول جنوب البحر الابيض المتوسط والمتغيرات الدولية والتأثيرات الاقتصادية وسلبياتها الحادة لم تكن تونس بمنأى عنها، إلا ان زين العابدين بن علي الذي انتزع دفة القيادة بعد ان كادت السفينة ان تجرفها الامواج، اعاد الاتزان وواجه شطحات الداخل وضغوط الخارج كنت أرقب تونس من بعيد وطوال الخمسة عشر عاماً لم اعرف عنها سوى ما أقرأ وأستمع متابعا لأقوال وتحركات رئيسها، اعترف كنت اقول ان طموحات زين العابدين بن علي اكبر من امكانيات تونس، ومن حق الرجل ان يحلم وبلاد كتونس تجعل الرومانسية طاغية على افكار السياسة، إلا انني وبعد عشرة ايام من المعايشة والتوقف على الطبيعة وجدت ان حتى الطموحات الكبيرة يمكن ان تتحقق اما اجمل ماتحقق فهم التونسيون الذين اصبحوا اكثر نضجاً وزادت نسبة التعليم والتكوين المهني حضوراً ناضجاً يتمتع به هؤلاء الاشقاء رجالاً ونساء,, هدوء في التعامل الحضاري بأنفة ورقة ممزوجتين مع بعضهما البعض يعرفون متى يستعملونهما,, عمق في شخصية متوازنة تمثل حقاً كل الاصالة والمعاصرة في آن واحد.
قلت للاستاذ الهادي التريكي المستشار الاول لدى رئيس الجمهورية التونسية الرئيس زين العابدين بن علي، لم يسعدني ان قابلت رئيسكم صحفياً ولا اعرفه شخصياً، وليس من عادتي مدح الحكام,, ولكن ان كان هذا النمو الذي أنا خير من اقيمه بحكم فترتي زيارتي الاخيرة لتونس والزيارة الحالية بفضل طموحاته، واحلامه وارائه ومتابعته، واصراره على معالجة كل تركات وتجاوزات الماضي وقد نجح في مسعاه فهو اذن رجل يستحق الاعجاب والاحترام والتقدير الصادق وأدعو له بمزيد من توفيق الله، ان اراه بروح عربية اسلامية معتزة، وجهاً جميلاً لامجاد العرب التي تتحقق بنقاء القصد والسعي والاعتزاز بالهوية.
وإذ أشكر لك يا أخي الاستاذ الهادي التريكي ان اتحت لي هذه الزيارة بنقل دعوة السيد رئيس الجمهورية لحضور اعمال الندوة الدولية الثانية عشرة التي حملت عنوان التضامن الدولي وتحديات التنمية في القرن القادم، فانما اتحت لي ايضاً ان أتعرف عن قرب على ابعاد طموحات وأفكار الرئيس زين العابدين بن علي، الذي يطرح من خلال هذا المحور اسهاماً ايجابياً لمعالجة حالات الفقر والعوز التي يشكو منها العديد من الدول فبناء المستقبل على مرتكزات النهج العلمي يعد حاجة متأكَّدة ومدخلا من المداخل الرئيسية الى الحداثة باعتبارها تمثلاً لنموذج حضاري يرى التنمية مشدودة الى القدرة على تغيير التنظيم وتعديله تجاه الظروف، ويجد الابداع في ملكة المجتمع على التأقلم مع المتغيرات، ويعتبر التكنولوجيا أساس انشاء ادارة قادرة واقتصاد قوي وسياسة متنورة في ضوء نسق معرفي ومنظومة قيمية من جنسه.
فلا غرابة ان تضحي قوة الامم في مايتوفر لدى مواردها البشرية من قدرات علمية وتقنية، وكفاءات وطاقات ابداعية، وفي ما تربى عليه وتصاغ ذهنيتها من قيم العصر.
فرهان المستقبل في قدرة الذكاء البشري، وفي ما يتولد عنه من ذكاء اصطناعي، بيد أن الاستناد الى قيم ثقافية ومعرفية واخلاقية كونية في عالم اصبح بحكم الواقع قرية كونية والاستناد الى مرجعيات فكرية نحتتها البشرية على مدى تاريخها، سيجعل من هذه النشأة الكونية المستجدة، ومن مفهوم القرية الكونية بالخصوص اساساً لتمثل حضاري تتشكل بمقتضاه حياة البشرية المعاصرة على أخلاقيات التعايش في كنف السلم والامن والاستقرار، وعلى قيم التسامح ونبذ العنف وعلى الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وعلى التعاون والتضامن اساساً للتنمية.
وان قرية كونية تبنى وتزداد الهوة بين الشعوب والمجموعات وينتشر الفقر فيها ويتفاقم البؤس، لتحمل داخلها بذرة التوتر والتدهور.
وان قرية كونية يتواصل السير في جزء منها نحو مزيد التقدم والرفاء، وتتسع في اجزاء اخرى مظاهر المرض وتتفشى البطالة والامية، ويزداد فيها على عدد من الشعوب ثقل المديونية لتخلو من المقومات اللازمة لتركيز المنظومة العالمية المنشودة,
ان التنمية المتوازنة اساس القرية الكونية، وهي حق لكل شعوبها، وان توزيع ثمار التنمية على مختلف مناطق القرية احد مرتكزات القرية المتوازنة المتضامنة، وان القضاء على الفوارق على جميع المستويات من اكبر الرهانات المطروحة على ضمير الانسان مع مطلع القرن الجديد.
وما فتئت تونس على لسان رئيسها زين العابدين بن علي تدعو الى ابرام عقد رقي وسلام بين الأمم والشعوب، وما فتئت تتقدم اضافة الى ذلك بعدد من الافكار والمقترحات العملية لتحقيق التنمية المتضامنة بينها، ولمزيد من اضفاء روح التضامن والوعي الجماعي على العلاقات الدولية.
ورغم الجهود العالمية المبذولة التي ما انفكت تبذلها الهيئات والمنظمات الدولية عبر برامجها لمقاومة الفقر، فان ماتحقق لم يتجاوز عتبة 0 فاصل 2 بالمائة من الناتج الوطني الخام للدول المصنعة في الوقت الذي حددت قمة كوبنهاغن هدفاً لها بلوغ نسبة 0 فاصل 7 بالمائة وهو مايستدعي من الجميع جهداً أكبر ويدعوهم الى التفكير في صيغ تسهم في رفع تحدي الفقر ومناطق الظل في العالم، ولتونس في هذا الميدان خبرة، فصندوق التضامن 2626 الذي حققت به أبهى النتائج في مجال تقليص الفقر الذي تراجع من 22 بالمائة سنة 1975 الى 6 بالمائة سنة 1995، كان الشكل الذي به كسب الرهان، وان في انشاء صندوق عالمي للتضامن صيغة اضافية توفر حداً ادنى من التضامن بين الشعوب داخل المجتمع الدولي إذا تيسر العزم وتبلورت الفكرة وأخرجت الى الواقع.
هذه دعوة تونس، نداء رئيسها الى العالم، وهي تستقبل القرن الحادي والعشرين.
وقد لبت الجزيرة الصحيفة النداء لتنقل هذه الاسهامات الفكرية لرئيس تونس.
وغداً نتواصل
|
|
|
|
|