| مقـالات
نجحف أحياناً في حق الأفراد والمؤسسات وربما بعض الدول والمجتمعات عندما نفكر ونتصرف من خلال صور ذهنية سابقة تكتنزها الذاكرة أو تكرسها خبرات وتجارب مباشرة أو غير مباشرة عن هؤلاء الأفراد وتلك الجهات,, ولا نكلف أنفسنا جهداً ووقتاً في اعادة النظر والتفكير في هذه الشخصيات والأحداث وفق المستجدات الجديدة التي نواجهها على أرض الواقع,, أسوق هذه المقدمة تمهيداً لطرح موضوع بالغ الأهمية حول نجاحات واخفاقات الحملات التوعوية في المجتمعات,, وقد تداولت بعض الصحف وتعرضت بعض الأقلام لنقد في غير محله للحملة الوطنية للتوعية المرورية والأمنية,, وحيث قد تابعت كثيراً من هذه الأوجه النقدية لمجريات ونتائج الحملة فإنني أود ايضاح ومناقشة بعض المسائل الهامة في هذا الموضوع.
1 تفكير الأجهزة الأمنية في أساسه هو من منطلق الألم الذي يعتصر قلوب ومشاعر رجال الأمن سواء في القيادات الأمنية العليا أو على أرض الميدان وهم يواجهون يومياً فقداناً غالياً ونزيفاً مستمراً لأبناء هذه البلاد الغالية,, حوادث بشعة,, شباب يموتون,, مستشفيات تمتلئ بالاصابات,, وتصدعات أسرية,, ونزف مادي هائل في الممتلكات,, وخسائر باهظة في الثروات,, ولا يجب ان يقفوا مكتوفي الايدي ولا سيما ان جزءاً مهماً في معادلة الخسارة يكون طرفها الأساسي التهور واللامسؤولية والمحاكاة الزائفة والتي يمكن اختصارها إلى درجة وعي ضعيف من قبل فئات معينة في المجتمع تجاه هذه المسائل الهامة في جسد الدولة والمجتمع,, ومن هنا كان تفكير الأجهزة الأمنية ولا يزال وسيظل في الاستمرار في حملات التوعية الشاملة في كافة القطاعات الأمنية والمرورية وغيرها مما تحتاجه مختلف المؤسسات الأمنية في المملكة,, اذن فالهدف هو في درجة عالية جداً من الأهمية تصل إلى مستوى الضرورة الشرعية التي تستلزم حماية الأنفس والأعراض والممتلكات.
2 المفهوم الخاطئ عن الحملات التوعوية لدى بعض الكتاب والمهتمين وفئات من الجمهور العام ان هذه الحملة التوعوية ذات تأثير سحري ومباشر على اتجاهات وسلوكيات الناس,, ومن الطريف جداً في هذه المسألة ان بعض الكتاب كان يحاكم الحملة بعدم نجاحها وهي لم تزل في اسابيعها الأولى,, وبطبيعة الحال أنظر إلى هذا النوع من الكتابات والآراء من باب الحرص الشديد لدى هؤلاء الكتاب والمهتمين أكثر من كونه محاولة منهم للتشويش على مجريات الحملة وزرع احباطات مبكرة للقائمين عليها,.
وفي هذه النقطة بالتحديد أتذكر بحكم التخصص ما كان يدور قبل وبعد الحرب العالمية الثانية من آراء ومفاهيم وحتى أحياناً دراسات وبحوث كانت ترى في وسائل الاعلام قوة سحرية مؤثرة على فكر واتجاهات وسلوكيات الجماهير الاعلامية,, وتتدرج هذه المفاهيم تحت ما نسميه في النظرية الاعلامية بنظرية الرصاصة وأحياناً الحقنة وكانت باختصار تعني ان مجرد التعرض لوسائل الاعلام من خلال حملات سياسية أو اجتماعية أو توعوية ذات تأثير قوي ومباشر وسريع يشبه في ذلك أثر الرصاصة التي تنطلق من مكان المرسِل وتقع في المستقبِل وتكون مباشرة وسريعة وذات تأثير حقيقي,, ولكن عفا الزمن عن هذه النظرية وأصبحت نسياً منسياً وندرسها في مقررات النظريات الإعلامية كتاريخ فقط,, ولهذا فان من يعتقد ان الحملات التوعوية في مجتمعنا أو غيره من المجتمعات هي مثل تأثير الطلقة، فقد جانبه الصواب,, فالحملات التوعوية تحتاج إلى وقت حتى تترك أثرها المطلوب ليس فقط في مجتمعنا، بل في كل المجتمعات حتى المجتمعات المتقدمة,, فمفهوم الرصاصة لا ينطبق على الحملات التوعوية بأي شكل من الأشكال,, وهكذا فهذه الرصاصة لا تقتل، وهذه الحقنة لا تداوي كما يتمناها القائمون على الشأن الاتصالي.
3 لاحظت أن بعض الكتابات أخذت في تركيزها على الأحداث الاستثنائية أكثر منه الطابع الاعتيادي لتأثير الحملة,, فبدأت الأقلام تركز على حادث معين أو موقف معين وكأننا نحكم على نجاح الحملة من هذا الموقف الوحيد الذي صادف الكاتب وهو في طريقه إلى منزله أو عمله,, ونحتاج أن نقف بتمعن أمام كتابات المواقف والحالات الاستثنائية ولا نعطيها أكبر من حجمها أو نضخمها بحيث تؤثر سلباً على حجم النجاحات التي تتحقق على صعيد الجوانب الأخرى للحملات التوعوية.
4 يظل هناك فاقد غير ملموس في الدور الذي ينبغي ان تؤديه الحملات وهو عنصر الأسرة والمنزل في تدعيم أهداف الحملات التوعوية,, ولا يمكن النجاح في حملات ذات متطلبات وعي واتجاهات وسلوكيات لدى الأفراد دون أن يكون للأسرة دور فاعل في تحقيق أهداف تلك الحملات,, ومن هنا فإننا أحياناً نحمل الأجهزة الأمنية دور تربية أبنائنا ونحملهم مسؤولية أخطاء يرتكبها ابناؤنا وشبابنا، رغم أن الخلل في تربية الجيل تناط أولاً بالأسرة ثم المدرسة ثم المجتمع.
5 أعتقد بأن الحملة تحمل مؤشرات نجاح كبيرة على كافة الأصعدة,, فقد كانت هي الأجندة الوطنية الرئيسية خلال الأشهر الماضية,,
وهذا نجاح في فرضها على وسائل الإعلام وعلى تفكير الناس وتصبح مجالاً للنقاش والاهتمام,, ومن الخطأ التقليل من أهمية الحجم الاعلامي الذي استطاعت اللجان الاعلامية المركزية والمناطقية تفعيله ضمن خطط مدروسة وآليات تنفيذ محكمة,, فلا أعتقد بأن شخصاً مواطناً أو مقيماً لم تدركه أضواء هذه الحملة سواء كان في مدينة أو قرية أو حتى هجرة,, وهذا نجاح كبير يقدر للقائمين على الشأن الاعلامي لهذه الحملة الوطنية.
6 وحكما بما شاهدناه في مدينة الرياض فإن ملامح النجاح واضحة من جراء مؤشر ربط الحزام,, فنحن نشاهد نسبة عالية جداً من قائدي وراكبي السيارات متقيدين بربط الحزام,, وهذا مشهد حضاري لم يكن ليحدث دون نجاح هذه الحملة في اصعدتها المختلفة,, كما يجب الاشادة بالدور التوعوي الشخصي الذي يقوم به رجال الأمن من شرطة ومرور الرياض في مختلف الطرقات والشوارع,, وهذا فعلاً نجاح أكبر يحققه رجال الأمن في مدينة الرياض وربما في المدن الأخرى في المملكة,, والملفت للنظر في هذه الظاهرة التي تزدان بها مدننا هو مشاعر وأحاسيس الناس في قرب رجل الأمن منهم وهو يحاورهم ويناقشهم ويبتسم في وجوه الجميع في علاقة حميمية بين المواطن ورجال الأمن,, وأنادي باستمرار هذه الظاهرة لأمد ليس بالقصير حتى نتمكن من كسر حاجز الخوف أو التردد من لقاء أو مخاطبة رجال الأمن,, فما نلمسه من حضور أنيق لرجال الأمن في تقاطعات الطرق والشوارع يمثل اضافة ايجابية مميزة للحملة الوطنية للتوعية الأمنية والمرورية.
7 نظل ندرك تماماً ان الحملة لا تستطيع ان تحقق كل أهدافها بالحجم الكامل للمنجز المتوقع، ولكن المهم هو أن تكون هناك حملة تحقق على الأقل كثيراً من أهدافها وبتقديرات نجاح كبيرة,, وهذا ما حصل - والحمد لله - في حملتنا المستمرة,, ونظل نؤكد أهمية وجود هذه الحملات التي تكرس مفاهيم حضارية لدى الناس، وتنمي احاسيس ومشاعر وطنية تجاه المسؤوليات المناطة بنا جميعاً,, وتقوم وسائل الاتصال بشقيها الاعلامي الجماهيري والشخصي المباشر بتعزيز وتمكين هذه الحملات على مستويات عديدة,, ويجب أن نكون واقعيين في هذه المسألة، فلا يمكن أن نتوقع ان يتحول الناس جميعهم بانتهاء فعاليات الحملة إلى السلوكيات التي نتمناها,, فالحملات التوعوية في أمريكا وأوروبا على سبيل المثال تعمل على تغيير محدود يصل أحياناً إلى خمسة أو سبعة في المائة من السكان المعنيين في اتجاه موضوع الحملة,, ولكن مع التواصل تحدث عمليات التغيير,, ومع تفاعلات شخصية إلى جانب الدور لوسائل الاعلام يكون التغيير محققاً والأهداف منجزة بإذن الله.
وختاماً,, لابد من الاشادة والتقدير بالجهود الكبيرة التي يبذلها سمو الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية والذي تقلد وأُنيط به همُّ الأمن بمختلف مستوياته,, ولا شك ان سموه وفق توجيهات القيادة الأمنية العليا لهذه البلاد قد أعطى دعماً كبيراً لمختلف الأجهزة الأمنية في دور جديد ومفاهيم حديثة للتعامل مع المعطيات الأمنية في عصر حافل بمستجدات المعلومة والحدث والموقف,, ومن يعرف سموه يدرك تماماً معرفته وتقديره للدور التوعوي الذي ينبغي ان تقوم به أجهزة الاعلام في تدعيم وتطوير المفاهيم والبرامج والخدمات إلى كافة مواطني ومقيمي هذه البلاد,, وقد كان سموه الداعم الأكبر للأجهزة الأمنية التنفيذية في البناء والتخطيط والمتابعة والتقييم لهذه الحملات.
|
|
|
|
|