| مقـالات
قبل بضعة أيام كنت على شاطىء البحر بمدينة جدة, لقد استهواني منظر الشمس عند الغروب وحين بدأ قرصها يلامس وجه البحر عبر الأفق باتجاه القدس تعكر مزاجي لأن لونها ذكرني بدماء الشهداء الفلسطينيين، وامتد خيط من الشفق شبيها بالدخان الذي تخلفه القذائف الصهيونية,, يا للعجب: هل أصبحت الجرائم الإسرائيلية تسرق من أعيننا كل جميل وتغتال كل لحظة ممتعة؟! ثم غادرت المكان وحين وصلت إلى سكني أحسست برغبة في مشاهدة بعض البرامج التلفزيونية فإذا بمجموعة من الجنود الإسرائيليين يقصفون مدينة غزة، فانتقلت إلى قناة أخرى فإذا بمجموعة من المجاهدين يسعفون أحد المصابين، فهربت إلى قناة ثالثة فإذا بآلاف من المجاهدين يشيعون أحد الشهداء الأطفال، وهكذا أهرب من مكان إلى آخر ومن قناة إلى مكتبتي وطلبت فنجانا من القهوة لأنني عزمت على طرد هذه الكآبة بقراءة أي كتاب,, مددت يدي إلى احد الرفوف فعادت إلي بكتاب (أنا وكامب ديفيد) للإرهابي الصهيوني موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، فأعدته إلى مكانه وارتميت على فراش الطوارئ في مكتبتي ونمت سريعا في حيلة نفسية للتخلص من هذه الضغوط, وقد اصبح الليل ميعادا مع جملة من الأحلام المزعجة في الغالب فمنذ رأيت مقتل الطفل الشهيد محمد الدرة وأنا أحلم كل ليلة بأحلام متفاوتة في معقولية ما تعرضه علي من صور, فتارة أحلم أنني أشارك في حفل تحرير القدس، وتارة أحلم بأنني ضمن جموع تحاول اختراق صفوف من الجيوش والشرطة العربية كانت تمنعها من الوصول إلى فلسطين لأداء فريضة الجهاد، والكل في هذه الجموع يصرخ ويستغرب ويتساءل: لم كل هذا الحرص على أمن الصهيونية؟ أليست عدوة لكل الأمة العربية حكاماً ومحكومين؟ وتارة أخرى أحلم بأنني ممسك بطبق فيه من كل ما لذ وطاب وقد شرعت آكل مما فيه من طعام ثم استيقظ وإذا بي أمضغ طرفا من لحافي! وهكذا تتناوب منامي أحلام بعضها فيه شيء من السعادة وأغلبها مزعج ولكنه في حدود الواقع وليس تشويها له, لكن حلمي في هذه الليلة مختلف تماما,, انه مرعب جدا، فقد رأيت في ما يرى النائم أنني دُعيت إلى محاضرة تلقيها وزيرة الخارجية الأمريكية ألبرايت، وقد تجاوز بي الحلم ورحلة السفر من حيث المكان والوسيلة فوجدت نفسي في القاعة مباشرة وشاركت الجميع في انتظار المحاضرة,, وبين فينة وأخرى كنت أمشط قاعة المحاضرة بنظرات سريعة فشاهدت جميع زعماء العالم والشخصيات البارزة الأخرى وقد شخصت ابصارهم إلى الباب الذي ستدلف منه مادلين, وفجأة دوت القاعة بالتصفيق وأنا غافل أنظر إلى الكرسي الذي تجلس عليه مونيكا لوينسكي بجوار كلينتون وحين وقفت مونيكا انتبهت إلى ان الجميع قد وقفوا,, الكل وقف يصفق وقد فغر فاه وطفقتُ أشاركهم بصورة آلية,, الحضور جميعا فعلوا ذلك إلا مجموعة من الأطفال والشباب ظلوا جالسين، وبعد إمعان النظر عرفتهم جميعا,, إنهم شهداء القدس, كانوا ينظرون إلينا بحرقة وألم وما لبثت نظراتهم إلا لحظات حتى تحولت إلى نظرات احتقار وازدراء, بقيت المحاضرة واقفة لزمن خلته تجاوز الساعة,, سمعت أحد الزعماء يسأل عسكريا أمريكيا من رجال الأمن المنتشرين في القاعة إن كان بإمكانه أن يذهب إلى دورة المياه ثم يعود للتصفيق فصفعه صفعة حُسب صوتها ضمن التصفيق,, جلست المحاضرة وما كادت تفعل فجلستُ بدوري لكنني فوجئت بيد تهوي مسرعة باتجاهي وسمعت نفس الصوت الذي انطلق من خد ذلك الزعيم، وانتبه الجميع فلا أصوات أخرى, وفهمت السبب فعدت إلى الوقوف حتى أذنت لنا المحاضرة بالجلوس,, لكن ضميري بدأ يعيرني: ليتك تلقيت بدل هذه الصفعة رصاصة وأنت تجاهد في فلسطين! ليتك على الأقل رمقته بنظرة احتجاج فلست زعيماً مسعوراً على البقاء في الحكم حتى من دون كرامة، وليست لك سلطة سبق ان وظفتها لسحق شعبك فكرياً ومادياً وانتهاك حقوقه الانسانية وتخشى أن يفضحك الغرب باعلانها، وليس لك أموال سرقتها من قوت أمتك ثم أودعتها في بنوك الغرب وتخشى ان تجمدها الحكومات الغربية,, وليس,, وليس,, قاطعته قائلا: تهمة الإرهاب يا مجنون يمكن أن توجه حتى للأجنة,, فلقد أصبحت سلاحا للتدمير الشامل يمكن إطلاقه على كل إنسان ولأي سبب حتى لمجرد العبوس في وجه كلب أمريكي، ألا ترى أن معظم زعماء العالم ووزرائهم ممن تتطابق مصالحهم مع مصالح الصهيونية والاستعمار يرددن هذا المصطلح ولما يعرفوا مفهومه بعد، ويعتنقون التفسير والتطبيق الأمريكي لاستخداماته,, أسكت فقضية المدمرة (كول) وما سبقها من قضايا لم تنته بعد، ولا أظنها ستنتهي حتى لو تم القبض على منفذيها، لأن بقاء ملفها مفتوحا يوفر عامل تهديد قوي ستستثمره أمريكا لعشرات السنين,, إهدأ يا مسكين قبل صفعة أخرى، وبالفعل هدأ ضميري في الوقت الذي بدأت فيه مادلين محاضرتها,, كنت أظنها ستلتزم بالأساليب المتعارف عليها في محاضرات من هذا النوع، إلا أنها تصرفت كما لو كانت تعيد درسا على طلاب مهملين فقد استهلت محاضرتها بالقول: لكي تكون الامور والنقاط التي أمليتها سابقا واضحة ومفهومة سأسمح لكل شخص منكم بحرية السؤال: وتسابق الجميع فكان واحد من الزعماء أكثر الحاضرين تلهفا وإلحاحا فأعطته الفرصة الأولى,, قلت في نفسي: يا ساتر إن قلبه محروق وسيهاجم أمريكا وإسرائيل ويجني على نفسه,, ثم انتصب وقال: لديَّ قبلات حارة فأين أطبعها وقد علمت أنه لابد من ذلك؟
مادلين: أرأيت الحمار الذي شاهدناه على القنوات الفضائية وقد أطلقه المتظاهرون الفلسطينيون بعد ان رسموا علم إسرائيل على ظهره؟ لقد خدم القضية الفلسطينية في بضع دقائق افضل مما خدمتها في عشرات السنين,, احتمى به طفل فلسطيني من رصاص الجنود الإسرائيليين فحماه من القتل,, اذهب وابحث عنه وقم بالواجب تجاهه.
ووسط استغراب الجميع قاطعت ذهولهم وقالت: لا تستغربوا فقد تعودت ان أقول ما أريد، إنني صريحة جداً وقد ظلمني بطرس غالي عندما قال بأنني وقحة، والسبب في صراحتي هذه أنني واثقة بأنه ما من أحد يمكنه الاعتراض على إرادتنا أو التشكيك في نزاهة مقاصدنا.
وفجأة وقف الشهيد محمد الدرة بلا إذن منها وقال: بالتأكيد انك شاهدتِ مقتلي ومقتل رفاقي برصاص ذات تقنية أمريكية وصناعة إسرائيلية ولم تعترض أمريكا أو تمتعض,, أجابته ألبرايت بالموافقة، فواصل حديثه قائلا: أرأيت كيف كان ذلك الرصاص يسابق صراخي ويسرق نظراتي؟ وكيف كان والدي يخاطب الطلقات بعد أن جفت عواطف الطغاة؟ وكيف تسابق الطغاة على قتلي وأنا لا أجد سوى أسمال أبي أحتمي بها من الرصاص؟ أرأيت كيف اخترقت احدى رصاصات الإجرام جبيني وفجرت دماغي؟ وكيف كانت اصابعي تحاول الإمساك بالرصاصات داخل جسمي الواحدة تلو الأخرى وحين اصبت في مقتل واستقرت واحدة من رصاصكم في دماغي وضعتُ كفي البريئة على الثقب الذي خلفته في جبيني ثم أسلمت روحي للمنتقم الجبار؟ أرأيت كان أبي يقاوم الموت,, ينظر إليَّ وأنا مكبوب على ركبتيه ويتمنى لو افتداني بحياته؟ أرأيت كيف كانت والدتي تمزق من لحم قلبها وتسد هذه الفتحة في جبيني؟ ألم تري دموعها وتسمعي نحيبها مع الأمهات الفلسطينيات؟ أرأيت كانت إسرائيل تقابل تلك الدموع وذلك النحيب بالمدفع والرشاش والصاروخ؟ أرأيت كيف نثرت الأحشاء على ارصفة الشوارع؟ وكيف كانت النعوش تقطر بالدماء, أين ما تتشدقون به من عدل ومراعاة لحقوق الانسان؟ أين منظماتكم الإنسانية؟ أين جمعية أطباء بلا حدود؟ أين صحافتكم الحرة؟ أين الأمم المتحدة؟ أين التزاماتكم السابقة؟ ألا ترعون عهدا ولا تصونون وعدا؟ أين الأدب والفن الغربي من تصوير هذه الفظائع؟ أين دعاة السلام والحرية؟ أين السلام الذي وعدتمونا,, بل أين ضميركم؟ هل خلت نفوسكم من أي معنى للإنسانية وتحولت عواطفكم إلى جماد كتمثال الحرية؟ لماذا لا تخصصون جزءا من صولاتكم وجولاتكم تنصرون فيه الحق والعدل ولو مرة واحدة؟ لماذا تنكرون حقيقة أن العرب هم سكان فلسطين قبل العام 1917م؟ ألستم في أمريكا تدعمون الصهاينة في فلسطين لمجرد أنهم اغتصبوا فلسطين كما اغتصبتم أمريكا من أهلها الحقيقيين؟ هل عجز تقدمكم العلمي عن تحييد وعلاج هذه العقدة النفسية التي تدفعكم إلى دعم العنصريين أمثالكم، وإلى مزيد من قهر وظلم الشعب الفلسطيني؟ أليس شعوركم أيها الأمريكيون بأنكم مشردون ومهاجرون ومغتصبون ولا وطن لكم قد دفعكم إلى أفظع التصرفات العدوانية والتآمر مع أرباب العنصرية والجبروت والظلم والطغيان لإرهاب الشعوب وسلب إرادتها، والسعي لأن يكون العالم كله وطن للأمريكيين؟ أليس ذلك كله قد جعل أمريكا طرفا في كل عدوان تشنه إسرائيل علينا أو يحدث في أي جزء من العالم؟ ماذا لو أن الذي حصل لي حصل لطفل أمريكي ألا تشنون حرباً نووية؟ وأنت يا فخامة الرئيس كلينتون كيف تجرأت على إعلان قتل الضمير فيك وفي كل أمريكي بقولك إنني كنت في مرمى النيران؟ وكأنني كنت بين جيشين متحاربين، وأنت تعلم علم اليقين أنني كنت بين قلب أبي والجنود الإسرائيليين؟ وأنتِ يا صاحبة المعالي كيف تغتالين الحقيقة الناصعة والمشاعر الإنسانية بقولك إنني قُتلت برصاص طائش؟ وقد شاهدتِ وعلمتِ علم اليقين ان الجنود الإسرائيليين استهدفوني مباشرة وأن نظراتهم قد سبقت رصاصهم إلى جمجمتي, وقد سمع العالم كيف كان الرصاص يصطدم بصراخي واستغاثتي ومناشدة والدي للجنود الإسرائيليين بأن يسمحوا لي بالعودة إلى والدتي حيا, سلي أمي وأبي، ،سلي الرصاصات التي اغتالت براءتي كيف كان جسمي طفلا وجمجمتي سهلة الاختراق؟ وسلي شهود العيان كيف كان انسكاب دمي وانتثار لحمي وعظام جمجمتي في حضن والدي؟ سلي الأطفال الذين كنت أجري وألعب معهم، والأشجار التي كنا نجلس في ظلها، سلي فراشي ومخدتي، سلي مدرستي وفنائها، سلي كراستي وقلمي والصور التي رسمتها، سلي الطرقات التي أحبت طراوة قدمي الحافية، سلي عتبة بابنا التي لم أكن استطيع تجاوزها إلا بالقفز، سلي حضن ومهجة أمي وأبي، سلي الشعوب العربية، سلي أختي وأخي، سلي التراب الطاهر في القدس ومكة والمدينة أيمكن لآلاف السنين أن تمحو هذه الجريمة؟,, دعيني أعود إلى قبري فهو أكرم من حياة يذل فيها أشخاص مثلكم أحفاد الراشدين وخالد وصلاح الدين,, دعيني,, دعيني.
رأيتُ ألبرايت وقد انتفخت أوداجها غضباً ثم صرخت: لا تدعوه يموت الآن يجب أن يسمع إجابتي,, ثم هدأت وقالت بل اتركوه فسيرويها له واحد من الأطفال الإرهابيين أمثاله ممن سيلحقون به بعد هذه المحاضرة, فنحن لم نصل بعد إلى نهاية مسرحيتنا السياسية، ثم شرعت في الإجابة: إن جزءاً من هذه الاسئلة ينبغي ان يوجه إلى العرب أنفسهم مع أسئلة أخرى أضيفها وهي: لماذا وُجدتم في هذه النقطة من الكرة الأرضية؟ هل خلقتم لتكونوا حجر عثرة في طريق إسرائيل قلعة الديموقراطية والحرية والعدل والسلام وسط هذه الغابة الموحشة؟ لماذا لستم في الصين أو روسيا أو حتى وراء الشمس؟.
أما إجابتي بصدد ما يحدث في فلسطين والوطن العربي هذه الأيام فأبدأ بالتأكيد على أنكم أيها العرب لا تفهمون السياسة ولا تتعلمون من تجربة، إنكم متعبون حقا لقد عاقبناكم مراراً على سوء فهمكم لمقاصدنا، وعدم التسليم بحسن نوايانا، ومع ذلك فلا زالت غالبية الشعوب العربية تجرؤ على وصفنا بالإمبريالية وتتهمنا بالإرهاب والهيمنة,, قلة قليلة من العرب ترعى مصالحنا لكنها ستذهب بفعل سُنة الحياة والتغير ثم تخلف لنا ملايين من العرب الإرهابيين ونحن لا نريد ان تتكرر تجربتنا في إيران مع العرب فقد كانت لنا يد في إيران تحمل سوطنا على شعبها وجيرانها,, تحكم وتظلم في سبيل مصالحنا العريضة ومصالحها الضيقة المحدودة وحين ذهب صاحب تلك اليد اكتشفنا انه فشل في سحق كل توجه للمقاومة لدى شعبة قبل ان يشتد الخطر.
ولهذا السبب قررنا مباشرة مثل هذه الأمور بأنفسنا تجاه الشعوب العربية بالحرب المادية والنفسية,, إن العالم اليوم يمر بتغيرات عميقة ولنا مصالح في الوطن العربي والعالم يجب ان نتخذ بشأنها بعض الاجراءات.
|
|
|
|
|