أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 10th November,2000العدد:10270الطبعةالاولـيالجمعة 14 ,شعبان 1421

شرفات

شخصيات قلقة
محمد فريد يناير 1868م نوفمبر 1919
قصة حزينة عن شهيد في الغربة
هنالك نوع من التاريخ يمكن تسميته بالتاريخ العُرفي، أي ما يتعارف عليه الناس دون مراجعة، وهو تاريخ يظلم الكثيرين ويترك مئات الضحايا وراءه,, ومن أشهر ضحايا التاريخ العُرفي في مصر الزعيم الوطني محمد فريد الذي رحل غريبا عن وطنه وكأنه سقط سهوا بين بريق شهرة سلفه مصطفى كامل وخلفه سعد زغلول.
يأتي الخامس عشر من نوفمبر كل عام ولا أحد يتذكره بلمسة وفاء! رغم ان هذا الزعيم الذي يختصر دوره عادة في بضعة أسطر كان مسكونا بهاجس التاريخ,, ففي بواكير شبابه ألف كتابا عن تاريخ مصر وآخر عن الخلافة العثمانية، وكان من الممكن ان يستمر في حياته كباحث وقور جاد، منعزلا عن سخونة الواقع والحياة، لولا ان كانت واقعة محاكمة الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد.
لقد تم القبض على الشيخ علي يوسف مع توفيق أفندي كيرلس الموظف بمكتب تلغراف الازبكية لاتهامهما بأنهما افشيا أسرارا حربية تتعلق بوضع الجيش المصري في السودان إبان انتشار الكوليرا، وحرص محمد بك فريد وكيل النائب العام ان يحضر المحاكمة كمواطن مصري وليس بصفة وظيفية، وابدى تعاطفا وسرورا حين برأت المحكمة المتهمين,, وهنا طاش صواب الدوائر البريطانية فنقلت القاضي إلى محكمة أخرى ادنى في الدرجة، ولم تكتف بذلك، إذ عاقبت محمد فريد بالنقل إلى أقاصي الصعيد.
آنذاك لم يكن هناك موظف حكومي ان يقول للسلطات: لا,, لكن محمد فريد قال: لا,, وفي ثورة داخلية عارمة أعلن تمرده ضد الإنجليز واشياعهم وقدم استقالته من الوظيفة الميري، وكانت استقالة أحد صغار الموظفين حدثا قد يزلزل الحياة السياسية والاجتماعية آنذاك، ويكفي ان عدد المنتحرين وقتها كان أكثر من عدد المستقيلين من الحكومة,, من هنا تأتي أهمية استقالة محمد فريد لأنه لا أحد يتصور ان يستقيل وكيل النائب وابن الباشوات من منصبه,, لا أحد يتصور أن يضحي شاب بمستقبله اللامع والمضمون، فلو استمر بضع سنوات أخرى لأصبح وزيرا او محافظا او حتى وكيل وزارة.
لقد اتخذ محمد فريد بشجاعة وإباء الإجراء الأعنف وقرر ان يخلع ثوب الحكومة عن بدنه كي يواجه الإنجليز فردا,, لم يراع حتى تقاليد العائلات الكبيرة حين فضّل ان يعمل بالمحاماة وكانت آنذاك مهنة لا تحظى بالتقدير بين الأسر العريقة مخالفا رغبة الأسرة لدرجة ان والده احمد فريد باشا كان يتحسر على مستقبل ابنه لأنه فتح دكان افوكاتو! .
ان تكون حرا اول خطوة على طريق النضال,, ان تكون محاميا تدافع عن الضعفاء والحزانى اول خطوة للدفاع عن الأوطان الكسيرة,, ومع العمل عاد محمد فريد للكتابة بحرية وبمداد من شمس الحق، حيث اصدر مجلة رد الموسوعات مع زميله محمود ابو النصر المحامي، وراح يطلق مقالاته النارية ضد الاستعمار هنا وهناك ومنها إنجلترا وفرنسا بافريقيا روسيا في آسيا حرب الترنسفال وغيرها من المقالات, كما بدأ رحلات نضالية زار خلالها طرابلس وتونس والجزائر ومراكش وغيرها من البلاد التي تشارك الوطن نفس المصير.
وفي عام 1908م وبينما كان في الأربعين من العمر آلت إليه زعامة الحزب الوطني بعد الرحيل المؤلم والمفاجئ لمصطفى كامل، كانت زعامته للحزب لا تعني التربيط مع القصر او ممالأة الإنجليز وإنما كانت تعني إنصاف الفلاحين الذين ذبحهم الإنجليز في دنشواي، كانت الزعامة تعني المطالبة بالدستور لكنه قال قولة شهيرة وواضحة المعنى: أطالب بالدستور لكني لا أطلبه من بريطانيا! هذا العداء السافر ادى لاضطهاده واضطهاد الحزب وجرائد الحزب، لتأتي واقعة القبض عليه وايداعه السجن مضحكة ومبكية في نفس الوقت.
جاء شاب من دمياط للدراسة في الأزهر ويُدعى علي الغاياتي وكتب عدة قصائد وطنية ثم طلب من الزعيم الكبير ان يقدمها بقلمه إلى الجمهور وبالفعل رحب محمد فريد وكان مما قاله في المقدمة: ومما يزيد سروري ان شعراء الأرياف وضعوا عدة أناشيد وأغانٍ في مسألة دنشواي وما نشأ عنها، وفي المرحوم مصطفى كامل باشا ومجهوداته الوطنية، وفي موضوع قناة السويس,, ثم فوجئ محمد فريد بالإنجليز يقبضون عليه بسبب كتابة مقدمة الديوان بدلا من القبض على صاحب الديوان نفسه!!.
مهزلة ان يتم القبض على المحامي والقاضي السابق وسليل الأسر العريقة لمجرد انه كتب مقدمة لديوان شعر,, لقد ظن الإنجليز انه يمكن مساومته وهو في قفص حديدي إلا انهم فوجئوا به أكثر عنادا,, اكثر احتقارا لهم ولأذيالهم,, كان محمد فريد صداعا في رأس الاستعمار بسبب موقفه النضالي وقدرته على حشد الناس من حوله، وبسبب نزعته العلمية في قيادة الحزب، إذ لم يكن يكتفي بالخطب والشعارات وإنما يعد تقريرات موضوعية سنويا عن أحوال الوطن، سواء المدارس أو الفلاحون أو أحياء القاهرة التي تفتقد الإنارة ليلا.
أدرك محمد فريد بحدسه الثائر والقلق ان بريطانيا تتلكك له فقرر ان يهاجر إلى تركيا عام 1912م، وهناك عاش صراعا متوترا مع حكومة العسكر بقيادة أنور باشا، ولم يتحمل هؤلاء العسكر هذا الثائر المناضل الذي أتى إلى ديارهم غريبا كي يطالبهم بأن يعلنوا استقلال مصر، وهم بالمقابل يدبرون لغزو مصر من ناحية القناة إبان الحرب العالمية الأولى!.
كأن عسكر تركيا لا يختلفون عن عسكر إنجلترا، هؤلاء وأولئك لا يعرفون غير لغة القوة لقهر الشعوب,, ولا يملك هذا المتمرد الحالم إلا ان يحمل حقيبته ويرحل إلى مكان أبعد,, إلى اصقاع أوروبا ومجهول جديد.
في النرويج والسويد وسويسرا ولندن وألمانيا تجول محمد فريد يخطب بقلمه ولسانه عن الشعوب المقهورة,, يحتمل الفاقة والمرض والهزيمة والخيانة,, يحتمل انفضاض الأنصار طوعاً أو كرهاً يوماً بعد يوم,, ليبقى في هذا العالم البارد والفسيح وحده دون سند او أنيس يخطب سنويا في مؤتمرات السلام في استوكهولم وجنيف ولاهاي، وفي مؤتمر الأجناس المضطهدة بلندن، وفي المؤتمر الدولي الاشتراكي عام 1917م.
في هذا الوقت العصيب تحول العالم بأسره إلى كرة من نار إبان الحرب العالمية الأولى وكانت الدول الاستعمارية لا تبالي بحقوق الشعب بقدر ما تدافع عن اطماعها التوسعية, وبالتالي أزعجها صوت محمد فريد هذا الشريد الذي ترك المال والأهل والوطن الذي أزعج من قبل الخديوي والإنجليز والأتراك أيضا.
وشيئا فشيئا كان يتحول إلى شبح ويعاني الجوع والمرض والغربة وهو ابن الثراء والحسب والنسب كأنه أشبه بقائد فرقة موسيقية تخلت عنه فرقته لكنه لايزال مُصرا على العزف، وحين يصل بالمعزوفة الى قمتها ويشعر بالشجن والحنين يجد ألما في صدره ورأسه فيكابر ويستمر في العزف دون أن يشكو.
قمة الألم هي قمة الشجن في اللحن,, كأن الحياة وهم كاذب وأطياف ذكرى يعيشها هذا البائس,, أين منصب وكيل النائب العام؟ أين الثراء والبكوية؟ أين زعامة الحزب؟ طريد وبائس على أرصفة أوروبا ومع هذا لم يفته ان يرسل إلى سعد زغلول برقية تحية لقيام ثورة 19 وكأنه يقول لقد أديت الأمانة ليواصل من بعدي من هو أكثر قدرة مني,, ثم أسلم الروح في ميتة مؤسية وشعاره الوحيد نحن نعرف كيف نصبر على المكاره ولكننا لا نعرف النزول عن مطالبنا .
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved