| مقـالات
في المحاضرة التي ألقاها السفير السعودي لدى بريطانيا الدكتور غازي القصيبي في جامعة البحرين، ونشرتها الشرق الأوسط في عددها 7771 بتاريخ 8/3/2000م، بدأ المحاضر بمقدمات قوية تدعو للإعجاب حينما اعترف صراحة بمسئوليته عن الفشل في حملة الانتخابات لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو.
من خلال هذه المحاضرة، أكد الدكتور القصيبي على أن محاضرته ليست للاعتذار أو التبرير أو إلقاء اللوم على الآخرين,, أو الإيمان بنظرية المؤامرة, وفي مقدمته، يقول القصيبي: تعودنا، نحن العرب، في كثير من أدبياتنا السياسية أن نلقي اللوم، كله أو بعضه، على الآخرين أو على الظروف بعد كل هزيمة نمنى بها في الميدان السياسي الدولي , ويقول أيضا: الآن، بعد أن انتهت المعركة، وهدأ الغبار، يتعين علينا، نحن العرب، أن ننظر إلى ما كان لا بعين الاعتذار والتبرير، ولكن بمنظار التحليل والنقد، لنعرف لماذا انتصر من انتصر وانهزم من انهزم؟ .
وقد حاول المحاضر/ الباحث استقراء أسباب وخلفيات الفشل واستنتاج دروس يستفيد منها العرب في حملات دولية مماثلة, وحاول من خلال النقد والتحليل إعادة اكتشاف الحملة وممكناتها والاجتهاد في تأسيس نظرة كلية على نتائج بحثه وتعميم التجربة.
والمتأمل في موضوع الحملة يدرك فوراً أنها تشكل كما اعتقد مرحلة رئيسة في حياة الأمة العربية,, إنها كما يخيل لي تتزامن مع حقبة توجه امتنا نحو العولمة، والتأهب للانطلاق نحو استراتيجية جديدة تخرجنا من العزلة.
ولاشك في أن الموضوع يستحق البحث والمتابعة، حتى تتضح أبعاده، وتتبلور صورته في أذهان مخططي الحملات أولاً، وفي أوساط المعنيين بالسياسة الدولية ثانياً.
وعندما قررت أن اكتب في هذا الموضوع، أقدمت على ذلك مدفوعاً بقناعتي لاتساع صدر الدكتور القصيبي ونظرته العلمية من جهة، ولأهمية الموضوع في معاركنا الدولية القادمة والحملات الإعلامية والاقناعية المصاحبة لها من جهة أخرى.
وبالتالي فان هذه المقالة حينما تتناول حملة القصيبي بالعرض والتحليل والنقد، كما أوردها في محاضرته المنشورة، فإنما الهدف هو التركيز على المنهج والمتغيرات الرئيسة المرتبطة به, وهذا هو نقطة خلافي مع المحاضر، لأنه حاول اختزال عوامل نجاح الحملة في متغير واحد من خلال تحليل نقاط قوة المنتصر المرشح الياباني والإلحاح على إبراز أهمية ذلك.
والحق أن المحاضر اعتمد في عرضه وتحليله ونقده عقلانية الباحث وطموح المسؤول, فهو لم يتوقف ولم يستسلم,, بل تابع السير في استكشاف الأخطاء, ولكن كنا نتوقع أن تكون المحاضرة تحليلاً متعمقاً ودراسة لجميع متغيرات الحملة، وليست استعراضاً وتبريرات تتناقض في بعض جوانبها مع مقدماته في شكل صراحة بارعة حاول من خلالها المحاضر الدفع بنا بذكاء الى الاستنتاج معه أن الفشل يعود على الآخرين بما في ذلك نظرية المؤامرة التي شجبها بقوة في المقدمة.
وقبل الحديث عن المنهج الذي استخدمه الدكتور القصيبي، لابد من التوقف، أولاً بإزاء أربع تحفظات:
التحفظ الأول: إن عوامل نجاح الآخر لا تشكل وحدها سلاحاً ينتصر به كما يرى القصيبي, فلكل متنافس أو مرشح ظروفه, بمعنى آخر، الحديث عن أسباب نجاح المرشح الياباني تخفي بعض العناصر الأساسية لفشل المرشحين الآخرين.
التحفظ الثاني: ان الظروف الصعبة التي تلعب أحياناً أدواراً مختلفة في الحد، أو التقليل، من نجاحنا، إنما تكون لدى بعض المواهب وفي بعض الحالات حافزاً قوياً للصمود والنجاح, فالثقة في عوامل قوتنا الذاتية تستطيع في بعض الأحيان أن تعطل الحواجز التي تفرضها جهات خارجية.
التحفظ الثالث: ان أسلوب القوة والضغط، التي استخدمتها اليابان في إدارة الحملة، تعتبر وسائل مشروعة في الحملات الإقناعية السياسية وبخاصة إذا لم تصل إلى مرحلة الإكراه, فهناك في بعض الحالات فرق بسيط بين الإقناع والإكراه, فعندما نتحدث عن القوة، كإحدى الخصائص المهمة للتأثير الإقناعي، فإننا نتحدث عن القوة غير المباشرة وغير الفورية, ويبدو لي ان القوة بهذا المنظور هي التي استخدمتها اليابان للضغط والتأثير والحصول على الإذعان, لكن المحاضر بهجومه على أسلوب اليابان في إدارة الحملة اعتبر ذلك أسلوبا غير مبرر يتجاوز إطار الحملات الاقناعية, مع العلم أن ذلك يعتبر في صميم استراتيجية الحملة وإحدى الخصائص المهمة في شخصية مصدر الحملة كما سيتضح من خلال هذا التحليل.
التحفظ الرابع: إن استخدام منظور الآخرين في قضية حقوق الإنسان في المملكة كمبرر للفشل ليس أكثر من الإيمان بنظرية المؤامرة التي شجبها المحاضر ثم وقع فيها.
وقارئ المحاضرة، كما نشرت ينتابه الإحباط بسبب التفاف المحاضر على القارئ، وإيراده أدلة ومواقف تتناقض مع مقدماته بشكل صارخ، وبالتالي فالمحاضرة، في إطارها العام، في رأيي ليست إلا إلقاء اللوم على الآخرين والظروف.
وحتى يكون تحليلنا موضوعياً، سوف أعود الآن لتناول عناصر الحملة وقضية المنهج.
استخدم القصيبي ما أسماهمفهوم المخالفة في تحليل عوامل انتصار المنتصر وجعلها أسباباً لانهزام المنهزم، يقول القصيبيسوف أبدأ بالطرف المنتصر وأحلل العوامل التي أدت إلى انتصاره, وأذهب إلى أننا نستطيع بمفهوم المخالفة، أن نعتبر غياب هذه العوامل، أو بعضها، هو المسؤول عن انهزام المنهزمين .
وقد حاول المحاضر العثور على سلسلة أجوبة لعوامل متفرقة هنا وهناك,, ثم محاولة التنسيق فيما بينها قدر الإمكان كلما بدت متضاربة, ولكن المحاضر لم يتمكن في رأيي، من دمج هذه العوامل أو العناصر في نظرية واحدة أو إطار فكري واضح حول إدارة الحملات, بمعنى آخر، لم يقم المحاضر بربط فكري بين مايمكن أن نطلق عليه علمياً المتغيرات المستقلة التي يمكن معالجتها والتحكم فيها والمتغيرات التابعة.
ورأينا أنه من المستحسن أن نبني ما يسميه علماء الاتصال نموذجاً إقناعياً في إدارة الحملات ليكون مخططاً علمياً لتقييم الحملة بأسلوب علمي موضوعي، واستدعاء كل أو معظم المتغيرات الأساسية وإدراك العلاقات بينها.
لذلك حددنا فرص نجاح الحملة أو فشلها ليس بواسطة أسباب مصطنعة أو عشوائية، ولكن كعلاقة منطقية بين مجموعة من العوامل المستقلةعناصر الحملة ومجموعة من العوامل التابعةاتجاهات وسلوكيات الناخبين ، وذلك من خلال محاولة الإجابة على أربعة عناصر أساسية في إدارة الحملة باستخدام نظرية عالم الاتصال هارولد لاسويل:
من يقول ماذا لمن بأي وسيلة وبأي تأثير؟
وهذا السؤال الأساسي في نظرية الإعلام السياسي والإقناعي يلخص جميع جوانب الحملة من جهة، ويساعدنا على تحليل متغيرات الاتصال المهمة إلى عناصر يمكن إدارتها من جهة أخرى, هذه الأدوات أو العناصر يجب أن تكون في إطار فكري مترابط, بمعنى آخر، الأداة تتبع الفكر أو النظرية وليس العكس.
فالحملة، أية حملة ليست أكثر من مجموعة من الأنشطة الاتصالية لتعزيز نجاح المرشح, وأن أي نقص أو خلل في تركيبة العناصر التي تقوم عليها الحملة يعرض الفرصة للشلل ويعطل إسهامها في نجاح المرشح, والطريقة المتعارف عليها في تصميم استراتيجية الحملة تشتمل على تشريح العملية الاتصالية إلى متغيرات: المصدر أو القائم على الحملة، الرسالة، قنوات الاتصال، المتلقي المستهدف، مع عدم إغفال السياق الدولي في حملة كهذه.
ومن الناحية العملية، واضع الاستراتيجية عادة لديه سيطرة على العناصر الثلاثة الأولى ولكن استخدامها بفعالية في الحملة يعتمد إلى حد كبير على فهم واضح للمتلقين المستهدفين, ولأهمية هذه النقطة، وكما يقول إخواننا المصريون هات من الآخر ، سوف أبدأ بعنصر المتلقين المستهدفين.
ماهي الفئة المستهدفة لهذه الحملة؟ يقول المحاضر: هم صناع القرار في 58 دولة، ولا يتجاوز عددهم 300 فرد, المشكلة هنا أن صناع القرار هؤلاء يمثلون فئات مستهدفة موزعة على عدة قارات, مصممو الحملات والمخططون الاستراتيجيون يحاولون تجزئة الجمهور المستهدف للحملة إلى عدة فئات، وعندئذ, تصميم حملات موجهة لكل فئة تتجاوب مع طبيعتها وحاجاتها, فحاجات ومشكلات الدول النامية تختلف عن حاجات ومشكلات البلدان الأوروبية وغيرها من المجتمعات المتقدمة, ولذلك نحن نتكلم عن عدة حملات وليس حملة واحدة موجهة في وقت قصير للجميع.
ولأن واضع الاستراتيجية يأتي عادة من خلفية مختلفة عن الجمهور المستهدف، فان الاعتماد على التقدير الشخصي لا يعتبر كافيا لوضع الاستراتيجيات, لذلك فان جميع المعلومات عن حاجات الفئات المستهدفة له أهمية خاصة في نجاح الحملة, وإلى الحد الذي يفهم به واضع الاستراتيجية المتلقي المستهدف, تكون الحملة أكثر استجابة لهذه الحاجات, وقد أدرك المحاضر هذا المأزق حينما أكد أن نجاح الاستراتيجية اليابانية ارتكز على معلومات دقيقة، في حين كان المرشحون الآخرون يعملون في الظلام, ويقول المحاضر: ويقتضي الإنصاف، أن اقرر أن الحصول على معلومات دقيقة كان شبيها بالبحث ليلا عن ذبابة صامتة في قاعة يسودها الظلام الدامس .
وهذا الاعتراف الذي تفنن في قوله المحاضر يطرح الكثير من التساؤلات عن دور سفاراتنا العربية في الخارج, هل أن سفاراتنا في العواصم العالمية، بما في ذلك السفارة السعودية في بريطانيا، يتركز عملها فقط في بروتوكولات الاستقبال وإصدار التأشيرات وغيرها من الأعمال الإجرائية الفنية؟, ولذلك أقول إنه يجب إعادة النظر في استراتيجية أعمال سفاراتنا العربية في الخارج، لتكون مراكز للدراسات وجمع المعلومات عن المجتمعات الأخرى والتوجهات العالمية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو غيرها, هذه الدراسات والمعلومات من المؤكد فيما لو كانت متوفرة، أن تكون مفيدة ومهمة في حملاتنا سواء السياسية منها للمناصب الدولية أو الاقتصادية لجذب الاستثمارات العالمية, بالإضافة إلى أهميتها في الخطط الإعلامية المصاحبة أحياناً للتحركات السياسية.
النقطة الأخرى التي لابد من الإشارة إليها هنا هي ما يتعلق بالموقف الأوروبي كإحدى الفئات المستهدفة المهمة في إطار نظرية المؤامرة، التي شجبها المحاضر في مقدماته، نراه يستخدم هذا الموقف في إلقاء اللوم على الآخر حينما اعتقد أن هناك قرارا غريباً سرياً مسبقا بدعم اليابان.
ويناقض المحاضر نفسه عندما يقول باستثناء السويد,,, لم تعلن أي دولة في هذه الكتلة موقفها لا أثناء الحملة ولا بعدها خلال الدورة الأولى للانتخابات بل توزعت أصواتهم على المرشحين حتى تبين الموقف, ويؤكد هذا التناقض بقوله غالبية الدول في هذه الكتلة آثرت التريث حتى ينجلي الموقف، وعندما انجلى الموقف عن مرشح هو الأقوى، راهنت مع المراهنين على الجواد الفائز إذاً كانت هناك فرصة كبيرة لبناء المؤيدين المشاركين أو على الأقل المتعاطفين مع المرشح العربي خلال المرحلة الأولى للحملة السياسية، بدلاً من التركيز على كسب الخصوم.
وقد أثبتت الدراسات العديدة للحملات الانتخابية أن القليل من الناخبين يتحولون من أحد المرشحين إلى الآخر أثناء الحملة، والحملة الانتخابية هي بصفة عامة عملية تجميع المؤيدين خصوصا من الذين لم يحددوا مواقفهم أكثر منها كسب أو تحويل الناخبين من الخصوم.
أما ما يتعلق بالعنصر الأول من عناصر تخطيط الحملة، وهو المصدر أو القائم على الحملة، فلي رأي يختلف كثيراً عن رأي المحاضر.
فللقائم على الحملة دوره في نجاح أو فشل الحملة, الكثير من الحملات قد أخفقت بسبب عدم الاهتمام بالمصدر أو المتحدث باسم الحملة وصفاته التي يجب أن تتناسب مع موضوع الحملة, فليس كل شخص يستطيع أن يحدث الأثر المطلوب على المتلقين المستهدفين, واستغرب أن يؤكد المحاضر بأن شخصية المرشح ومؤهلاته ليست مهمة في الحملات الانتخابية!
يقول القصيبي: حقيقة الأمر أن شخصيات المرشحين لم تشغل أحدا سوى المندوبين الدائمين والصحفيين, اعتقد أن الغالبية العظمى من الدول صوتت استجابة لمصالحها الوطنية من دون أدنى اهتمام بشخصية المرشح أو مؤهلاته .
وإذا كان ما يقوله المحاضر صحيحاً، فإننا نستطيع في أي مناسبة أو منافسة دولية قادمة أن نأتي بأي شخص غير مؤهل وليس لديه الخبرة ونعطيه الدعم ليكون مرشحنا في هذه المنافسات, وهذا يعتبر مناقضاً لما أثبتته الدراسات العلمية في علم الحملات بخصوص أهمية المصدر أو القائم على الحملة في نجاح الحملة نفسها.
وبدون الدخول في تفاصيل الصفات العديدة التي يجب أن يتميز بها القائم على الحملة أو المتحدث الرسمي باسمها، أرغب أن أؤكد على عاملين حاسمين في التأثير الاقناعي للقائم على الحملة وهما: مصداقية القائم على الحملة والقوة التي يمتلكها.
وتشتمل الخاصية الأولى المصداقية على متغيرين أساسيين هما: الخبرة أو الكفاءة والموثوقية, فمصدر الحملة الخبير هو ذلك الشخص الذي يُدرَك بضم الياء وفتح الراء من قبل الجمهور المستهدف على أنه يعرف الموضوع بشكل دقيق، أو لديه القدرة على الإجابة عن استفسارات الجمهور المستهدف, وبصفة عامة تحدد الدراسات الاقناعية منذ أرسطو حتى الآن أن الشخص الخبير هو الذي تتوفر له بعض المؤهلات المهمة، مثل المستوى التعليمي العالي، التدريب ، الموقع الاجتماعي الرفيع والذكاء وغيرها.
ولانعتقد أن محاضرنا ومرشحنا تنقصه هذه المؤهلات الرفيعة، خصوصاً أنه من الذين يتقدمون مسيرة المجتمع المحلي والعربي في الفكر والثقافة والإبداع,, ومن الذين شغلوا مناصب رفيعة في بلادهم, ولكنني أود أن أشير هنا إلى جانب مهم قد لا يؤخذ في الاعتبار من قبل واضعي استراتيجية الحملة، وهو أن الخبير بالنسبة لمجتمع أو جمهور معين قد لا يكون خبيراً لدى مجتمع أو جمهور آخر, والسبب في ذلك هو أن المتلقي المستهدف هو الذي يدرك ويحدد هذه الخبرة للقائم على الحملة.
ولأهمية هذه النقطة في معاركنا الدولية القادمة، أقول إنه إذا كان مرشحنا العربي معروفاً بخبرته لدى بعض العواصم العربية، فقد لا يكون بالضرورة معروفا لدى الدول الآسيوية والأفريقية الأخرى أو الدول الأوروبية, هل صناع القرار في هذه الدول التي صوت أغلبها لصالح المرشح الياباني، يدركون خبرة وكفاءة مرشحينا العرب كما نعرفها نحن العرب؟! هل أصدر أي من المرشحين إنتاجه العلمي أو الفكري بلغات أخرى غير العربية ونشرت عالميا؟ ليس لدي إجابة على هذا السؤال.
الدرس الذي نستخلصه هنا، هو أننا إذا رغبنا أن ننافس على مناصب هذه المنظمات مستقبلا، فلا مندوحة عن تسويق قدرات كفاءاتنا إعلاميا على المستوى الدولي سواء من قبل الكفاءات نفسها أو الدول التي تقف خلفها.
وبالإضافة إلى الإلمام بالمعرفة الكافية والمؤهلات المطلوبة، تعتمد مصداقية القائم على الحملة أيضاً على إدراك الآخرين ان لديه دافعا كبيرا لإخبار الحقيقة كما يراها, بمعنى آخر، الناس يحكمون على القائم بالحملة كأقل موثوقية اذا كان يبدو قاصدا إقناعهم أو يكسب من مواقفهم, وتبدو أهمية هذا الجانب عندما لا يعرف الجمهور المستهدف مدى خبرة القائم على الحملة، وخصوصا اذا كان المطلوب إقناع الناخبين لتغيير اتجاهاتهم أو مواقفهم.
النقطة المهمة هنا هي أن القائم على الحملة ذا المصداقية العالمية اكثر تأثيرا عندما يكون المتلقي المستهدف معارضا لمضمون رسالة الحملة مسبقا, ومنافسة شرسة مثل حملة اليونسكو تحتاج إلى الإبراز الإعلامي لمؤهلات المرشح من غير تحيز أو مصلحة خاصة في محاولات التأثير على الناخبين أو صناع القرار.
الخاصية الأخرى الحاسمة التي أغفلها المرشح العربي هي قوة القائم على الحملة, المتلقي المستهدف يتأثر بواسطة القوة التي يدرك أن المصدر أو القائم على الحملة يمتلكها, يجب أن يعتقد المتلقي المستهدف في هذه الدول بان المصدر يستطيع فعليا السيطرة على مكافأته أو عقابه, كما يجب أن يدرك أن مصدر الحملة له رغبة في استخدام القوة للحصول على إذعان المتلقي.
وعندما ذكرت أن المرشح العربي أغفل منطق القوة كخاصية مهمة وحاسمة في الإقناع وكسب الأصوات، فإنما قصدت أنه ذكرها في محاضرته في سياق الاستغراب, فالمحاضر تطرق لأساليب ضغوط اليابان حتى على مستوى الرئاسة على بعض الدول لتعديل مواقفها أو التهديد بوقف العون عن بعض البلدان النامية وكأن هذه الأساليب غير مبررة أو غير عادية, مع أن أسلوب القوة يعتبر في قلب العملية الاقناعية.
ولأهمية هذه النقطة ودورها الحاسم في تركيبة الحملات الانتخابية سوف أتوقف عندها قليلا.
اختلف العلماء والباحثون في مجال الدراسات الاقناعية حول دور القوة والضغط في التأثير الاقناعي للحصول على إذعان المتلقي، وما إذا كانت أخلاقية أم لا, ولكنهم اتفقوا على أن هناك فرقا بين الإقناع والإكراه, فإذا كانت عمليات التهديد والضغوط مباشرة وفورية، فان استخدام القوة في هذه الحالة يعتبر إكراهاً وخارجا عن الإطار الاقناعي للحملات.
أما إذا كان هذا التهديد غير مباشر وغير فوري فهو يعتبر إقناعا ووسيلة مشروعة ومطلوبة في الحملات والضغط على المتلقين للحصول على الإذعان, فالقائم على الحملة لابد أن يدركه الجمهور المستهدف على أنه قادر على تقديم المكافأة وفرض العقاب, وبالتالي فان ما قامت به اليابان في حملتها الانتخابية من تهديد بوقف العون عن الدول النامية أو ضغوط أو تهديد بالانسحاب من المنظمة لا يمكن إلا أن يكون في إطار القوة غير المباشرة وغير الفورية, فالإنذارات بوقف العون عن بعض هذه الدول يتعلق بالمستقبل غير الفوري ، كما أن اليابان لا يمكن ان تضحي بمصالحها مع مختلف دول العالم بسبب هذه الحملة.
السؤال المشروع هنا,, هو ما هي حيثيات القوة المتوفرة للمرشح العربي، أي الدكتور القصيبي، التي كان يمكن استخدامها في إطار حملته الانتخابية؟ اعتقد أنه ليس من المبالغة في شيء أن نقرر أن المملكة العربية السعودية تتمتع بنقاط قوة سياسية واقتصادية معروفة دولياً كان من الممكن للمرشح العربي استثمارها,, لكنه لم يفعل، ولا أدري لماذا؟
العنصر الآخر المهم الذي طرحناه في نموذج الحملة الانتخابية والاقناعية هو ما يتعلق بالرسالة أو محتوى الحملة, لا أعرف طبيعة المحتوى أو الرسالة الاقناعية التي ركز عليها المرشح العربي أو المرشحون الآخرون، وذلك لمناقشتها بشكل موضوعي, فالمحاضر لم يذكر لنا نقاط أو محاور الحملة في محاضرته المنشورة، لكن على أية حال، هناك بعض النقاط المهمة التي أود التعليق عليها.
النقطة الأولى والمهمة هي أن تكون فكرة رسالة الحملة مباشرة ولا تركز على إجابة الانتقادات الجانبية,, وتكون لها علاقة مباشرة بحاجات ومصالح المتلقي الواضحة والضمنية.
فالقائمون على الحملات غالباً يحشرون معلومات كثيرة في الرسالة الواحدة، مما يؤدي إلى تشويش وإرباك المتلقين المستهدفين, التحليل ما قبل الحملة للجهات المستهدفة الدول يعتبر مفيداً جداً في تزويد واضع الاستراتيجية بفكرة أكثر دقة حول ماهي حاجات هذه الجهات وأنواع التأثيرات التي يجب أن تكون المحور الرئيس للحملة, وهذا ما أكده المحاضر في إشارته إلى أهمية التخطيط بعيد المدى للحملة، الذي يبدأ قبل موعد الانتخابات بسنوات, وهذا أيضا يؤكد مرة أخرى أهمية إعادة النظر في دور السفارات العربية في الخارج لتكون مراكز للدراسات الاستراتيجية بعيدة المدى عن المجتمعات الآخرى.
وفي رأيي أن هذا الدور للسفارات هو أحد عوامل قوة المجتمعات المتقدمة, فسفارات هذه الدول تقوم باستمرار بدراسة أحوال المجتمعات الأخرى وجمع المعلومات عن صناعة القرار فيها، وعادات وتقاليد شعوبها لاستخدامها في الحرب والسلم, ولا أخالف الحقيقة إذا قلت ان معظم سفاراتنا في الخارج لا يوجد بها محللون استراتيجيون وباحثون ومخططون وإعلاميون متخصصون في مجالاتهم.
النقطة الثانية المتعلقة بمحتوى الحملة هي أهمية عدم تركيز الرسالة فقط على النقاط التي يرغبها المصدر أو القائم على الحملة, بل يجب الاعتراف بأن هناك أفكاراً بديلة ومنافسة, وعندئذٍ، مواجهة هذه النقاط الخاصة بالخصوم من خلال دحضها أو على الأقل، التقليل من شأنها, وهذه بالذات مهمة عندما يكون المتلقي المستهدف مقاوماً ومعارضاً لتوصيات وأفكار واضع استراتيجية الحملة، ومن المحتمل أن يتعرض لرسائل معارضة أو ضغوط, وهذا ما يحصل بالفعل في حملة دولية كحملة اليونسكو.
من المعروف علميا، أنه مع الفئات المستهدفة المعادية أو الذكية من الأفضل ذكر ودحض وجهات النظر المنافسة وعدم تجاهلها, وعلى العكس، عندما تكون الفئات المستهدفة برسائل الحملة متعاطفة، فإن من الأفضل تجاهل نقاط الخصم، وبصفة عامة، الدحض يكون مطلوباً إذا كان الهدف ليس تغيير الآراء حول الموقف فقط,, ولكن لجعلها مقاومة لجهود الخصم.
وهذا ما يُطلق عليه التلقيح الإقناعي أي جعل الفئات المستهدفة أكثر مقاومة للإقناع المضاد,, وذلك من خلال تعريضهم لجرعة مخففة من المحاور/ النقاط المضادة للحملة بما يكفي لإثارة وسائلهم الدفاعية, أو من خلال جعلهم يلتزمون مقدما وعلنياً بموقف القائم على الحملة, هذا الالتزام العلني لا يجعلهم يقاومون أية محاولة للقوة والضغط فحسب,, وإنما مساندة الحملة من خلال محاولة إقناع الآخرين لدعم وجهة نظرهم, على سبيل المثال، لا الحصر، هناك مسألة حقوق الإنسان التي أثيرت أثناء الحملة وبعدها، كما ذكر المحاضر، سواءً من اليهود أو غيرهم، لم يتم التصدي لها في استراتيجية رسالة الحملة، بل، على العكس، استخدمها المحاضر كذريعة ومبرر لفشل الحملة، يقول المحاضر: السؤال الثاني: يتعلق بمسألة حقوق الإنسان, بعبارة أكثر صراحة، هل يمكن لمرشح سعودي الجنسية أن يحظى بالمنصب رغم تحفظات منظمات حقوق الإنسان على بعض الممارسات في دولته , ويقول أيضا: كنت في بداية كل لقاء مع كل مندوب غربي أساله هذا السؤال، وكان الجواب، دوما، أن هذا لن يكون اعتبارا داخلا في الحساب .
كان من الأفضل التصدي لنقاط الخصم في استراتيجية الحملة, فالتأثيرات الأخرى من المنافسين أو الخصوم تؤثر على استقبال وفعالية الرسالة, الحملة كان من المفترض أن تلقح المتلقين ضد نقاط الخصم، ولا تتجاهلها حتى يمكن بناء المقاومة لدى هذه الجهات المستهدفة, فالحملة كان يجب أن تهاجم بشكل مباشر هذه الصور الذهنية المغلوطة, فمن المعروف إعلاميا أن التعرض لأية حملة انتخابية لا يظهر في فراغ, وسائل الإعلام والاتصالات الشخصية قد تدعم أو تعارض فكرة الحملة والقائمين عليها, فمن خلال معايشتنا للواقع في المملكة العربية السعودية، وطالما أننا مقتنعون بأن حقوق الإنسان محفوظة ومصونة بدرجة لا يمكن أن نجدها في معظم مجتمعات العالم، فلماذا لا نكون واثقين من الترويج عنها إيجابيا في حملاتنا الدولية,, بدلا من انتظار الخصوم في إثارتها؟!
العنصر الأخير والمهم في نموذج الحملة هو ما يتعلق باستخدام قنوات الاتصال والاعلام, الحملات السياسية تحتاج عادة إلى الاستثمار في لعبة الإعلام، وبخاصة في الصحافة لاستخدامها كأطراف محايدة وكوسيلة ضغط وبالذات في المجتمعات الغربية الديمقراطية التي تشكل فيها الصحافة قوة لا يستهان بها على صناعة القرار.
إن النظرة العلمية المعروفة عن وسائل الإعلام قائمة على أساس أن هذه الوسائل ذات فعالية في تقديم المعرفة والمعلومة وربما أيضا في وضع الأجندة أو ترتيب الأولويات، لكنها لاتستطيع أن تقوم بدور فعال في عملية الإقناع وتغيير اتجاهات أو سلوكيات الناخبين, وبالتالي فإن الأهمية الرئيسة لهذه الوسائل هي ترتيب الأولويات وإبراز شخصية ومؤهلات المرشح والمحاور الرئيسة لحملته,, وليس ضمان أصوات الناخبين كما يرى المحاضر, فالمحاضر يؤمن بأن التغطية الإعلامية لهذه الوسائل كانت كلاما ضائعا في الهواء ,, أو كما نقول شعبيا كلام جرائد, ربما ينطبق هذا على مجتمعاتنا النامية التي مازالت تعطي للإعلام دورا هامشيا، ولكنه لا ينطبق على المجتمعات المتقدمة التي تلعب فيها الصحافة دور السلطة الرابعة, فاللعبة الدولية أصبحت ترتكز على الإعلام وتكنولوجيا الاتصال والاقتصاد بعد انحسار السياسة, واستغرب أن يقوم مرشحنا العربي بسؤال سياسي ووزير خارجية سابق عن رأيه في استخدام وسائل الإعلام,, مسقطا بذلك ركنا أساسيا من أركان الحملة الانتخابية.
وأنا هنا اتفق مع المحاضر في أهمية التأثير المباشر للاتصالات الشخصية على صناع القرار في الكسب النهائي للأصوات, فليس هناك شك في أن المتلقي يشعر بعلاقة أقرب لمصدر الحملة أو تحت ضغط منه عندما يكون حاضرا لإيصال رسالته شفهيا, ولكن هذا لا يلغي دور وسائل الإعلام وأهميتها, فمن خلال الأبحاث في سلوكيات التصويت، نستطيع القول أن هذه الوسائل قد لا تكون فعالة في تغيير اتجاهات الناخبين, ولكنها تستطيع إن تؤثر على أهمية الأشخاص المرشحين والقضايا المطروحة بطريقة غير مباشرة.
ويجدر بنا أن نلخص ما أوردناه في هذه المقالة، وأقول إنه من الصعب أن أزعم أن مفهومي هذا هو المفهوم الصحيح والصائب لتحليل جوانب الحملة، وأن مفهوم المحاضر ليس كذلك, والحق يقال إن الدكتور القصيبي كان، وما يزال، مخلصا في تكريس نفسه لخدمة قضايا العرب وللمعرفة بصفة عامة، ولكن أحكامه على بعض جوانب الحملة وأسباب الفشل كانت مبسترة وفي نفس الوقت جانبت الصواب بخصوص بعض مبادئ الإقناع والحملات الانتخابية, وتطور المحاضرة انتهى في رأيي إلى تكريس نظرية المؤامرة, كما نلمس فيها نزعة شديدة إلى التشاؤم من خلال تأكيدها بدرجة كبيرة على عدم إمكانية بلوغ الإنسان العربي لهذه المناصب الدولية, ومع أن المحاضر كان مدركا لكثير من الأبعاد الدولية للحملة، ولكن ذلك لا يعفيه من استفساراتنا عن موضوع مهم كهذا, وأعتقد أن آراء المحاضر قد تكون سديدة من الوجهة الاستراتيجية، لكنها أغفلت بعض المتغيرات التكتيكية التي كان من الممكن السيطرة عليها, وأعتقد أيضاً، أن ما أورده الدكتور يصلح لأن يكون مرشدا في السياسة الدولية، أكثر من صلاحه ليكون منهاجا في تخطيط الحملات الإعلامية السياسية.
|
|
|
|
|