| الثقافية
بدا في أيام مرضه الأخير كطفل عنيد يصعب إرضاؤه, إذ كان يود من زوجتها الشابة أن تبقى إلى جواره غير عابئ بما تبديه له من أسباب تجعلها تغيب عنه بعض الوقت لا تلبث بعدها أن تعود على عجل حتى لا تثير حنقه.
فشعوره بدنو أجله لم يصرفه عن التفكير بشكل متواصل بشأنها, تراوده أمنيات لايجرؤ على الإسرار بها لأحد.
فحيناً يتمنى أن يعتمر طويلاً حتى تهرم هي وحيناً آخر يتمنى أن تسبقه هي إلى العالم الآخر, هذه الأمنية الأخيره تبعث الطمأنينة في قلبه الهرم يخجله شعوره هذا أحياناً لكنه سرعان ما يجد لنفسه المبرر الكافي.
***
راودته فكرة شيطانيه حينما كانت غرفته تغص بزائريه لم يتردد لحظة في أن يعرضها على زوجته الشابة إذ استدعاها في الحال.
بدا في حالة من الترقب القلق.
سرت العدوى فيما يبدو إلى من حضر لزيارته في هذا الوقت.
إذ كانت عيونهم مفتوحة عن آخرها بانتظار ماسيحدث, جاءت هي في خطوات متعثرة تزيدها نظراتهم المترقبة خوفاً وفضولاً لمعرفة السبب الذي من أجله استدعاها.
اقتربت منه, مد لها كفين مرتجفتين لتحضن كفها الصغيرة, مظهره يوحي لها بأنه يريد وداعها حدست في ذاتها:
ربما أراد أن يؤثرني ببعض ماله نظير ماقدمته له.
وربما يريد أن يوصيني بأمر أولادي بعده, ربما, وربما, يجول كل ذلك بعقلها وكفها ماتزال تسترخي بين كفيه المعروقتين
ينتشلها صوته الواهن من افكارها قائلاً ونظراته ماتزال تحاصرها: لدي مطلب أخير سأموت مرتاحاً إن أنتِ وعدتيني بتحقيقه.
انبثقت لحظتها في زوايا ذاكرتها صورة أمها وهي تتلو عليها وصايا الجدات, نظراتها كانت تقول لها شيئاً تعبه تماماً دفعها للقول: سأفعل كل ما من شأنه أن يجعلك ترقد بسلام فأنا لم أرفض لك امراً قط.
جوابها شجعه على التصريح بما يريد قائلاً وهو يحاول أن يضغط على كفها بتودد: أنتِ تعرفين مدى حبي لك.
هزت هي رأسها مجيبة.
فيما أكمل هو حديثه: لا أريد أن أترككِ من بعدي, أريد أن تدفنين معي في قبرٍ واحد فأنتِ لي وحدي لن يمسك بشر بعدي.
صعقت لهول المفاجأة.
تسمع لحظتها بوضوح تام عقلها يرفرف بجناحيه وهو يبتعد, تعود لتبحث عن صوتها لكنه وكعادته يمارس هروبه في مثل هذه المواقف فتلوذ مرغمة بصمتها الصارخ.
تعزي ذاتها المهزومة بكلمات طالما سمعتها وقرأتها مراراً بأن السكوت يكون ابلغ في مواقف كهذه.
فيما يبتلع العجوز لعابه بارتياح مظهراً امتنانه العظيم يتمتم: السكوت علامة الرضى.
تتهلل وجوه من حولها فرحاً يصيح أحدهم مُكبراً فيها هذا الوفاء: يالها من امرأة ستتغنى الدنيا بسيرة وفائها قروناً قادمة.
يتهامس الآخرون تساورهم مشاعر الغبطة بهذا العجوز الذي بدا يلفظ آخر انفاسه.
***
فيما تستجدي هي دمع عينيها كدليل على رفضها الصامت لكنها لا تمنحها سوى غشاوة رقيقة تحجب عنها رؤية وجهه الآخر في الذبول.
***
وجوه الجدات تظهر سابحة في سماء الغرفة يتطاير من افواههن رذاذ الكلمات فيما يبدو بينهن وجه أمها أكثر إشراقاً.
جئن حتماً ليباركن فعلها الذي سيجعل حواء أعلى شأناً بلاشك
.
***
تشعر بقلبها يحاول التنصل من القيام بمهامه المعتادة.
تساورها مشاعر النقمة على كل من حولها حتى أعضاء جسدها فهي الأخرى تمارس تضامناً مع هذا العجوز, بتخليها عنها عضواً بعد آخر.
تدعك قلبها برفق تستحثه على الصمود لكنه هو الآخر يخذلها فتتهاوى إلى جوار العجوز الذي مات بينما لا تزال على فمه,, آثار ابتسامة غاربة.
فاطمة عبدالمحسن الرومي الرياض 5/6/1421هـ
|
|
|
|
|