| كتب
ويتواصل الأسلوب التربوي السهل,, والسلس في أي بنى ، بل ويتصيد الكاتب باحساس مرهف بعض العناوين الجاذبة لقارئه حين يختار مثلا عنوانا لاحدى فقراته في الجزء الثالث فحواه الحاوي ,, وما يحويه .
والحاوي الذي يمارس ألعاب خفة اليد لم يجيء كعنوان الا لشد الانتباه ومن ثم بث العمل التوعوي من خلال النص المكتوب اذ ترى المؤلف يقول للقارىء تحت العنوان مباشرة:
من خلال برامج الرياض عاصمة الثقافة العربية لعام 2000م تنعقد مساء يوم غد الأربعاء الامسية الرابعة من أمسيات ثقافية للكتب الأكثر مبيعا والاوسع انتشارا، والتي سيكون ضيفها معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر، حيث يتحدث عن كتابه أي بني .
والأمسية التي تم توجيه الدعوة اليها من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن فهد بن عبدالعزيز الرئيس العام لرعاية الشباب ورئيس اللجنة العليا لبرامج الرياض عاصمة الثقافة العربية لعام 2000م,, وستشهدها قاعة الملك فيصل للمؤتمرات في فندق الرياض انتركونتننتال,, تأتي بالتعاون مع مكتبة العبيكان بالرياض التي تقوم بجهد وطني وتفانٍ مميز تفاعلا مع اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية ومساندة منها لانجاح هذه التظاهرة الثقافية، حيث سيتحدث فيها الضيف عن كتابه أي بني بأجزائه.
وتفاعلا من الجزيرة مع هذه المناسبة,, تجيء هذه المساحة المخصصة لكتاب أي بني باعتباره من الكتب المهمة التي اكتسبت اقبالا واضحا في سوق مبيعات الكتب، وباعتبار الجهد المميز الذي بذله مؤلفه من خلال خمسة أجزاء جاءت جميعها عامرة بالمادة المقروءة ذات النفع والامتاع.
قصة العنوان
يشير المؤلف في مقدمة الجزء الأول من الكتاب الى ان جملة أي بني تعود الى ثلاثة وثلاثين عاما، حيث يقول: جملة أي بني التي ترددت في صفحات الكتاب، وجّهتُها في يوم 13 رمضان عام 1388ه، مقالة واحدة، في عمود في جريدة الجزيرة قبل ان يكون لي ابن، ثم وضعتُها فيما بعد في كتاب من حطب الليل عام 1398ه.
واشار الكاتب كذلك الى مقصده من هذه الجملة، مشيرا الى انه وجهها ,,قاصدا ابناء هذا الجيل الذي نشأ بعد جيلنا، ولم ير ما رأيناه، ولم يعان ما عانيناه, أردت ان افتح له نافذة، يطل منها على عالم غير عالمه، سبق عالمه في الزمن، وغايره في كثير من مظاهره, ثم يعود بنظره مرتدا الى حاضره، فيتبصر ما هو فيه، ويقارن ليرى الفرق الكبير، وأمّلت ان يدرك نعمة الله عليه ان أوجده في هذا الزمن، الذي توفرت له فيه وسائل مريحة، لم تكن متاحة لأبيه في اول حياته، ولا جده في كل حياته, وأصبحت رهن اشارته امكانات ضخمة طيِّعة، لم يكن ابوه أو جده يحلمان بها، ولو قيل لهما عنها لأنكراها، ولو نقل الخبر ثقة رآها رأي العين لظناها ضربا من السحر والتقمير .
منهج الكتاب
يقول المؤلف ان منهجه في تأليف الكتاب جاء على طريقة حديث المجالس ، ويبرر ذلك بقوله: ,,لأني نظرت في تأثير حديث المجالس في الناس فوجدته بالغا، ووجدت ان اصغاءهم كامل، وبهجتهم في الغالب طافحة وانهم كثيرا ما يتناولون ما يقال ويسيرون بمقتضاه، فطمعت أن يحظى ما سوف أكتبه بما تحظى به أحاديث المجالس .
ويواصل: ,,ولاحظت ان حديث المجالس يبدأ عفوا، ويأتي عرضا، ولا يتقيد بنظام ولا يخضع لترتيب او تسلسل، ولا يستقيم على مجرى واحد، ولا يأخذ منحنى بعينه، يستطرد المتحدث، ويخرج عن الموضوع الذي بدأ به حديثه، وقد يبعد ، ويشط، ويقفز من قول الى قول، ومن أمر الى أمر، وقد يعود من أي منحنى الى ما سبق ان بدأه من حديث، وقد يعود الى الاستطراد ثم الابتعاد مرة أخرى.
وقد يخلط بين جد وهزل، ووعظ وارشاد، وطرائف وغرائب، وقد يقاطع المتكلم من متحدث جديد، وقد يشد الناس حديث طريف، فيسكتون ويصمون وكأن على رؤوسهم الطير، وقد يتكلم اثنان معا، وقد يتكلم أكثر من اثنين في وقت واحد، وقد يختلط الحديث فيصبح المتكلمون مثل عصافير التينة .
لمن الكتاب
يشير معالي الدكتور عبدالعزيز الى انه يستقصد فئة معينة من خطابه، وانه اراد لهذه الفئة ان تستقطب رسالته فنراه يقول في جزء آخر من مقدمته:
هذا الجيل الراكض اللاهث هو الذي أخاطبه، ليقف ويلتفت خلفه، ويرى ما كان عليه أبوه، بمحيطه وآلاته ومعداته، ودوابه ومساكنه وعاداته،بافراحه واحزانه، وبآلامه ومتعه، بوجده وعدمه، بتفكيره وانطباعاته، ويقارن بين ما كان والده عليه، وماهو نفسه عليه، ويقول لما حباه الله به الحمد لله رب العالمين .
ويواصل معاليه : والامور التي يمكن ان يكتب عنها في مجال المقارنة بين الماضي والحاضر كثيرة وقد لا يسهل حصرها في كتاب واحد، والعزم ان يتبع هذا آخر بعد ان تتوافر معلومات تكفي لأن تبرز قائمة وحدها وهذا ما حدث بالفعل اذ توالت اجزاء الكتاب وكأن الكاتب قد عرف بعين الخبير ان في الجعبة الكثير والكثير مما يقال رغم دسامة ما ورد في الجزء الاول، ورغم ما اختزنه ذلك الجزء من أفكار ومعلومات وقصص وحكم.
جولة بين الثنايا
والكتاب بأجزائه حافظ على خط مستقيم فيما احتواه من خطاب موجه للناشئة من الشباب، كما حافظ على ان يظل وجه المقارنة بين ما كان وماهو كائن قائما على طول الخط، وليس الهدف بالطبع ابراز الفوارق لكن الواضح من النسق التربوي لأسلوب الكتاب ان الطرح يستقصد بث الوعي، وجعل الأبناء يلصقون بتراثهم، واستيعاب الحكمة والمعرفة بطرق لينة سهلة، والأهم، الاستفادة من تجارب وحكم الآخرين للبعد عن طرق المهالك، والنأي عن مهاوي السلوكيات السيئة,, ليكونوا قرة عين لآبائهم، وليصبحوا أعضاء نافعين في مجتمعهم.
كما ان الكتاب هدف من جانب آخر لاعطاء معلومة بسيطة وميسرة عن بعض ما نلمسه في جوانب حياتنا ولا نلتفت اليه ومثاله بعض النعم المهمة التي نتغذى بها مثلا كالحليب فنجد استاذنا يعرف قارئه بالحليب ومكوناته باسلوب بسيط ومشوق.
ومن خلال ذلك يبث الوعي في هذا القارىء بأهمية هذه النعمة، والجهد المبذول لكي يصل الحليب الى طالبيه بكل سهولة ويسر، وبدرجة عالية من السلامة الصحية، حيث تم توظيف الكفاءات والخبرات ليكون الحليب خاليا من الجراثيم، وبعيدا عن التلوث حفاظا على صحة شاربيه من اخطار الامراض والأوبئة.
ورغم ان المعلومات التي يبثها الكاتب قد تبدو أحيانا من البساطة وكأنها حديث عن بدهيات يعرفها الصغير قبل الكبير، الا ان المقارنات والاستطرادات غير المتكلفة واعطاء الصور الجميلة,, كلها عوامل تجعل من المعلومة مشوقة بل وذات نفع وفائدة لا يمكن نسيانها.
لننظر مثلا عندما اكمل الدكتور الخويطر حديثه عن الحليب كيف استطرد واخرج قارئه الى أجواء مفعمة بحبكة القص، حيث يسرّي عن قارئه بقوله:
وهذا الباب في الحليب، والحليب من البقر، ولا بأس ان اقص عليك قصة البقر,, كان هناك اثنان من جيل والدك يدرسان في القاهرة في الجامعة، وفي يوم من الايام كانا واقفين على محطة التراموي في شارع الروضة بالقاهرة.
والمحطة عادة بعيدة عن الرصيف قليلا، وقبل منتصف الطريق، ومعتلية قليلا عن الأرض وفي نهايتها عمود للنور، الذي يسرج بالغاز، وكانا يتجاذبان الحديث، عندما أقبل قطيع من الأبقار يقرب من الثلاثين، بقرة، او يزيد قد قرنت جميعها بحبل واحد, ومعها صبي يسومها سوء العذاب بالعصا, وظن الواقفان انها سوف تمر متوسطة الطريق، الا انها جعلت المحطة في منتصفها فأدركا انهما سوف يكونان في وسطها، ثم تحت أقدامها، لأن عمود النور الذي يقفان بجانبه سوف ينصفها فاضطرا ان يتسلقا كأنهما قردان الى اعلى عمود النور، وكان منظرا مزريا ان يفعلا ذلك بأناقتهما ومظهرهما المحترم، الا ان الحياة حلوة كما يقولون يا بني ولو كان بدون أرجل البقر ماتا لهان الأمر، ولكنهما تصورا الخبر عندما يصل الى أهليهما والتفت أحدهما الى الآخر ذاهلا، وقال: أليس الخبر بأننا متنا تحت عجلات رولز رويس احسن وقعا على اهالينا، من ان نكون متنا تحت أظلاف البقر، وقال الآخر: ان خبر الموت سوف ينسي أهلنا وسيلة الموت.
وأصبحت لهما هذه با بني ذكرى وما احلى الذكرى عن شيء مر.
لهذا كله يا يني عند كل صباح، وكل مساء نفتح فيهما باب الثلاجة، وبسهولة نخرج قنينة الحليب نظيفة معقمة نحمد الله ونشكره، واذا كان حمد الناس على معروفهم محثوثا عليه فنعم الله اولى بالحمد، وعن حمد من أسدى عليك معروفا اسمع ما أنشده ابن زنجي:
واذا اصطنعت الى أخيك
صنيعة فانس الصنيعة
والشكر من كرم الفتى
والكفر من لؤم الطبيعة
ويتواصل الأسلوب التربوي السهل,, والسلس في أي بنى ، بل ويتصيد الكاتب باحساس مرهف بعض العناوين الجاذبة لقارئه حين يختار مثلا عنوانا لاحدى فقراته في الجزء الثالث فحواه الحاوي ,, وما يحويه .
والحاوي الذي يمارس ألعاب خفة اليد لم يجىء كعنوان الا لشد الانتباه ومن ثم بث العمل التوعوي من خلال النص المكتوب اذ ترى المؤلف يقول للقارىء تحت العنوان مباشرة:
أي بني
عندما تسمع كلمة الحاوي لا تفرح، وتظن ان المقصود الدجال الذي يضحك على الناس بخفة يده، وخداعه للمشاهدين فهذا شيء يعجبك لأن فيه لهوا، واللهو احب اليك من الجد، لأن الجد فيه تفكير والتفكير عناء، وانت لا تحب العناء.
والتفكير يحتاج الى هدوء، وأنت لا تستطيع ان تبقى هادئا مدة طويلة وهذا فيه بعض العذر لك ولمن هو في سنك، لأن الله سبحانه وتعالى وضع فيكم النشاط في هذه السن ليساعدكم على النمو، الذي تأتي به الحركة وكأني بك تقول ما دام الأمر كذلك فلا تطلبوا منا ما ليس في طبيعتنا، واصبروا علينا حتى نبدأ نهدأ أي بعد ان يكتمل نمونا، وقد نوافقكم يا بني على هذا، ولكن نقول لكم لابد ان ننبهكم من الآن حتى اذا جاء الوقت لم يكن الأمر عليكم جديدا.
وأنا أحب منك النقاش يا بني، لأن النقاش أبواب تفتح بين سراديب النفوس المغلقة تعرف ما عندي واعرف ما عندك، وهذا أدعى للتفاهم لأن احتكاك الآراء وتقابل الافكار هو لقاح لها، ومجيء الثمرة لا يأتي الا بالالقاح وكذلك السحابة لا يهطل مطرها الا اذا ألقحت بما يهيىء لها هذه الامطار اما حجب ما عندي من أسباب وفرض النتائج عليك او قبولك لهذا وفي نفسك منه شيء، فهذا هو مدخل الخلل على التنفيذ، لأنك تقوم بخطوات ما أمرت به بدون ايمان، وهذا أدعى ألا تعتني به، وألا تتقنه وألا تعطيه من روحك ما يضمن نجاحه وهو أيضا مدعاة لان يهز ثقتك بي وبأسلوبي وليس أسوأ من الثقة اذا اهتزت وهو أيضا مدعاة لان تظن ان رأيك المخبأ افضل بحكم منك ولو عرضته لتبين لك من الخلل فيه ما لم يخطر على بالك.
ولكن للنقاش، يابني اسلوب يجب ألا يغيب عنك قوامه الأدب في الحديث، والرقة في تناوله، واستجلاب تجاوب المحدث، بدلا من تنفيره, يجب ألا يكون فيه رائحة الاستعلاء أو الجزم اذا كنت في موقع المتعلم ولا الاستخفاف بموقع المحدث ولا الاستهانة بما يبديه، مهما بدا لك فيه من ضعف وضع في ذهنك ان كل رأي محترم، لأن مصدره العقل، والعقل في الرأس وهذا تكريم من الله له بأن جعله في قمة جسم الانسان، ولم يضعه في قدمه, واعلم انه بالنسبة لصاحبه رأي سديد، واذا بدا لك أخرقا فعليك بالمعالجة الحسنة له، حتى يبدو خرقه لصاحبه، وكم من رأي كان صاحبه معتدا به فلما بصر بخطله بتؤدة وروية، وصبر وتحمل رجع عنه، وقد يخجل منه مستقبلا.
ولا تنس يا بني ان كثيرا من خيرة الصحابة قبل أن يسلموا كانوا يرون غير ما يرى الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم غيروا رأيهم بعد ان تدبروا الحجج والبراهين التي بسطت لهم بالحسنى.
وللقهوة مكان في التناول
وكما أشرنا فان الكاتب بأسلوبه التربوي، يقدم المعلومة البسيطة لقارئه حول ما قد يحيط به ولا يدري كنهه، فالنفس قد تعتاد رؤية الأشياء والتعامل معها لكنها قد تغفل التبحر في كنه هذه الأشياء خصوصا لدى الناشئة ممن لم تبلغ عقولهم مراحل النضج فيصبح تناول الأمور مباشرة أمرا مهما ليعرفوا أسرار ما يتعاملون معه في حياتهم.
والقهوة ,, احد المشروبات العربية التي لا يخلو منها بيت وهي تشكل جزءا من واقعنا الحياتي اليومي الذي نعيشه وقد لا نكترث له كثيرا ونحن نتناوله رغم ان هذا التناول يكون مصحوبا بالكثير من الممارسات الاجتماعية بل وان القهوة نفسها اصبحت جزءا مهما يصحبنا في بيوتنا ومجالسنا ومكاتبنا ورحلاتنا بشكل مستمر.
ويتناول د, الخويطر في احد أجزاء كتابه بعضا من حكايات القهوة فيقول:
يروى ان احدى القبائل نصبت خيامها كالمعتاد في احد المواقع المختارة، وكالعادة نصبت خيمة الشيخ على مرتفع، بعيدة بعض الشيء عن بقية خيام باقي الحي.
جلس الشيخ في احدى الأمسيات خارج الخيمة مع زوجته التي أخذت تعمل القهوة، بينما هو متكىء بجانبها وكان الجو بديعا، والسماء صافية، والنجوم تتلألأ والنسيم عليلا، والهدوء مخيما الا من صهيل حصان قريب يقطعه أو عواء ذئب تحمله الريح من بعيد، او نباح كلب ينبه به الى مرور عابر، أو ثغاء عنز جاء وقت حلبها او نطحتها أخرى، أو دق نجر صوت هاون يتفنن صاحبه فيه ويهدي به ضالا، أو يجلب ضيفا، أو يثير ذكرى لقد كانت كل هذه الأمور بمثابة لغات مختلفة وألسنة متباينة وكان سكون الليل هو الضحية.
وبدأ شبح ضيف بعيد يقترب وخلافا لما جرت به العادة من ذهاب الضيف أولا للشراع المعد للضيوف فان هذا القادم توجه الى مقر الشيخ مباشرة فأخرج الشيخ خنجره من غمده، ووضعه على ركبته، وقال لزوجته: سنرى فإن كان هذا القادم ذا شر فهذا دواؤه وأشار الى الخنجر المعد, وان كانت أعمته خرمة القهوة، فسوف يفطن الى سوء تصرفه بعد ان يشرب عددا من فناجينها فصبي له منها ما يروي ظمأه لها .
وصل الضيف، واتجه الى حيث هداه أنفه، اتجه الى رائحة القهوة، وتحركت اليد الكريمة تصب الفنجان تلو الفنجان، واليد العطشى تتناول وتشرب وتروي جوفا خاليا الى ان بدأ دبيب القهوة في العروق، وبدأ التشبع، ومثلما يستيقظ النائم، أو يطفو الغاطس، أو يلج الداخل، بدأ الضيف ينظر حوله، بتساؤل صامت، ثم بتساؤل ناطق، قال: المعذرة وهو ينقل بصره بين الزوج والزوجة، أين أنا؟ وكيف جئت إلى هنا؟ ، فقال المضيف: أنت ضيف فلان، وقادتك قدماك إلينا لكي نزيل خرمة القهوة التي غطت عينيك، وجعلت أنفك دليلك، وقد قادتك قدماك خير قيادة, فأهلاً وسهلاً بك .
هل يمكن أن تتصور بعد أن سردت على مسامعك هذه القصة يا بني أن خرمة القهوة يمكن ان توصل المرء إلى هذه الدرجة من الغيبوبة.
على كل حال يمكن أن يكون في هذه القصة بعض المغالاة، ولكني أعجبت بها وأنا صغير، ورويتها مراراً، وها أنا أرويها لك الآن, لقد أصبحت جزءاً من التراث، فإن اقتنعت بها فاروها، أما أنا فقد أديت واجبي فوضعتها بين يديك أنت وأبناء جيلك، فافعلوا بها ما تشاؤون.
والقهوة يا بني كما هو معروف لا يدخل فيها في نجد وباديتها السكر، وتقدم أحياناً مع التمر، الذي يمهد لطعمها المر، هذا الطعم الذي لم يخالطه سوى الهيل، أو المسمار القرنفل ، الذي يحل محل الهيل عند من يفضله عليه من الناس.
يروى أن أحد الناس أخذ حثل القهوة بعد أن شرب القوم الدلة، وكانت مبهرة بالهيل، ودفنه في التراب، وأخذ حثل دلة أخرى، مبهرة بالقرنفل، ودفنه أيضاً في التراب, وبعد ثلاثة أيام حفر فوجد أن الحثل الذي فيه القرنفل باق كما هو لم يتغير فيه شيء، لا لونه ولا رائحته، أما حثل القهوة ذات الهيل فقد وجد فيه دوداً.
والقهوة يا بني تحلو لبعض الناس على الريق، يفتتحون بها نهارهم، ويخفف مرارتها عندهم ما يؤخذ معها من تمر، وقد جعلتها مرارتها أحياناً تسمى القهوة المرة تمييزاً لها عن الشاهي الحلو, لقد اعتاد الناس الآن مرارتها وألفوها وتطلعوا إليها ورغبوا فيها، ولم تعد تزعجهم هذه المرارة كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة.
أما القهوة السائدة في بعض المجتمعات العربية فهي المسماة بالقهوة التركية، ويختلف صنع هذه عن صنع القهوة العربية، ولها خرمة خاصة بها, وهي تقدم احياناً مرة مرارة كاملة، أو يكون بها أحياناً شيء من الحلاوة القليلة، والتعبير السائد الذي يطلق على هذه القهوة هو قهوة على الريحة ، وهناك نوع ثالث هو ما يكون السكر فيه كثيراً، ويعبر عنه بقولهم: سكر زيادة ,.
وهكذا يتواصل نهج الكتاب,, معلومات مباشرة بأسلوب هين ولين وبسيط، وأفكار سلسلة متدفقة بتلقائيه دون تكلف.
ومما يميز لغة الكتابة انها ظلت سليمة وراقية وذات قدر عال من الجذب، فضلاً عن سلاستها التي تجعل منها سهلاً ممتنعاً، كما أن الأسلوب السردي وجماليات البلاغة سجلت حضوراً مستمراً، يجعل القارئ الراشد قبل الناشئ ملتصقاً بصفحات الكتاب، ومتابعاً لمحتوياته,, يلتهم الصفحة تلو الأخرى بما حواه النص من فنون السرد والجذب والشد الذي يأسر المتلقي ويحيله إلى عالم جميل من عوالم الحكايا والخيال والواقع بكل صوره وأشكاله.
|
|
|
|
|