| مقـالات
وإذ لا نعترض على الانتخاب ونراه طريقاً للوصول إلى المسؤولية، لا نقبل الاعتراض على الاختيار بوصفه طريقاً مماثلاً، فلكل أسلوب محاذيره ومحاسنه, والاختيار أقدر على توفير الكفاءات وتنوع التخصصات وتماثل القدرات، بحيث تغطي كل متطلبات الشورى متى استطاع المختار تجنب الهوى، وهو أهل لذلك.
لقد طرحت في عالمنا الثالث زمن التماس القطبي والصراع الإعلامي تجارب دستورية متنوعة وأنظمة اقتصادية متباينة وأساليب حكم متعددة، وتقاسم الشرق والغرب أدمغتنا وأفكارنا، ومسرح أرضنا، ونقل معاركه الكلامية عبر أقلامنا وألسنتنا، فاستفحلت بيننا العداوة والبغضاء، وتلاحقت الثورات، وتعددت الشعارات، وتنوعت الخلافات، وقام التناوش الكلامي والعسكري مقام التعاذر، والتآزر تعددت الأسباب والخلاف واحد ، حتى لقد تضخمت الأوهام، وكنا كمن يحسب كل صيحة عليه، وتبع ذلك تعاظم الادعاء واستفحال التصنيم، وانحرفنا بالولاء والبراء، فكان للحزب والزعيم والتراب، فكان أن تعددت الولاءات، وحين وصلت بعض الأحزاب والتنظيمات إلى الحكم على صهوات القاذفات والدبابات، أقيمت الحروف ولم تقم الحدود، خفت هدير المصانع وارتفع تلاسن المصلحيين، وزج مشرقنا البائس في حروب غير متكافئة، جذرت الهزيمة، واستمرأ الناس الخنوع، وعادت النخب كما الأثرياء المفلسين تفتش فيما عندها من أوراق قديمة آخذة بالخطاب الستيني كما هو، نيل مجحف ممن تبصر في أمره واشتغل في الممكن، واستعداء مريب للرأي العام على المتأملين والمتريثين.
والنخب التي تاهت في المنافي، اختياراً أو اضطراراً، وأغرمت بكل ماهو غربي، حصرت خيرها في الأنموذج الاستعماري، واجتهدت في توهين أنظمة الأمة ودساتيرها، ساخرة من المشروع وغير المشروع ومن الإسلامي وغير الإسلامي، وفاتهم أن أنموذجهم الغربي الذي يبشرون به مبتسر من سياقه نشز في سياقهم، ومن ثم لا يمكن أن يحقق في عالمهم ما حققه في عالم ذويه، ثم إنه في النهاية قناع للتوهيم والاستدراج، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب, وإذا كنا لا نعترض على المتأملين جهرهم بالاستياء مما يعانون، لأنهم مظلومون، والله لا يحب الجهر بالسوء إلا من ظلم، فإننا نود منهم التفريق بين الاستياء والإساءة، إذ ما يفيضون به يعد من سيئ القول ومسيئه، وليس من الاستياء المشروع, ووسائل الإعلام البراقشية تدفع كل يوم مع قالة السوء برؤى وتصورات أقرب إلى الأحلام المثالية، مؤكدة أن متعاطيها بلا ذاكرة وبلا تاريخ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كلمة سواء، أخذتهم العزة بالإثم، فحسبهم الفشل الذريع والإحباط المريع.
ومما هو جدير بالإشارة في هذا السياق ما جاء في مقال لأحد الكتبة السياسيين بالدراسة لا بالممارسة عن المفارقات الديموقراطية في العالم الثالث، إشارته إلى ممارسة الديمقراطية في غياب مؤسساتها، وقيام التربية والتعليم على ترسيخ وعي مناقض للديمقراطية، وما جاء من بعده عند كاتب آخر درس ومارس، وهو بصدد الحديث عن العنف الأعمى في الجزائر مشيراً إلى عشر عبر منها: أنه حين تصبح اللعب السياسية بلاقواعد فإن كل شيء يصبح جائزاً ومستباحاً ، وهذا واقع المتماسين مع المشاريع السياسية في عالمنا، وهو ما حفزني على البحث عن قواعد للتماس بين السياسة والإعلام، وقد بثثت طرفاً منها, فهل يريد لنا الناقمون المسخ واللاقاعدة؟ وهل يريدون منا أن نعود بعد إسلامنا كفاراً يضرب بعضنا رقاب بعض؟ والمشتغلون بوضعنا المزلقون بأبصارهم، ماذا قدموا للمتأذين من أنظمتهم؟ بل ماذا قدموا لأنفسهم؟ وهل أحد منهم يستطيع أن يتماس مع أوضاع قائمة، لا يحسن السكوت عليها، حتى لم يبق أمامهم إلا ما نحن عليه؟ فمع حمامات الدم التي تلتطم في الأسواق والأحياء والمساجد في بقاع كثيرة من بلاد المسلمين، ومع الفتن العمياء والقهر والتشرد وضياع المثمنات في دول تتوفر على أعماق اقتصادية وزراعية ومعدنية وبشرية، نجد من يضرب عنها صفحاً، ويأتي بروح عدوانية إلى شعوب آمنة مطمئنة متصالحة مع حكامها، مستغلة الممكن بالمستطاع من الجهد، موغلاً في نقد أنظمتها ومؤسساتها ورجالاتها وطرق اختيارها وأساليب ممارساتها، ليوغر الصدور، ويزرع الشكوك، ويخلخل الوحدة الفكرية، لا لشيء أكثر من أنها دول إسلامية، اختارت ذلك الطريق محققة رغبة شعوبها مستجيبة لعواطفها الجماعية, والتاريخ يعيد نفسه: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات ، ولو كان أولئك المؤاخذون يودون الخير لتلك الشعوب، لكان بإمكانهم أن يتعمقوا في قراءة الأوضاع القائمة: خليجية كانت أو عربية، واستبانة أوجه النقص، وهي كثيرة وقابلة للنقد والإصلاح, والتساؤل الملح: لماذا تخلق العداوات، وتحشَّد المشاعر، ويفرق بين الأخ وأخيه والمرء وزوجه؟ لماذا لا تنتقل النخب المتصدرة للتخطيط والتوجيه من الصدام إلى الحوار ومن الفضائح إلى النصائح؟ ولو كان المصابون بداء: إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر يعايشون واقعهم بذاكرة واعية لا ستعادوا الثورات الدامية والأنظمة المتعاقبة والحروب الطائفية والعرقية والمذهبية والحزبية والحدودية التي شرعنت القتل المجاني، ونزروا بعيون مبصرة إلى واقع الأمة الأليم المصنوع بأيدي أبنائها وبمباركة أعدائها, ولو كانت لهم عيون تبصر وآذان تسمع وقلوب تفقه لكان لهم خطاب آخر ورسالة أخرى، تجمع القلوب، وتوحد الكلمة، وتشيع الثقة بين الراعي والرعية, فإلى متى يظل السيف المصلت على رقاب الأقربين بأيدينا، والألسنة الحداد الوالغة في أعراض الأهل والعشيرة بأفواهنا وشهوة الفتنة والقتل في قلوبنا؟ دعونا نستبدل المحراث بالسيف، والأنامل المبدعة بالأظافر والأنياب، والثقة بالارتياب، والمحبة بالكره، لتذوق الأجيال برد الأمن والاستقرار، ولا تدعوا للإعداء ثنية للغزو أو التآمر, إن العاقل من وعظ بغيره، فيكف بنا لا نتعظ بأنفسنا، تمر بنا الأحداث المؤلمة المرة تلو الأخرى، ثم لا نأخذ حذرنا, لقد ذكرنا همز أولئك ولمزهم بخطاب الثوريين العسكريين الذين خدرونا في الوهم، ولم نصح إلا على حوافر العدو، تمشي على ظهورنا، وتمزق أشلاءنا، محققة الانكسار الموجع، الذي خلفنا عشرات السنين، وأذلنا بين شعوب العالم، وحملنا على استبدال السلام والتطبيع والهرولة والأخذ بالأحضان وتبادل الزيارات والسفارات باللاءات الثلاث, وحق لنا أن نسأل عن غياب الملايين من البشر، وما كانوا يتمتعون به من شرف وإباء ورفض للذل, أين هم من بني صهيون الذين سامونا الخسف، وعفروا كرامتنا، ونتساءل باستنكار: أين المصافحون والمهرولون والمطبعون والمبادلون سياسياً واقتصادياً وثقافياً من وحشية الصهاينة في مواجهة انتفاضة الأقصى التي راح ضحيتها أكثر من مئة وعشرين شهيداً وثلاثة آلاف جريح منهم ثمانمائة مشلول؟ وأين الذين يمولون الحرب الكلامية ضد أعماقهم الجغرافية والبشرية والاقتصادية والثقافية من فظائع اليهود؟ وكيف يبررون الصفقة الإعلاميةلقناة الجزيرة مع الكيان الصهيوني حسبما ساقه أحد المتابعين؟ ثم أين أولئك المجندون للنيل منا من مجنديهم إن كانوا صادقين؟.
إننا بحاجة إلى أن تكون المشاعر الهوجاء وراء العقول الرزينة، والسفهاء الطائشون وراء العاقلة، والصغار المبتدئون خلف الكبار المجربين، فما عدنا بحاجة إلى مزيد من الانهيارات وتعميق الإحباط وجلد الذات والمزايدات الرخيصة, وإن لم يرعو أولئك، فلماذا نظل أبداً في خنادق الدفاع؟ لماذا لا ننبذ إلى العلمانيين والتنويريين والمزايدين وفلول الثوريين والمتعملقين على سيقان خشبية على سواء، ونتخلص من تكتيك الدفاع والنفي وتصريح المصدر المسؤول إلى استراتيجية المواجهة لمن يتطوعون بقيادة الحملات الإعلامية على مشاريعنا ومثمناتنا ورجالاتنا, لماذا لا نعري دعاة العلمانية الذين أغثونا بالحطيئيات الممجوجة؟ أنظل في انتظار من يرشقنا بالبيض الفاسد؟ ثم ننهض لمسح وجوهنا والخفت التبريري الاعتذاري، مع أننا نملك أوراقا رابحة وشواهد نجاح ملجمة، ووثائق إثبات لمواطآت مخلة عند من يجندون أنفسهم للنيل منا, لقد احترمنا بما فيه الكفاية، وصمتنا بما يكفي لإتاحة الفرصة لمراجعة النفس, والاحترام والصمت والصبر حينما لا يكون لها حدود يتحول الحلم إلى مهانة والتواضع إلى ضعة، لقد احترمنا الأنظمة كافة على اختلاف مرجعياتها، وتصالحنا معها، وتمنينا لها ولشعوبها الرخاء والاستقرار، كففنا ألسنتنا عن اللغو، وبسطنا أيدينا بالعطاء، واتخذنا سياسة عمر في شراء أعراض المسلمين من الشعراء الهجائين، إذ كلما تقطعت الأسباب بحداثي أو علماني أو ثوري طائش وصلنا حبله وأقلنا عثرته، وأخذنا بخلق العفو عند المقدرة واقتصرنا على مبدأ تأليف القلوب، وفاتنا استذكار: ولن ترضى,,, ولا يزالون يقاتلونكم,, , إننا نسمع بين الحين والآخر من يتخلل بلسانه مزعجا سكوننا معكرا صفونا، مع مانحن عليه من عفة لسان وتدفق إحسان، وإذا لم نظفر بسلامة الأعراض فلا أقل من ألا نفرط بالعروض , ومع أننا لو حققنا ود أكثر الناس، وأعطينا الدنية في ديننا، وأنفقنا ما في أيدينا لوجدنا من يقول مثل قولهم، حتى لكأننا نستدعي قصة جحا مع حماره وابنه، الأمر الذي اضطره في النهاية إلى حمل الحمار على ظهره، ولينجو من سلق الألسنة الحداد.
إننا أمام هذا الإيذاء بحاجة إلى أن نحمل الحمار على ظهورنا، لنرضي الفضوليين والحاقدين, وما أشد عجبي حين نظل مادة علك رخيص، حتى إذا جد الجد وادلهمت الأمور، تحركت صوب أرضنا ورجالاتنا وإمكانياتنا الرحلات المكوكية يحط قائد ويقلع زعيم, فأين أغيلمة السلعنة البلاغية وهواتف العملة من ذلك الحضور الفاعل؟.
والذين يلمزون المطوعين بالمساعدات، يلمزونهم في الإصلاحات الداخلية، ثم لا يفرقون بين الهدف والوسيلة ، إذالشورى والاختيار وسيلة، والهدف ما يتحقق من نتائج يراها الناس رأي العين، والمجالس البرلمانية والانتخاب وسيلة والهدف ما تحققه من فعل لا نجده في مشرقنا بمثل ماهو عليه عند الغرب, والوسائل بمعزل عن الأهداف أشكال وصور، تختلف من عصر إلى عصر حسب ظروف كل أمة، ولو استعرضنا التاريخ السياسي للمسلمين لوجدنا تحولات كثيرة في الوسائل والأهداف تمليها الظروف والغايات، وما من أحد من اللامزين من عالج تلك الوسائل والغايات بأسلوب حضاري، يسعى لتحقيق المصلحة، والمؤلم أن خطاب أولئك يقوم على عدم الثقة، فيما يقوم الخطاب الإسلامي على الثقة وحسن النوايا.
وحين نشارف على النهاية، ولما نقل بعد مانريد، نعود مرة تلوى الأخرى، لنذكر بما قلنا من قبل، وبما نود أن نكرر القول فيه, فنحن أمام قوم وضعوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا، واستكبروا استكباراً، يستمرئون الجدل، ويستعذبون اللجاجة، ويتعشقون المغالطة، وكأنهم سوفسطائيون يرون التلاسن جزءاً من الرياضة، يمارس لذاته، وما علموا أن حصائد الألسن تكب الناس على مناخرها في النار، لقد ركز بعض أولئك الناقمين على ماجد من مؤسسات، وحاولوا التقليل من شأنها والنيل من قيمتها، حتى إذا ألجمتهم الحقائق، قال قائلهم: هذه مؤسسات متأمركة جيء بها ذراً للرماد وتوهيماً بالديمقراطية، ويعود حمار جحا للمرة الألف، وتظل أمريكا الشيطان الأكبر، تخدر بلعنها الآلام، وتسكن بمنازعتها الأوجاع، وفي هدأة الليل يكثر المتسللون لمضاجعتها والحالمون بودها والمتبرجون لها، وكيف يمكن إنكاح الثريا سهيلاً؟ بحيث نتأمرك بالشورى والاختيار وتحكيم الشريعة، ورفض التطبيع والمصافحة وممارسة الدعم السخي للانتفاضة، وهل نكون أمريكيين حين لا نتعملن ولا نتعولم.
وبصرف النظر عن كل الغيظ الذي يموت به الناقمون فإن الحاكم المسلم في عملية الاختيار لمجلس كمجلس الشورى بالذات بوصفه مفردة من مفردات السياسة الشرعية لا المحاكاة أو الإرضاء الأمريكي، يتوخى أموراً كثيرة، ويعد للاختيار عدته، فالشورى ليست في أمر واحد ولا في قضية واحدة، وهؤلاء النفر الذين اختارهم ولي الأمر، ليسوا على وتيرة واحدة، وليسوا في مستوى ذهني وعقلي واحد ولا من بلد واحد أو من عشيرة واحدة أوفي سن واحدة, إنهم متفاوتون في أمور كثيرة، الأمر الذي يبعث على الاطمئنان والثقة، وهم بمجموعهم المتباين والمتنوع في كل شيء، يشكلون الأفضل نسبياً، والمثل السياسي الإنجليزي يقول: ليست هناك حكومة ممتازة، وإنما هناك حكومة أفضل من حكومة ، وأمور الإسلام تقوم على التغليب، وليس على محض الخيرية، ولهذا قال تعالى عن الخمر والميسر: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما , فالشر والخير الخالصان غير قائمين في الحياة الدنيا وفي إنسانها، الإنسان خليط من الخير والشر والشهوات، تصطرع فيه الأنفس الأمارة واللوامة والمطمئنة، ويجري منه الشيطان مجرى الدم، وتقاوم الفطر السليمة التي ولد عليها إفساد الأبوين بوصفهما النواة الأولى للمجتمع، ومهمة الإسلام قمع الشيطانية في الإنسان، ومعاضدة الفطر السليمة ليغلب الخير الشر, وحين نثق بأمانة الوالي، لا نراهن على تفوق المختار، ولا على نجاح المشروع، وإنما نطمئن على كفاءته بما يظهر لنا.
والاختيار الذي يتم، لا يجري اعتباطاً، إنه يتم وفق ضوابط متعددة، تراعى فيها أمور كثيرة وحسابات دقيقة وخيارات عديدة، من أهمها: الدين، والعلم، والأمانة، والحفظ، والقوة، والعدالة، والتجربة، ومناسبة المختار للمكان، وسد حاجات المجلس بالتنوع، ولهذا حين يصدر الأمر بالتشكيل الوزاري أو الشورى أو غيره، يعود المرء إلى نفسه وخبرته ومعهوداته الذهنية، يقلب الأمور ويتساءل, ما الأسس التي قام عليها هذا الاختيار؟, هذا الإنسان المجهول الذي لا يعرفه المتابعون، ولا تحفل به وسائل الإعلام، ولم يسمع له صوت على أي مستوى، وكأنه صاحب الطمرين الذي لو أقسم على الله لأبره، فجأة يكون وزيراً أو نائباً أو مستشاراً، والسؤال/ مالذي جذبه فجأة من الهامش إلى المتن؟, هل اشترى المنصب كما تشتري الأحزاب أصوات الناخبين؟ هل حمله حزبه على الأكتاف ليفرضه بقوة الحزبية لا بكفاءة التكليف؟ وبعد أن ينجلي الغبار، تجد أن هذا الشخص يمتلك قدرات ذاتية وتخصصية وعملية، عرفها ولي الأمر الذي بحث المكلفون بالترشيح عنه في كل مكان، يأتي من نجران أو الباحة من الشمال أو الجنوب، كما يأتي من الرياض أو جدة ، يحمل مؤهلاً من أمريكا أو من فرنسا أو من مكة المكرمة: عالماً أو طبيباً، مزارعاً أو تاجراً، متقاعداً أو موظفاً، كبير السن أو صغيره، من أسرة أو قبيلة، أو من عامة الناس، حتى إنك لا تستطيع أن تجمع بين ثلاثة يتشابهون في أمور كثيرة، هذه الإمكانيات الذاتية فرضت ذلك الإنسان المغمور على فريق البحث عن الكفاءات الذين ندبهم ولي الأمر، ليكون مختاراً لهذه المهمة، قد يكون هناك من هو خير منه، ومن هو أحق منه، إذ التوفيق البشري نسبي، مع أن مثل هذه الخيرية كامنة وخفية، قد لا تكون بمستوى التوقع وقد تكون فوق التوقع, وفريق البحث بشر، لهم عواطفهم ومحدودية علمهم ومصادرهم التي قد لا تكون في مستوى القضية، ومهما كانوا عارفين مخلصين، فإنها ستكون لهم نسبة الخطأ المتوقعة من مثلهم، وليس من اللائق أن نزكي أحداً، ولكن الوقائع والنتائج تحملنا على التفاؤل والاطمئنان، وتوجب علينا قول الحق, ومتى فرض المسؤول نفسه بأخلاقه أو بأفعاله، وجب علينا أن نقول بعد قول الصدق: نحسبه كذلك، والله حسيبه، أو نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، والله يقول: ولا تزكوا أنفسكم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأحد المادحين محذراً: قتلت صاحبك ، أو كما قال بأبي هو وأمي، ومع هذا فمن حق صاحب الفضل أن نعرف له فضله، ولا يعرف لذوي الفضل فضلهم إلا الفضلاء، والذين يظنون أن المختار يحكمه إنعام المتفضل عليه بالاختيار وأن ولي الأمر لا ينظر إلا إلى الولاء يهمون ويوهمون.
والفكر السياسي الإسلامي يرفض غير المؤهلين، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم لطالب الإمارة: إنك رجل ضعيف ألم ينهه عن أن يتأمر على رجلين, كما أنه لا يرى للمسلم طلب المنصب لاعتماده على الاختيار بوصفه مفردة إجرائية, والانتخاب الديمقراطي تسبقه عمليات الترشيح الحزبي أو الذاتي، وهي عين المسألة والحرص والطلب، والغربيون لا يجدون غضاضة في ذلك لأنهم ربوا على ذلك، وطالبوا المنصب من المسلمين يحتالون لذلك، لأن تربيتهم تقضي بالترفع عن الطلب ولكل حضارة أخلاقياتها, وهل الناخبون يطرقون أبواب الكفاءات؟ أو أن المرشحين لأنفسهم يتملقون الناخبين، ويمنونهم بالوعود والمشاريع، وكل حكومة تتملق الشعب بمشاريعها وتكتظ الشوارع الانتخابية بالدعاية والوعود والملصقات، وقد تقوم المظاهرات والصدامات، وتتعرض مصالح البلاد للفساد حين يفتضح الأمر ولا تكون النزاهة، أو حين ينكشف التزوير وشراء الأصوات، وقد يحدث الصدام بسبب صراع الأحزاب على السلطة لذاتها لا لمصلحة الأمة، وفي العالم النامي يكون التزوير وتكون المظاهرات ويكون الشغب حتى إن المسؤولين عن عمليات الانتخاب لا يقدرون على توفر النزاهة إلا بمراقبة أجنبية، ومن المهازل ألا يتحقق الصدق إلا بمراقبة أجنبية، وكم نسمع عن إجهاض النتائج الانتخابية، وقد أجهضت في مواقع كثيرة، ومع الوعود الباذخة والأماني المعسولة من الأفراد المترشحة والأحزاب المتقدمة بمرشحيها، هل وفى منتخب أو حزب بوعده لناخبيه؟ اقرؤوا إن شئتم وعود الرؤساء في أمريكا ونكولهم عن وعودهم بعد الفوز، وأمريكا بلد الديمقراطية والصدق مع النفس وهي قبلة المراهنين ، فأين مشاريع الأحزاب قبل وصولها إلى السلطة؟, يقال هذا في الدول المتمثلة للديوقراطية النزيهة في الانتخابات، ولا يقال بحق من أغثونا بالرغاء، فهؤلاء خلق آخر, ثم إن الاختيار الذي يعده الناقمون فضلاً وكسباً للولاء، ويتهمون أولياء الأمور بالتركيز على الولاء دون الكفاءة، قد لا يكون في صالح المرشح مادياً أو وظيفياً، إذ قد يعرضه لتعطيل مشاريعه الخاصة حين يكون متقاعداً أو رجل أعمال، وقد سمعت من بعض الزملاء المرشحين لمجلس الشورى تمنيه ألا يكون عضواً، لأنه قد يتضرر مادياً، وقد يضطره الترشيح إلى ترك بلده وأهله وأولاده أو التردد في الأسبوع مرة أو مرتين لمقر مجلس الشورى، وهو في موقعه السابق يخدم وطنه بحيث يراه أفضل من موقعه الجديد، والدولة تطرق أبواب الكفاءات الغافلة، وتصرف نظرها عن المشرئبين, والمهرجون يحسبون أن الدفاع عن مؤسسات الدولة من أجل التمسك بالمنصب، أو التملق للدولة، نحن لا ننكر أن الدولة أي دولة لا تخلو من متملقين ومرتزقة وأصحاب مصالح ذاتية يغثون بمدائحهم، ولو قلنا غير ذلك لكذبنا على أنفسنا، وسقطنا من أعين الناس، وفقدنا المصداقية، وما من عاقل يعرض نفسه لفقد المصداقية، وهو في غنى عن مثل ذلك، وهذه القلة أو الكثرة من المتزلفين النفعيين قد ينخدع بهم ولي الأمر، ولهذا نجد العلماء والخطباء يكررون في خطب الجمع والأعياد الدعاء بأن يرزق الله ولي الأمر البطانة الصالحة الناصحة، وأحد الأئمة الناصحين يقول: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها لولي الأمر, فبصلاحه تصلح الأمة ويستقيم أمرها .
ولو عرف الشامتون طبيعة البلاد وأهلها، لما قال قائلهم ما يحسبه حقيقة موجعة.
لقد طرقت الدولة أبواب أناس لم تسمع منهم كلمة ثناء واحدة، وعدلت عمن حفيت أقدامهم في سبيل التعرض للمناصب، وبحت أصواتهم بالثناء المكرور، على أن من الممارسين للثناء من يعبرون عن آرائهم الذاتية، يحملهم على قول الحق ما يرونه، وما يسمعونه من تجن متعمد ونيل مغرض لمثمنات بلادهم الشخصية والمعنوية، والصامتون ليسوا بالضرورة ناقمين، والمادحون ليسوا بالضرورة صادقين، وما على المشككين في جدوى الاختيار إلا أن يتعقبوا سير المرشحين، ليروا أن الدولة جادة مجتهدة ناصحة، ولا نزكيها على الله، وما يعتريها من نقص فإنما هو من خطأ الاجتهاد, لقد أشار الدكتور فهد الحارثي الذي ظلم نفسه حين رضي بمواجهة الفارغين الحاقدين في مقالاته الأربعة التي لملم بها أطراف اللقاء الصاخب مع أحد المغرمين بمشاريع الغرب، ونشرها من بعد في جريدة البلاد إلى كفاءات استثنائية في مختلف التخصصات، ظفر بها مجلس الشورى في تشكيله خلال الدورتين الماضية والقائمة، ما كانت حاضرة الذهن العام، هذه الكفاءات وأمثالها ليست لها شهرة الصحفي أو الكاتب أو الثري أو السياسي أو القبلي أو الأسري، ممن طرحوا عبر وسائل الإعلام، ولكن الحفريات والتنقيب والتحري استدعت أمثالهم للمسؤولية التي تقدر الكفاءة بصرف النظر عن أي اعتبار آخر, على أن الاختيار الذي يراه العلوي في مواجهته للحارثي ثمنا للولاء لا يؤخذ فيه رأي المختار، وقد لا تحقق رغبته، أما الانتخاب فيأتي في أعقاب الاستماتة من أجل الفوز بالمسؤولية، ومع كل ما سبق فلسنا بصدد المفاضلة أو التقصي أو إدانة الانتخاب.
والجدل حول الاختيار والانتخاب والديموقراطية والشورى لا يكون برفع جانب وإسقاط آخر، بحيث لا تخرج العملية عن لعبة الأضداد وتمايز الألوان، فالاختيار له مميزاته في سياقه الإسلامي، وله محاذيره، له إيجابياته وسلبياته، والانتخاب في سياقه الديمقراطي له مميزاته، وله إيجابياته وسلبياته,
وفي النهاية فالانتخاب والاختيار أسلوبان مشروعان، كل في سياقه وحيثياته وظروفه، وليست العملية خيرا محضا ولا شرا محضا، ولو أن ولي الأمر أراد الانتخاب، وأعد له عدته، وانتفت المحاذير، لكان من واجبنا القبول والدعم.
والإشكالية ليست في الإجراءين، وإنما هي في إتقان العمليتين كل في سياقه, فهل ديموقراطية العالم الثالث مثل ديموقراطية أمريكا؟ وهل إسلامية المسلمين اليوم كإسلامية الخلفاء الراشدين؟ وهل الشعوب الإسلامية اليوم مثلها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين؟ وهل خلفاء بني أمية وبني العباس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ الخيرية موجودة في أمة محمد إلى قيام الساعة، ومرد كل نظام أو إجراء إلى النتائج، والسؤال المفحم, هل العلوي الساخر بالاختيار يستطيع أن يقدم لنا في محيطه انتخابا نزيها؟ ونحن واجدون في الاختيار المتوازن الذي تمارسه الدولة، استجابة للقضايا المتنوعة التي يواجهها مجلس الشورى ، فهل السبيل الأمثل لتوفر التخصصات بفضل الانتقاء الدقيق والتنويع الشامل وحفظ التوازن, المجلس عندنا يواجه قضايا: تربوية، واجتماعية ، واقتصادية، وعلمية، وزراعية، وترفيهية، وسياسية، وأمنية، ووظيفية، وعمالية وغيرها، ولا يمكن أن تواجه بنمط بشري واحد وبتخصص علمي واحد, فالمجلس الذي تنثال عليه القضايا والمشاكل من كل جانب، بحاجة إلى متخصصين: شرعيين، وفكريين، وعلميين، وسياسيين، واقتصاديين، وهو بحاجة إلى مجربين من رجال أعمال، ومزارعين، ورجال أمن، يحتاج إلى فرق عمل، وشعب تخصصية، لكي تكون القضايا المعروضة بأيدي فئات متخصصة، ولهذا فاللجان المشكلة في المجلس إنما شكلت لتواجه هذه القضايا المتنوعة، وأحسب أن الانتخاب خارج سياقه الديمقراطي قد لا يوفر الحاجة بقدر ما يوفرها الاختيار ، هذا على افتراض أنه من الممكن الترقيع, نقول هذا ونحن نرصد كل الهنات المتوقعة، ونعرف ما ينقص المجلس، والمجلس يتلقى النصائح والمقترحات والتوصيات، والدولة تحدث كل يوم تعديلا، وتبدئ وتعيد، والمجلس مجموعة من المواطنين، يخطئون، ويصيبون، ولسنا من ذوي التقديس والتصنيم ورهان النجاحات, فحين أحيل نظام العمال إلى مجلس الشورى بادرت إلى تحذيره من المجازفة، وكشفت له إشكالية العمالة، وطالبت بحل المشاكل القائمة قبل صياغة النظام الذي يصوت عليه أعضاء المجلس، بعد ذلك واجه المجتمع حملة أمنية شاملة قوية بهرت المواطنين وانتزعت إعجابهم وتقديرهم لرجال الأمن، وجعلت المواطن يطمئن إلى كفاءة أجهزته الأمنية متى أصرت على مواجهة أي مشكلة، وفعلت مثل ذلك عندما قام المجلس بدراسة مشروع مجمع اللغة ، وكما أشرت فالأمور تغليبية، وليست مطلقة, ومانتطلع إليه في نهاية المرافعة أن يعي اللاعبون قواعد اللعبة، وأن يتخلى المتصدرون للنقد والتوجيه عن عواطفهم الهوجاء وأهوائهم المؤلهة، فأوجاع الأمة ونكساتها لا تحتمل المزيد، ولا أحسب الدروس القاسية التي تلقيناها من الثورات والهزائم والحروب الإقليمية تحتاج إلى مزيد، وإذا لم نع مشاكلنا ونتقن أسلوب مواجهتها بعد الثمن الباهظ الذي دفعناه طوال قرن من الزمن، فإن الأمل بالوعي المستجد من دروس أخرى سيكون ضعيفا، والله وحده المسؤول أن يجري الحق على ألسنتنا.
|
|
|
|
|