| شرفات
قال العامل للملك: ان الخزانة خاوية فما كان من ملك انجلترا الا ان جمع جيشا من المرتزقة وقرر ان يغزو فرنسا لقد وعدهم بالاتاوات التي يمكن استخلاصها من المدن الفرنسية لكن المفارقة المضحكة ان ملك فرنسا لم يكن احسن حالا لأن الخزائن كانت خاوية هنا كما كانت خاوية هناك!!
سميت الحرب بحرب (المائة سنة) حيث امتدت كمباراة رعناء لا تصل الى نتيجة سوى الخراب للطرفين ,, وقد ولد تشوسر أبو الأدب الانجليزي في مطالع هذه الحرب,, آنذاك كانت لندن مدينة همجية وقذرة تمتلىء شوارعها بالاوحال والعفن والهوام والجرذان كما ان الطاعون التهم ربع السكان على مرتين وراء أسوار المدينة وأدرك تشوسر انه لن يضمن لنفسه حياة كريمة الا بالخدمة في البلاط الملكي فانضم منذ صباه وصيفا في خدمة الكونتيسة أوف ألستر زوجة الأمير ليونيل بن الملك ادوارد الثالث فاتصل في سن مبكرة بحياة البلاط وتمرس بألوان من الثقافة حيث اتقن قرض الشعر ونظم الاغاني واجاد اكثر من لغة وتدرج من أحط الاعمال الى ارفعها درجة في البداية كان مجرد خادم يقوم على الموائدويمهد الفراش واعمال وضيعة اخرى فكان يلبس كسوة الخدم مع غيره ويصرف له يوميا الخبز وطبق من اليخني تحت اشراف كبير الخدم.
وفي عام 1359 قرر ادوارد الثالث ان يقوم بغزوة جديدة على فرنسا فأعد جيشا كبيرا وغير مدرب يتألف من رجال ويلز المسلحين بالخناجر والسكاكين والذين اندفعوا في قتل الفرنسيين بدلا من أسرهم كي يحتجزهم الملك حتى تُدفع عنهم الفدية تسببت هذه الحملة في خسارة فادحة اذ اصيب الجنود بسوء التغذية والموت البطيء نتيجة ندرة الطعام,, وبينما كان تشوسر يرتاد مع نفر من زملائه بعض الاماكن النائية وقع في اسر الفرنسيين واضطر الملك لدفع فدية كبيرة كي يطلق سراحه.
في غضون سنوات قليلة نجح تشوسر في ان يترك الاعمال الوضيعة ويصبح وصيفا للملك مهمته ادخال السرور على نفوس أضيافه وقرض الشعر وقراءة الاخبار وتنظيم رحلات القنص,, اي انه الشخص الظريف والمسلي في البلاط الا ان طموحه الشخصي كان يفوق دور المهرج بمراحل عديدة حيث كان محاسبا ذا خبرة وأنشأ علاقات تجارية بين فلورنسه وجنوا ولندن وسافر الى فرنسا فترات الهدنة في مهام سياسية مختلفة واطلع على مؤلفات اعلام الادب الايطالي كدانتي وبترارك وبوكاتشيو وبدأ نجمه السياسي في الصعود في بلاط ملك انجلترا الى ان أصبح مراقبا للجمارك في ميناء لندن طوال اثنتي عشرة سنة عاشها في رخاء متصل بالاضافة الى انه كان متزوجا من احدى وصيفات الكونتيسة اوف الستر وهو زواج مادي قائم على الحسابات حيث كانت زوجته تتقاضي معاشا مدى الحياة من الملكة نفسها.
هذا الاستقرار ساعد تشوسر على ترجمة العديد من الاعمال عن اللاتينية والى ابداع اهم مؤلفاته مثل ترويلوس وكرسيدا اسطورة النسوة الطيبات برلمان الدجاج واعظم روائعه قصص كانتربري وظن تشوسر انه احرز اقصى درجات النجاح لرجل,, من خادم أجير إلى جندي ثم مأمور جمارك ووصيف وشاعر وأخيرا عضو في البرلمان عن مقاطعة كنت.
وكما يقال دوام الحال من المحال فالزوجة التي ارتبط بها على أساس مادي بحت كانت علاقته بها مضطربة لشعوره بأن زواجه منها كان مفروضا عليه فرضا، ولذلك اتخذ وهو في الحادية والاربعين من عمره خليلة شابة غير متزوجة تدعى سيسليا تشومباني ويقال انه انجب منها ابنا غير شرعي مما اضطره الى رشوتها باستمرار حتى لا تقاضيه كما كان يدفع كفالة لابنها بوصفه ابنا له والظاهر انه اعتدى عليها تحت اغواء الوعد بالزواج وهذا لم يحدث حتى بعد وفاة زوجته عام 1387م.
منذ ذلك الحين بدأت ثروته تتضاءل وكانت مالية البلادبوجه عام تعاني مزيدا من التدهور في عهد ريتشارد الثاني الذي كان مسرفا شديد الاسراف فأوقف البرلمان ما كان مصرحا له به من المال الاحتياطي ورفض السماح له بعقد اي صفقة مالية لمدة شهرين مطالبا اياه بالتخلص من وزرائه ومؤيديه , وعلى رأس هؤلاء المسؤولين كان تشوسر الموظف الكبير وصديق الملك اول الضحايا إذ استقال مجبرا من منصبه كرقيب على الجمارك لانه رجل اساء التصرف في ادارة مهام منصبه ولم يكد يمضي عام بعد فقد مصدر دخله الاساسي حتى افلس وحول معاشاته الى احد مقرضي المال.
وعندما بلغ ريتشارد الثاني السن القانونية لولاية شئون الحكم فصل وزيره وقبض على اعدائه واعاد صديقه تشوسر للعمل في خدمته كمقاول براتب او بعمولة حيث يباشر العمال الذين يقومون باصلاح الطرق واعمال البناء والري وغير ذلك!! لاشك ان مهنة ادنى بكثير من مهام المجد القديم حين كان يسافر كسفير وممثل للملك ادوارد الثالث لعقد صفقات دولية او انهاء ازمات سياسية.
كانت انجلترا آنذاك وطنا في طور التأسيس فعندما ولد تشوسر صدر لاول مرة قانون يلزم الفرد بأن يثبت انه انجليزي وكانت اللغة الفرنسية هي اللغة السائدة حتى استبدلت بلهجة مدلند الانجلو سكسونية ولم تصبح الانجليزية لغة رسمية للبرلمان الا عام 1362م.
هذا على الصعيد الثقافي اما بالنسبة للسياسة فهناك حروب المائة سنة بين انجلترا وفرنسا وتمرد وات تايلر في انجلترا وثورة المزارعين في فرنسا وغزو تيمور لبلاد فارس واستيلاء العثمانيين على القسطنطينية وانشطار البابوية الى شطرين والثورة البروتسينية والحرب بين السويسريين والنمسويين وغزو الاسكتلنديين لانجلترا وثأر انجلترا بحرق أدنبرة ,, لقد كان قرنا مجنونا ملتهبا عاصر تشوسر جزءا من مآسيه ومن أهواله، وفشل اكثر من مرة في ان يحقق نجاحا يطمئن اليه لانه كان يعيش في ايام قلقة لا تستقر على حال ولم يكن هناك بد من أن يشارك في متاعبها احيانا يقترب من صنع القرار وأحيانا يتحول الى مقاول انفار وتعرض للسطو من قبل قطاع الطرق مرتين وسرقت منه اجور العمال كما حرم من الوظيفة الكتابية التي كان يمارسها ولأن خزانة البلاد كثيرا ما كانت خاوية على عروشها فلم يتقاض تشوسر سوى معاش ضئيل واحيانا يتأخر صرفه فكان يلحف على الملك كي يصرف مستحقاته، وقاضاه بعض الدائنين مما جعله يستصدر امرا من الملك بعدم الحجز عليه ومنحه خطابات تحميه من إلقاء القبض عليه كانت ايامه الاخيرة لا تتواءم مع كفاحه العنيد في ان يكون شيئا مذكورا وسياسيا مجيدا لقد صار شخصا متبرما يستجدي بعض الامراء وهو مؤسس اللغة الانجليزية والادب الانجليزي!! هكذا تحول واحد من شعراء انجلترا العظام الى شخص سمين وقميء لا يكف عن شرب كميات ضخمة من الخمر.
وفي نهاية عام 1399 استأجر مسكنا في حديقة كنيسة سنت ماري،,, وقبل ان يكمل العام في مسكنه الجديد وبينما انجلترا تحاول ان تبتسم لمطلع قرن جديد فارق تشوسر الحياة وأسلم الروح وليس حوله سوى قلة من الأصدقاء تتحسر على رجل أضاعه الانغماس في الشهوات واستخذاؤه في علاقاته بالنساء في زمن الحروب والجهل والاوبئة وأيام الجوع رحل تشوسر معدما بعد ان عاش حياة البذخ والاسراف والسلطة,, رحل ولم تبق سوى أشعاره التي كان يتغنى فيها بشقائه وبمرحه وبروحه الإنجليزية.
شريف صالح
|
|
|
|
|