لم يكن جدي يشاهد التلفاز,, ولم تتمايل جدتي على أنغام موسيقى الراي,, ما عرفت أمي أبداً مساحيق التجميل,, وما تطيبت يوماً بغير الريحان,, أما أبي فلم يُشاهد عرضاً للأزياء في حياته,, ولم يلمح ساقاً بيضاء تتجول في الأسواق,, هكذا عاشوا كانسياب الجداول الهادئة,, ومروا كراماً بالحياة كمرور الأطياف بعد زخات المطر,, لم تشوه أحلامهم مُغريات الحضارة,, عشقوا وأحبوا,, وجاعوا وشبعوا,, علكتهم الحياة وشظف عيشها,, وافنتهم الأوبئة واختصرت اعمارهم,, وبالتالي لم تشكل المغريات في حياتهم حيزاً يستحق الذكر,, فضلاً عن انعدامها أصلاً من حياة اكثرهم,, كانت مُتطلباتهم المعيشية متواضعة جداً,, يُسيطر عليها الكفاف وسد الرمق,, مادخلوا عصر الكماليات,, وما عرفوا أبجديات الاسترخاء اللامُفيد,, فرضت ذلك عليهم طبيعة المكان والزمان والتطور,, ويوم جئنا بعد ميلاد الحضارة,, بعد تكوم العالم إلى قرية صغيرة,, تتسابق في فضائه الميول والرغبات,, وتنسكب في أرجائه التكنولوجيا,, والرفاهية والكماليات,, كان من حقنا أن نعيش حياتنا,, وأن نستثمر تطلعاتنا لخدمة أحلامنا,, وفق احساسنا بمعطيات العصر الانفتاحي الذي نعيشه ونشاهده ونتنفسه,, فإيماننا لايتجزأ بوجوب البحث عن الذات,, وبنماء أزهار المستقبل بين أصابعنا,, ربما لم تصقلنا الحياة كآبائنا,, لكنها بذرت في أذهاننا حُب التجربة والتطلع والطموح,, وربما لم تلفح وجوهنا شمس الصحراء فنعرف قيمة الراحة والرفاهية,, لكنها غلفتنا بروح المغامرة والتحدي,, لقد أتاح لنا هذا العصر لذة الاكتشاف والمعرفة والتواصل مع ثقافات أخرى,, وجدنا أنفسنا في عُمقها,, وكان مُستحيلاً أن تنفصل عنها,, وهي سنة تاريخية وحياتية لم يستوعبها آباؤنا,, فحكموا علينا بالفشل بمنظور عصرهم لا عصرنا,, وكأن النجاح يُقاس بالتبعية والتناسخ الفكري,, فصلونا عن سياقنا الحضاري وبدؤوا بنصحنا وإرشادنا عطفاً على تجاربهم وخبراتهم,, دون أن يُمعنوا التفكير المجرد فيما يشغل عقولنا ويُسيطر على اهتماماتنا,, نعم نُقدر نُصحهم نجلهم ونحبهم,, فهم بمشيئة الله سبب وجودنا في هذه الدنيا,, لكن ذلك لايعني أن نكون صورة طبق الأصل عنهم,, لقد اصبحت الحياة أكثر تعقيداً وديناميكية,,إذن فيستحيل أن تخلو من الأخطاء والهفوات,, وعند ذلك يحق لنا أن نتساءل لماذا تُضخم أخطاء الشباب مُقارنة بأخطاء الكبار؟,, قد يكون حرص الكبار وحبهم هو الذي يضع تلك الأخطاء تحت المجهر حتى تُرى بوضوح تحت الشمس فيُحذر منها في المستقبل,, أوَليس هذا من مدرسة (ومن الحب ما قتل),, إن لغة الحوار والتودد والاختيارات الحُرة أجدى كثيراً من تعليب النصائح وحشوها في العقول بغير هضم ولا إقناع,, باعتراف أكبر المربين وعلماء النفس,, لكن النمطية مازالت تُسيطر على أساليب التربية لدينا,, فنحن وللأسف لاننظر حولنا إلا بعد خراب مالطا ,, حتى أصبحت أغلب الاسر لا تجتمع حول المائدة إلا للأكل ومناقشة مصاريف المدارس,, في دوامة حياتية مُكررة تأكل أحلامنا وتزرع فينا الكآبة والهموم,, ولعل تفكير الآباء ببناء قاعدة صلبة للحوار مع ابنائهم يكون كفيلاً بحل العقبات وكسر الحواجز الجليدية التي تُعيق التلاقح الفكري بين الطرفين,,وتردم حفر الخوف التي تغمس الثقة في مستنقعات الشك,, بدلاً من اتهام الشباب باللامبالاة والطيش والموت على أبواب المغريات,, فالإنسان نتاج مُجتمعه وعصره,,, ولابُدَ له أن يُشاهد ويسمع ويتأثر سلباً أو إيجاباً,, وليست تلك هي القضية في تصوري,, بل القضية تبقى دائماً في مقدار ما يحدثه ذلك التأثر من تضاريس مُستقبلية على الشاب والشابة في قابل الايام,, حقاً إن الوقاية خير من العلاج,, ولكن آخر العلاج الكي,, ومن الغباء أن نبدأ بالكي قبل استخدام اساليب علاجية حوارية وحضارية مع الشباب.
محمد علي البريدي رجال ألمع
|