| الاخيــرة
امتلأت كتب التراث بروائع الأدب والقصيد، وزهت بألوان الورد وبهاء الخضرة، واعتلال النسيم، وتنفست طياتها أريج الخزامى وعبق الياسمين، وتوشحت بالتبر والصافي من اللجين، فغدت أرنجة تشبع نهم الجائع، وزلالاً يطفئ ظمأ الصادي المهيم،
هكذا هي وهكذا كانت في صورتها البهية الناصعة ولكنها لم تسلم من المناقص، فقد حوت فيما حوت شيئاً من الأشواك وبعضاً من الأعواد البالية التي لا تخلو أيكة منها، ولا تسلم خميلة من طائلتها, فبدت ناصعة المنظر ناعمة الملمس، عذبة اللحن، طيبة الرائحة في معظمها، مع شيء من الكدر يهز من ذلك الإبداع الجمالي الخلاب بين الفينة والأخرى.
وفي القصص عن الخليفة هارون الرشيد الكثير من تلك الصور المتناقضة، والحكايات المتنافرة، قد يصعب جمعها في شخص بذاته أو قد يكون، وليس موضوع هذه العجالة تلك الحكايات المتباينة لتزكية بعضها ورفض البعض الآخر طبقاً لرؤية الباحث وحكمة المسبق, وإنما راق لي ان اكتب عن حصيلة من الطبيعة البشرية اسمها الحسد، تجلت لدى اسحاق الموصلي وتلميذه زرياب في زمن الرشيد، فقد جاءت كتب الأدب ذاكرة أن زرياب كان تلميذاً لإسحاق الموصلي يعلمه الغناء حتى أبدع أيما إبداع، وتجلت لديه قدرات عجيبة في الغناء، مع حسن في الصوت، وإبداع في المنطق، وتقول القصة إن الرشيد طلب من إسحاق الموصلي مغنيا ليس له شهرة إلا أنه مجيد في فنه محسن له، فما كان من إسحاق إلا أن ذكر للخليفة تلميذه زرياب قائلاً للرشيد إن له نغمات رائعة هي من استنباط فكري، وأرى أن يكون له شأن, فما كان من الرشيد إلا أن أسرع في طلبه، فأحضره إليه وسأله الرشيد عن معرفته بالغناء فقال: أحسنُ منه ما يُحسنُ الناس، وأكثر ما أحسِنُه لا يحسنونه, مما لا يحسن إلا عندك، ولا يدخر إلا لك, والقصة طويلة، وخلاصتها أن الرشيد أعجب بإبداعه أيما إعجاب ثم التفت إلى إسحاق وقال: والله لو لا أني أعلم من صدقك لي على كتمانك اياه لما عنده، وتصديقه لك من أنك لم تسمعه من قبل، لأنزلت بك العقوبة لكتمانك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن بشأنه حتى أفرغ له فإنّ لي فيه نظر،،
وهنا أخذ الحسد من إسحاق مأخذه، وخلا بزرياب وقال له: يا زرياب إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فتانة، والشراكة في الصناعة عداوة لا حيلة في حسمها، وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك فإذا أن قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنه ولدي، ولو لا رعي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخير في اثنتين لابد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة، لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة، وأعطي لك ما تريده من المال، وإما أن تأخذ حذرك مني، فلست والله أبقي عليك، ولا أدعك حولي باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقض قضاءك، فاختار زرياب الفرار وأعانه إسحاق، وبعد فترة طلبه الرشيد، فقال إسحاق للرشيد: ذلك غلام مجنون ابطأت عليه جائزتك فولي مغاضباً.
هذا الحسد الذي ملأ قلب إسحاق، هو ذاته الذي يخالج الكثير من أفئدة التجار والموظفين وحتى اللاعبين لكن إسحاق كان صريحاً مع زرياب وغيره لم يكن, فهل كان إسحاق محقاً فيما حمل من حسد؟ وهل كان زرياب منصفاً لنفسه فيما فعل؟ لقد توكل زرياب على بارئه وآثر ورحل ونجح نجاحاً منقطع النظير رغم حسد إسحاق.
|
|
|
|
|