,, نزع جسده من بين اللحوم البشرية المتلاطمة بعضها ببعض ودلف مسرعا الى كرسي خالٍ ليحتضن أشلاءه المتناثرة ويستطرد انفاسه المتقطعة,, اشعل سيجارة كانت في جيبه واخذ يتفحص سطور ورقة صغيرة بيده وما لبث ان غارت عيناه في محجريها وطمر وجهه بين راحتيه وشطح تفكيره بعيدا عن زحمة المكان وعجيج المسافرين وغاص وراء الماضي القريب والاوقات الحالمة التي كانت تجمعه بها,, عاشا معا قصة حب اسطورية,, ناضلا من اجل ان تنمو وتثمر في ارض خصبة قوية,, طفقا يسقيانها من روافد قلبيهما.
كانت هي,, شمسه التي لا تأفل، وكان هو,, بطلها الذي لا يُقهر ما زال عالقا في تجاويف جمجمته آخر لقاء جمعهما معا,, كانت تنظر اليه بعيون حائرة بينما كان يحملق في لاشيء فقذفت بسؤالها لتحريك بحيرة الصمت الراكدة.
هل قررت الرحيل؟
زمَّ شفتيه محاولا اخراج الكلمات الشائكة التي كادت ان تخنقه قائلا:
يشق عليَّ فراقك,, ولكن اصطدمت احلامنا بصخرة الواقع واجبرنا على السباحة عكس التيار لننقذ ما تبقى منها,, فالتوت ملامحها وتنهدت قائلة:
أليس بالحب نستطيع صنع المعجزات؟
المعجزات؟!,, في عالمنا هذا الحب وحده لا يكفي,, نحتاج الى ان نعمل آليا ونحصد المال لنبتاع عشا صغيرا يضمنا بجوانحه الدافئة.
ثم امسك بيدها,, لعله شعر بشحنة القلق الزائدة في قلبها، ضغطت على يده وبادرته قائلة:
اخشى ان يطول الفراق فيتسرب الظمأ الى ارض حبنا اليافعة فتتشقق ملامح وجهها ويسكنها الجدب فأموت من,,, قاطعها معاتباً,.
ما يجمعنا اقوى من ان يكون ضحية للفراق,, سأطوي ما بيننا من ابعاد وليال طوال وسأختصر المسافات وسأفجر انهار وريدي لتتدفق الى نبضك الحاني,, وسأعيش من اجلك ولاجلك طأطأت رأسها بضحكة خجول ثم قالت:
سأفني زهرة شبابي في انتظارك وسأعتصر رحيق عمري لاجلك وساجهض احلامي لميلاد احلامك.
وعدته ان تنتظره طول العمر,, فرحل مطمئناً يقاسي ألاعيب الغربة ولا يأنس وحدته سوى ما يصله منها من رسائل تتوجها كلمات العشق فترتسم على وجهه بصمات شوقه اليها,.
انقطع خيط افكاره وجمال اللحظات التي كان يعيشها بصوت يُعلن عن استعداد المسافرين لصعود الطائرة متمنيا للجميع رحلة سعيدة,, فدبت قشعريرة كئيبة في انحاء جسده وانتصب واقفا وضاع بين الحشود مخلفاً ورقته الصغيرة التي وقعت فريسة لسيجارته المشتعلة ولم ينج منها سوى سطر يتيم كُتب عليه: من سخرية الاقدار ان ازفَّ الى غيرك ,, تُرى من منهما نسيَّ في غمرة الحب والوعد ان هناك صخرة النصيب التي تتكسر عليها احلامنا,, او ان هناك بوابة النصيب التي تموت امامها امانينا؟!
حنين خالد العسيري بيشة
|