| الثقافية
لدينا على طول المملكة وعرضها فرق مسرحية شكلت نفسها وبعضها تحكمه ظروف المكان او الجهة مثل فرق الجامعات والكليات والمدارس وبعضها شكلها افراد ممثلون او شجعهم احد على تشكيلها في مناسبات ثم استمرت تؤدي اعمالها من واقع اجتهادها وفي أذهان أفرادها إرضاء الهواية اوتحسين الدخل وبعضهم يحثه حب الظهور السريع في الاوساط العامة,, وفي رأيي انه بعدد المسرحيات التي انتجت في المملكة في الثلاثين سنة الماضية كانت هناك فرق تطمح للاستمرار لكنها سرعان ماتصدم بواقع صعوبة الفن المسرحي في قياس ما يعود منه ماديا أو معنويا ممايجعل كثيرين لايواصلون المسيرة تاركينها أملاً في أنفسهم خصوصا مع غياب الدعم والتشجيع.
السنوات الاخيرة شهدت شيئا آخر حيث بدأ التجار في توظيف الفنانين للترويج للسلع والخدمات فظهرت فرق ممولة في فنون مختلفة من الغناء الجماعي والتمثيل فن الاضحاك والتهريج المرتجل تحت زعم (معالجة المشكلات الاجتماعية),, وهذه الفرق رغم أنها تستطيع العمل بشكل صحيح لو أرادت الا أنها مبتلاة بحب الارتجال من بوابة التهريج وهذه الفرق في الغالب تقدم نفسها في المتنزهات والملاهي وبعض الأندية باسم النشاط بل رأيتها تقدم نفسها في حملات السياحة والمناسبات في الشوارع وبين السيارات لصالح بعض الممولين الذين لايعرفون من الفن المسرحي الا اسمه وشخص مؤديه ولذلك لا وجود لنص او مضمون او فكر في كثير من أعمالها.
هذه الفرق ليست ظاهرة عندنا ولاهي جديدة فقد وجدت منذ القرن الخامس وفي عصر النهضة في إيطاليا ووجدت بشكل واضح في القرن الثامن لكن هذه الفرق بمناهجها تختلف عن ماعندنا لأن الفرق التي ظهرت في بوادر حركات وبعد قرون من اختفاء المسرح اليوناني وبقايا المسرح الروماني كما حدث في ايطاليا بعد بزوغ عصر النهضة او بعد سنوات من الحرب على الفن كما حدث في روسيا بعد الثورة البلشفية ومحاولة المسرحيين الروس وفي اوروبا الشرقية الخروج من عنق الزجاجة الرقابي,, اقول إن الحركات الارتجالية القديمة كان لها مايبررها تاريخيا او ثقافيا لكنها عندنا تأتي لإرضاء الضحك ويقودها شباب قليلو الثقافة في آداب المسرح يدفعهم إغراء من ادارات حكومية وأهلية تنصبهم فنانين فما يلبثون أن يقعوا تحت تأثير التسلط الجماهيري ويتطاولون على الفن المسرحي بصفته ثقافة عصور غير عابئين بتطوير قدراتهم المسرحية وصقل المواهب التي تقودهم الى المسرح مما يجعلهم بدل المضحك المضحوك عليه.
لا أعني فرقا بعينها بقدر ما اؤكد على القول لبعض الفرق اذا قررتم الارتجال فلا أقل من أن تعرفوا شيئا عن تاريخ الارتجال الحديث وأساليبه ليكون لديكم المبرر الشرعي للعمل تحت مظلة الارتجال الواسعة وليس تحت مظلة السرك التهريجي.
الارتجال المسرحي اليوم فن لاتعبر عنه هذه الكلمة بمعناها القريب الذي اعتدنا عليه في حياتنا من مقولة ان فلانا يرتجل كلاما بمعنى يقوله من وحي الخاطر وهو واقف يلقي أو من وحي اللحظة دون اعداد,, وجاء الارتجال نتيجة للحالة المحفزة للمؤدي التي يحدثها جمهور حاضر في المرتجل من واقع أنه بدون هولاء الجمهور لايستطيع مواصلة الحديث بنفس القوة والروح من ردة فعل الجمهور المباشرة,, وعرف مرتجلون وخطباء عبر التاريخ تميزوا وبرعوا باتصال الحديث وتوليد الموضوعات ولم يكن اللفظ هووسيلتهم فقط بل إن الحركة باليد أو الرأس كانت إحدى اساليبهم الاتصالية.
معنى الارتجال المسرحي الآن شيء آخر لكن تاريخ الارتجال المسرحي في العصور الوسطى وعند المسلمين في اواخر الدولة العباسية يتطابق مع المعنى الى حد كبير عدا أن الذين يقومون به يلغون الجدية وخصوصاً المهرجين والمضحكين الذين يستدرون الضحك من الحضور بأي ثمن من أجل الحصول على لقمة العيش,, وكان أكثر المرتجلين من عرفوا بالمهرجين وهم أناس يعيدون أخطاءهم عنوة لجعلك تضحك عليهم وكانت لديهم موهبة للتصرف البديهي خلال العرض ولكنهم ايضا كانوا يلقون بهجائيات لأناس معروفين تضحك الجماهير الحاضرة من اسقاطاتهم المكنية.
وكثر المهرجون في العصر العباسي تزامنا مع ظهورهم بأوربا في ذلك الوقت لكن المهرجين لم يبنوا اعمالا فنية متراكمة تكتب تاريخا في سياق الفن المسرحي ولكنهم كانوا علامة في العاب السيرك وبقيت عروضهم مما لايمكن ان يوصف الا بالشعبي او المضحك وعرفنا أن الكنيسة في العصور الوسطى اتخذت موقفا مناهضا من فرق العرض في إيطاليا وصارت تطارد عارضيها في الشوارع فكانوا يقيمون مسارحهم على عربات اذا ماهاجمهم رجال الدين فروا.
وبعد ظهور المسرح من جديد وجد الارتجال من يتبناه وكانت هناك محاولات لجعل الارتجال أساسا لعمل مكتوب واستقطبت التجارب بهذا الخصوص في القرن الماضي المبدع المسرحي الكبير ستنسلافسكي وبدأ مشروعا من هذا النوع مالبث أن تخلى عنه بعد مغادرته مع أن أنطوني فروست ينسب لستنسلافسكي ارساء أول تاريخ للارتجال في التدريب الذي تبناه ويذكر فروست ايضا حصرا من ثلاث مهام للارتجال اولها المسرح التقليدي الذي يتبنى الارتجال في تدريبات متوالية للشخصية,, وثانيها تمارين الارتجال الخالصة للوصول للخبرة المسرحية من خلال تدريبات معملية مدروسة وثالثها التجريب من اجل الوصول لماهية مسرحية جديدة.
والذي فعله ستنسلافسكي هو حث ممثليه في البداية علىتبني شخصياتهم نفسها والانطلاق منها بعيدا عن التكلف بمعنى الطبيعية ومن ثم نقل هذه المشهدية وتوظيفها في اعمال مسرحية,, وحتى اذا نظرنا الى هذا الكلام اليوم بأنه شيء طبيعي فإنه في ايامه لم يكن شيئا طبيعيا اذ إن المعتاد في تلك الأيام أن يقوم المخرج بإعداد أدق التفاصيل ويلقنها للممثلين الذين عليهم أن يتبنوها ولا أدري لماذا ترك ستنسلافسكي منهجه الارتجالي المباشر لكن آخرين تولوه ليس هذا مقام سرد تجاربهم وحاول عرب من أمثال يوسف ادريس مع أنه قاص وليس مسرحيا الاستفادة من الفن الارتجالي تقنيا في مسرحيته الفرافير التي قدم لها بعشرات الصفحات محاولا اثبات جدوى ارتجالية (الفهلوي) او الفرفور كما يدعونه.
وهل نستطيع تبنيه في أي عمل ذي قيمة وهو سؤال صعب وتطبيق يفتح باب المسرح للمغامرين بدون ثقافة كما هوالحال الآن مع أن التاريخ المتسلسل للفن المسرحي يؤكد ان فن الارتجال كان يسير جنبا الى جنب مع سير تاريخ المسرح وفي اقطار مثل فرنسا نجد أن هناك مرحلة ارتجالية في اوائل القرن التاسع عشر انتهت بتبني اسس بنائية في الاخراج قضت على شوائب الارتجال.
وكما سبق فإن اللعب في عالم الارتجال يعني ان الممثل يستطيع ان يلعب خارج النص,, وهي مسألة يقول بها كاتب هذه السطور للمخرج وفي ظني أنه من الصعب تبني هذه المفاهيم للمثل على اطلاقها اذا لم يكن خلفها إعداد.
وفي حياتي المسرحية وجدت كتابا يكتبون اعمالهم وفي اذهانهم ممثلين يرتجلون الباقي وهي حالة لاتدل الا علىمستوى الدجل الكتابي,, ولذلك فإن المخرج الحصيف يعطي الممثل مساحة في البروفات ولكنه لايحسن أن يعطيه هذه المساحة لأن الممثلين قد يحاول كل منهم التطاول على العمل بطريقته الخاصة.
بقي سؤال كيف نرتجل وله حديث يطول.
|
|
|
|
|