| الثقافية
حفل القرن العشرون بمجموعة كبيرة ومتنوعّة ومختلفة ومتميزّة ومتطورّة وجديدة، من الشعراء العرب، لم يشهد مثلها، كماً وكيفاً، في أي حقبة من حقب تاريخه الطويل، ولا في هذا التاريخ كلّه، وعلى امتداد أكثر من خمسة عشر قرناً تم التأريخ لها، إذ اننا لا نعرف ماذا كان قبل الاسلام من حضارة وثقافة وفكر وفنون كانت موجودة بالتأكيد لدى الأمة العربية، وعلى الرغم من بداوته وظروف عيشها القاسية، بالمقارنة مع أمم أكثر منها بدائية وأصعب ظروفاً ولكنّها تركت آثاراً حضارية وثقافية وفكرية وفنية ماتزال تشهد على بداياتها، بعكس العرب الذين كأنهم ولدوا فجأة ودفعة واحدة قبل خمسة عشر قرناً، وإذا كان هذا الافتراض صحيحاً فما الاسباب التي كمنت وتكمن وراء هذا الغياب لتاريخ تلك الفترة؟
تنوّع وتعدّد وتمايز الشعراء العرب في القرن العشرين لا يعود إلى اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وظروف انتاجهم، فهي واحدة تقريباً، ولكنه ربما يعود إلى ما منحه إياهم هذا العصر وإعلامه وثقافاته من حريّة في الاختيار ووعي وقدرة في اختلاف الرؤى والمواقف وطرق التعبير.
وقد لا يكون من المجدي أن نصف هذا التنوّع والاختلاف بأنه قُطري، كما يحلو لبعضهم الحديث عن الشعر العراقي أو الشامي أو المغاربي مثلاً، بل ان نزيل هذه الحدود التي تؤطر الابداع جغرافياً وتصمه بجنسيات، وان نضع حدوداً افتراضية أخرى، وبخاصّة في ظلّ وجود تراث وهوية عربيّة واحدة هي اللغة العربية الفصحى الواحدة المشتركة ، وبحيث تكون هذه الحدود الافتراضية ذات أهداف لا تتجاوز الفهرسة والتوثيق أو التبويب او الدراسة، وبحيث تُساعد الدارس على تحديد الاتجاه الشعري الفنيّ الذي سيتناوله، وبخاصة أنه يستحيل دراسة هذا الكم الهائل من الشعراء العرب الذين ظهروا في القرن العشرين، وعلى أن يبدأ الفرز والتحديد من أهم مايميّز شاعراً عن آخر ويوضّح اختلافه او التقاءه معه ويبين ما بينهما من فروق أو تناقض أو تكامل، وهو الموقف.
بتحديد الموقف تتحدّد الرؤية التي تقف خلفه وتسنده، وان اختلفت طرائق التعبير عن هذا الموقف، ولا ينفي أو يُلغي اختلاف الطرائق وجود تكامل في كل عملية ابداعية حقيقية بين هذه الأبعاد الثلاثة، ووجود وحدة بينهما تُشكّل إطاراً لوحدة العمل الفنيّ بكل ما يمكن ان يتضمنّه هذا العمل من عناصر مختلفة تشارك في تحقيق هذه الوحدة وفي انجاز نوع مميّز من انواع النشاط الانساني، فيما هي تذوب في كيمياء تفاعلاتها وتفاعلاته.
ربّما، وعلى أساس من هذه العناصر الثلاثة، يتم تصنيف الاتجاهات العامّة، كالشعر القديم والحديث والأكثر حداثة، والاتجاهات الخاصّة كالكلاسيكية والرومانسية والرمزية والسريالية والواقعية والحسية الجمالية والعبثية والشكلانية وغيرها، والتمايز والفروقات بين شعراء كلّ اتجاه.
وربّما، وعلى هذا الاساس أيضاً، وبفعل التأثيرات الجديدة للفوضى الابداعية العالمية وانجازاتها المتواصلة، يصعب تحديد مذاهب أو مدارس أو انواع فنية وأدبية وسياقات كتابية يمكن وضع اصحاب الشعر الجديد من شعراء التسعينيات ومن تلاهم حتى الآن فيها، مما جعل بعض النقاّد الذين يشتغلون على هذا الإبداع الجديد الآن يعودون استغلالاً لهذه الظواهر أو على الرغم منهم إلى تقسيمات جغرافية او عرقية افتراضية، كأن يدرسوا أو يُصنفّوا مختارات من الشعر العراقي أو الشامي أو المغاربي او اليمني أو شعر الجزيرة العربية مثلاً، وهل سيقودهم هذا التقسيم إلى فرز شعراء كل مدينة وكل شارع وكل بناية؟
وهل الشعراء الجدد من شعراء جيل التسعينيات ومن تلاهم، من شعراء قصيدة النثر او التفعيلة الحديثتين جداً شعراء بدون رؤى ولا مواقف ولا طرق تعبيرية واضحة المعالم، وبحيث تصعب نسبتهم إلى مدرسة أو مذهب أو سياق أو نوع كتابي واحد يتم في داخله تأطير كل مجموعة منهم وبيان السمات والقواسم والمظاهر المشتركة في أعمالهم،، ولماذا؟
وهل يمثّل هؤلاء الجدد النموذج النهائي لما ينبغي أن يكون عليه الشعراء وليس الشعر في بداية الألفية الثالثة، من تمايز واختلاف وتفردّ وخصوصية، وإلى درجة أن يحاول كل شاعر حقيقي منهم أن يُصبح رائد ومدرسة نفسه وصاحب نوع كتابي أو أدبي غير مسبوق ولا يُماثله نوع آخر، قديم أو معاصر أومُجايل.
منذ بدأ الشعر العربي الحديث وانتشر في منتصف القرن العشرين وحتى جاء جيل السبعينيّات، استطاع النقاد ومؤرخو ودارسو ومصنّفو الآداب تصنيف الشعراء العرب ووضعهم في خانات وجداول وإطارات تختلف وتتمايز بناء على رؤاهم ومواقفهم وطرق تعبيرهم، بحيث كان هذا التمايز والاختلاف جماعياً لا فردياً، وبحيث ينخرط في كلّ اتجاه عدد كبير من الشعراء على اختلاف أجيالهم، وبحيث يُشكلون مدرسة أو مذهباً أو ظاهرة فنيّة واحدة، واشتدّ التقارب بين اصحاب كل اتجاّه الى درجة امتلاك كثير منهم لمشاعر وانفعالات وردود فعل وقضايا وأزمات وادعاءات متطابقة متماثلة وطرائق عمل وانتاج وأداء وقواميس ومعاجم ومفردات ورموز مشتركة، وقاد كل اتجاه رائد أو اكثر، مما جعل من السهولة بمكان تحديد جميع التابعين والمقلّدين والتلاميذ لهذا الرائد أو ذاك، وتحديد من يحاول الوصول إلى احدى هذه الدرجات الثلاث حتى ولو لم يصل إليها، وحتى أصبح وجود هذه الحالة مرضاً من أمراض الشعر العربي الحديث لم يبدأ شفاؤه حتى جاءت اجيال الابداع الحرّ غير المنتمي إلى أبٍ من الرواد ابتداء من مجيء جيل السبعينيات ثم الثمانينيّات وإلى أن بدأت بوادر الشفاء الحقيقية تظهر في طبِّ الشعراء الجدد من شعراء التسعينيات ومن تلاهم، ربّما بفعل الفوضى التي منعتهم من التقليد أو السير على طريق واحد.
|
|
|
|
|