| الثقافية
لقد تكلمنا في الحلقات الماضية عن الرواية بشكل عام من خلال البناء التاريخي عند روادها في العالم الغربي، واستغلال الحدث التاريخي، البعيد منه والقريب، وصياغة ذلك الحدث في القالب الفني الروائي, وقد يتخيل البعض من الناس أن الروائي مؤرخ أو جغرافي أو عالم اجتماع أو منظّر، أو غير ذلك, فالروائي، إنسان صاحب موهبة فنية طبيعية يستطيع العمل على جمع شتات تلك العلوم وصياغتها صياغة فنية في قالب يجمعها ليخرج منها ذلك الفن الذي يدّعي الرواية، ذلك البريق الذي سحب البساط من تحت الفنون الأدبية في نهاية القرن العشرين ليتربع عليه، ولا أعني بذلك أن تلك الفنون انتهت، لكن أعني أن الرواية اقتحمت معاقلها الحصينة وتسنمت الريادة وأخذت السيادة.
فيما مضى كان الشعر هو المسيطر، وهو الديوان الذي لم تعرف العرب ديوانا غيره كما قال عمر بن الخطاب، فهو الموروث، وسيبقى, لكن ليس بالديوان، ففي زمن القراءةوالكتابة يتغير كل شيء، ويظن البعض أن الفنون يسرق بعضها البعض، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالفنون يكمل بعضها البعض، ومن خلال هذا التكميل يحصل هناك ما يسمى بالجذب، وهذا الجذب يعني مايتوفر للقارىء من معلومات ممتعة قد لا يجدها في الفنون الأخرى، فالرواية هي الفن الوحيد الذي يستطيع الجمع بين دفتيه أكثر من فن وعلم في آن واحد, ويختلف النفَس الروائي من كاتب إلى آخر، ولا أعني بالنفس الروائي هنا الطول والقصر، لكني أعني مجموعة العوامل التي تتكون منها الرواية كعمل أدبي متكامل، ابتداءً من الاسلوب وانتهاءً بالحدث الذي أنشئت من أجله, ويوجد في داخل كل عمل راوٍ من جنس العمل، مهمته نقل الأحداث، وسنتكلم في هذا الموضوع في حينه، بعد أن نتوسع في الحديث عن الهيكل البنائي للرواية، او ما يحلو للبعض أن يسميه (أركان الرواية) وهي تلك الأركان التي يقوم عليها العمل الروائي، ولا يضير الروائي إذا حدد في عمله بتقديم أو تأخير عنصر من عناصر الهيكل الروائي، لكن يضيره إهمال أحد العناصر، وكان ذلك من العيوب التي أخذت على الروائيين الذين أرادوا التجديد في الرواية الجديدة في مطلع القرن العشرين, ولا يمكن أن يهمل الروائي ركنا من أركان الرواية بالقدر الذي يهمل فيه عنصرا من عناصرها، لكن العمل يكتمل إذا وجدت العناصر داخل الهيكل الروائي (البداية، والعقدة، والنهاية) ويوجد في داخل هذا الهيكل مجموعة العناصر التي يتكون منها العمل الروائي، وهي:
1 الزمان: وهي الحقبة الزمانية التي تتحرك فيها أحداث العمل الروائي، لا تحددها أرقام التواريخ المعروفة، ولكن تدل عليها معطيات الزمان وسماته المميزة، كالملابس والطعام والصناعة والسمة التاريخية الدالة على ذلك العصر، والرواية الزمانية تبدأ بزمن وتنتهي بزمن، كالرواية السيرية (الرواية السير ذاتية، الغيرية) ومن أمثلتها، الثلاثية لنجيب محفوظ، وسقيفة الصفاء لحمزة بوقري، والحرب والسلام لتولستوي، فهذه روايات اعتمد مؤلفوها الذاكرة الزمنية التاريخية الفنية، بخلاف الرصد التاريخي المحض، فذلك الرصد بإمكانه أن يكون قصة، لكن لايمكن أن يكون رواية.
|
|
|
|
|