| مقـالات
بالرغم من اللهجة الملطفة التي صدرت بها مقررات مؤتمر القمة الأخير فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك لم يشعر بالرضا عما تم التوصل له من نتائج لأعمال المؤتمر اذ اعتبر أن فيها ما يوحي بالتهديد لاسرائيل وأمنها.
إن هذا الموقف يقودنا للتفكير بمدى ما وصل له العنت الإسرائيلي والاستعلاء تجاه الدول العربية بأجمعها.
فعقدة العظمة هذه، ناجمة كما هو معروف عن الشعور بالقوة والتفوق بحكم ما تمكنت اسرائيل من امتلاكه من الأسلحة المتطورة وما كدسته من الأسلحة النووية البالغة الخطورة، ناهيك عن معرفتها الدقيقة بمدى مالها من تأثير ونفوذ على أصحاب القرار في الادارات المتعاقبة بالولايات المتحدة والتي تعارضت على الدوم في تعاملها مع قضية الشعب العربي الفلسطيني المسحوق منذ النكبة، مع جميع المبادئ التي تنادي بها ونص دستورها على معظمها.
وكلنا يعرف أن الولايات المتحدة هذه الدولة الأعظم في التاريخ هي في الواقع مسيرة بالنسبة للقضية الفلسطينية وليست مخيرة بحكم ما للنفوذ اليهودي الصهيوني من سيطرة محكمة على مختلف القوى الفاعلة في هذا المجتمع الكبير مما يطول الخوض فيه.
المهم، بالنسبة لهدفنا من وجهة النظر التي نعرضها هنا، هو نظرة اسرائيل إلى نفسها من زاوية الدور الذي يحتمل جداً أن تلعبه في العقود القادمة في المنطقة.
فهي لم تقم بانشاء المستوطنات في الضفة الغربية وغزة عبثاً, نعم لقد قامت بانشاء بضع مستوطنات في سيناء ولكنها ضحت بها قرباناً على مذبح محاولة تحييد أكبر دولة عربية هي جمهورية مصر العربية من مسرح معركة كسر العظم التي خططت لشنها منذ أمد بعيد على الشعب العربي الفلسطيني الأعزل كما هو حاصل حالياً تجاه حركة الانتفاضة الباسلة ووضعه أمام ثلاث خيارات لا غير: فإما الخضوع وقبول الأمر الواقع والعيش ضمن الحدود والمواقع التي ترسمها له اسرائيل، وإما الهجرة وترك أرضه وأرض الأجداد للغاصب المحتل، وإما الفناء التدريجي, ودليلنا على ذلك ان الدولة المبتورة الأوصال التي وافقت اسرائيل مبدئياً على انشائها في معاهدة أوسلو عام 1993م، لن تكون سوى مجموعة جزر صغيرة محاطة بمجموعات من المستوطنات التي تزداد كثافة بصورة متواصلة ويتزايد في الوقت نفسه سكانها المدججون بالسلاح يوماً بعد يوم، فحقيقة الأمر أنه لن يكون هناك اتصال مباشر بين معظم هذه الجزر بسبب هذه المستوطنات والحواجز المسلحة، أي أن الدولة الفلسطينية المنتظر ولادتها لن يكون لها من صفات الدولة وحقيقتها سوى الاسم والمطار الدولي الذي يمكن لأي ضابط اسرائيلي صغير اغلاقه متى رأت دولته ذلك.
وعلاوة على هذا الواقع الأليم فالضفة بحكم وضعها الجغرافي معزولة تماماً عن غزة بما يحتويه قطاعها من مستوطنات يهودية تزداد بصورة تدريجية كمستوطنات الضفة.
لقد تصور الكثير منا، عندما أعلنت نتائج مفاوضات أوسلو، ان المستوطنات اليهودية ستكون عبارة عن مراكز سكانية ستبقى محصورة في وسط خضم مدن وقرى ومزارع الضفة وأنها ستضمحل تدريجياً أو انها ستندمج بشكل تدريجي، مع المجتمع العربي الفلسطيني المحيط بها.
فإذا، كما تبين لنا الآن، أن ما حدث ويحدث هو خلاف ذلك تماما، وأن حسابات الإدارات الإسرائيلية واستراتيجيتها منذ أوسلو تختلف تماماً عن حسابات الجانب الفلسطيني الذي تولى جوانب المفاوضات ومخططاته للدولة المزمع انشائها.
وأن هدف اسرائيل البعيد الأمد هو تحويل أبناء الضفة إلى مجتمع بانتونات كما حدث في جنوب افريقيا بالنسبة للسود ابان حكم الأقلية البيضاء فيها وعزلها عن بعضها البعض وعن العالم الخارجي ضمن حدود تسيطر عليها الدولة الصهيونية سيطرة تامة وان هذه المخططات والترتيبات هي الضمان من وجهة النظر الإسرائيلية، لتحويل عيشة عرب فلسطين إلى حياة أقرب إلى حياة في الجحيم منها إلى معيشة شعب يستمتع بقيمه وبوجوده كأي شعب آخر من شعوب المنطقة أو خارجها, فحياة العزلة والقيود على حركة التنقل يضاف لها المشاكل الاقتصادية والزراعية ومشاكل المياه والبطالة وخلاف ذلك مما سيؤدي من وجهة نظر الإسرائيليين، إلى تحطيم معنويات أبناء هذا الشعب الأبي وتقليص آمالهم في عيشة كريمة ومستقبل مشرق في موطنهم وموطن أسلافهم منذ أقدم العصور.
إن حركة الانتفاضة الأخيرة وما واجهه فتيانها البواسل من كثافة غير مألوفة من نيران الجنود الإسرائيليين بدباباتهم وطائراتهم المروحية، ما هي إلا تعبير قوي عما أصبح الفلسطينيون يكابدونه من احباط لما انتهت له مسيرة السلام التي عقدوا عليها آمال كبيرة, أما من الجانب الإسرائيلي فقد أدركوا طبيعة هذه الفورة وأنها تعبر عن مشاعر حقيقية مكبوتة عند جميع أبناء فلسطين رجالاً وفتياناً وأنهم قد اخذوا على عاتقهم تقرير مصيرهم وكسب حريتهم بدماء شهداء انتفاضتهم.
لقد ادرك الإسرائيليون ان الفلسطينيين قد وعوا الدرس جيداً بأن المعركة التي بين الطرفين هي معركة وجود لا معركة حدود.
فإذا عدنا إلى مبتدأنا في هذه السطور وتفحصنا بدقة طبيعة نظرة الدولة الصهيونية وتقييمها لذاتها ضمن نطاق محيطها العربي وهو ما يجب على مختلف المراجع المخصصة لدى الدولة العربية تحليله وتفهم أبعاده بكل دقة ورؤية نجد أن من أهم مرتكزاته ما يلي:
1 ان اسرائيل قد تكون جادة في مسعاها للسلام على الأمد المنظور ولكنه يبقى سلاماً وفق شروطها وخاصة فيما يتعلق بالمدينة المقدسة والمستوطنات واللاجئين الفلسطينيين.
2 ان نسبة كبيرة من الاسرائيليين لا ترى في السلام الحقيقي مع الفلسطينيين في الضفة أو مع جيرانهم العرب أية مصلحة وطنية، لأنه بالنسبة لهم، سيؤدي في الأمد البعيد، إلى الاخلال بطبيعة وتركيبة المجتمع اليهودي ذاته وذوبانه في خضم المحيط العربي المترامي الأطراف.
3 ان الهدف الحقيقي لاسرائيل هو الهيمنة السياسية والاقتصادية الكاملة على دول المنطقة وخاصة الدول التي تشترك معها في الحدود, وقد يبدو هذا الهدف متوائماً في المدى القريب مع المصالح الأمريكية ومصالح بعض الدول الغربية إلا أنه في الأمد الأبعد لابد أن يتعارض معها ويتحول إلى النقيض من ذلك تماماً.
والأرجح ان هذا التناقض سيعود سببه إلى أن انفراد دولة واحدة بالتحكم بمقدرات بعض أو معظم دول المنطقة بما تحتويه من موارد طبيعية وما تمثله من مركز استراتيجي، أسوة بما كانت بريطانيا العظمى تمارسه من دور مؤثر وفعال قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية على العديد من دول المنطقة، حينما كان السفير البريطاني في عدد من هذه الدول يقيل وزارات ويؤثر على تشكيل وزارات أخرى ويسير معظم مجريات الأمور المصيرية في كل منها إذ لابد أن يؤدي ذلك كمحصلة نهائية إلى حتمية التصادم بين الولايات المتحدة وحلفائها مع الدولة الصهيونية الغاصبة.
فإسرائيل بحكم ضعف العامل السكاني لديها مقابل كثافة سكان الدول المحيطة بها، وخاصة بعد التجربة اللبنانية، تعلم أن انتهاج اسلوب التوسع العسكري غير وارد خاصة خلال العقود القريبة القادمة، إلا أن ذلك لا يعني وقوفها مكتوفة الأيدي فأمامها البديل الآخر بحكم تفوقها التكنولوجي والعسكري وقدراتها المالية والاقتصادية المدعومة من قبل المنظمات الصهيونية اليهودية العالمية وهو ما يعنينا في موضوع هذه السطور واشارتنا السابقة إلى ردة فعل باراك المتعجرفة في قرارات مؤتمر القمة العربية الأخير.
فردة الفعل هذه المليئة بالغطرسة ما هي حسب ظني، إلا اشارة لما يخبئه المستقبل لمعظم دول منطقتنا العربية، إن لم تكن جميعها من مفاجآت وتحولات على المستوى السياسي اذا لم تأخذ هذه الدول للأمر أهميته منذ الآن, ويتمثل هذا التحول المحتمل في تصوري إلى نزوع اسرائيل بصورة تدريجية وبتصميم وتخطيط محكم إلى تبني اسلوب الهيمنة السياسية ثم الاقتصادية ما دامت تحمل القبضة الحديدية التي يكفي التهديد باستعمالها عن استعمالها الفعلي لتحقق المطلوب اتباعه من هذه الدولة العربية أو تلك على الطريقة البريطانية أو كما قال ثيودور روزملت في بداية القرن الزائل: تحدث بصوت منخفض ما دمت تحمل عصا عليظة .
فعلينا إذاً أن لا نستبعد هذا الاحتمال من تصوراتنا نحو مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة إذ لم نعد أنفسنا من الآن للاستعداد له ومواجهته بكل ما لدينا من قدرات بشرية وعلمية وسياسية.
إن الليالي حبالى والقوي لا يرحم الضعيف، فعلينا أن ننهض من سباتنا ونعيد تقييم الأوضاع السياسية القائمة وخاصة من زاوية التحولات والتطورات المحتملة على مستوى المنطقة وان نكون على قناعة ان السلام الذي تسعى له اسرائيل هو السلام الذي يتفق مع شروطها ومتطلباتها وأهدافها القريبة والبعيدة الأمد ولا شيء غير ذلك، وأنها تعلم انها في سباق مع الزمن لأنها تدرك ان معركتها المصيرية في فلسطين وفي المنطقة ككل هي معركتها مع التاريخ والجغرافيا العربية.
لقد قال أحد زعمائهم السابقين: ان العرب قد يخسرون معارك عدة ولكنهم سيستمرون في البقاء، أما نحن فيكفي ان نخسر معركة واحدة فقط لينتهي بعدها وجودنا إلى الأبد.
|
|
|
|
|