أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 31th October,2000العدد:10260الطبعةالاولـيالثلاثاء 4 ,شعبان 1421

مقـالات

شعاع
د, طاهر تونسي
رمضان,, في مكة المكرمة
يقول الشاعر العربي:


كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل

يتجول الإنسان في اصقاع الأرض فرحلة للعلم ورحلة للكسب ورحلة للاستجمام والراحة واستجلاء محاسن الطبيعية, ولكنه مع ذلك تهفو نفسه إلى أول منزل عرفه وأول مكان تفتتت فيه أفكاره ونوازعه وأحلامه.
ومكة المكرمة هي المدينة التي أكرم الله سبحانه وتعالى صاحب هذه السطور بأن يولد فيها ويعيش ردحا من عمره في مقتبل ذلك العمر.
مكة المكرمة التي حوت المسجد الحرام والكعبة المشرفة وعين زمزم والصفا والمروة هي مكة التي زارها الكريم إبراهيم عليه السلام واستودعها ابنه الكريم الذبيح إسماعيل عليه الاسلام وأمه هاجر.
مكة المكرمة التي شهدت امتثال إسماعيل بن إبراهيم لأمر الله في الرؤيا العظيمة المشهورة.
مكة المكرمة التي ولد بها عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف الذي دعا الله يوم أقبل الفيل وأصحاب الفيل إلى البيت الحرام.
مكة المكرمة التي ولد بها محمد صلى الله عليه وسلم وولد بها المهاجرون من أصحابه.
يقول الله تعالى: (رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
فمن الطبيعي ان يكون رمضان في هذه المدينة الطيبة ذا طعم عذب وتميزٍ ملحوظ وان يترك في قلب من يشهده في مكة المكرمة أعذب الذكريات وأصفاها وأحلاها.
وان الذكريات لتهب على خاطري تذكرني بذلك الطفل الذي سمع ممن حوله ان رمضان قادم, لم يعلم وقتها من هو رمضان,, وأقول من لأن الطفل كان يحسب ان رمضان رجل كريم مفضل قادم يهش الناس ويبشون لمقدمه, ويعد الأيام منتظراً لمقدم الزائر الكريم, وتندفع اصوات المدافع معلنة رمضان ولا يرى شخصا ولكنه يستيقظ في بيته في إحدى حارات مكة المكرمة وهي حارة باب العمرة ويرى أن الدنيا قد عمها هذا الشيء الذي يصعب على القلم وصفه, كان النور قد غمر الدنيا بأسرها, كان كل شيء يعلن السرور ويبثه فيما حوله, ورأى الفتى والديه وقد تغيرت حالهما في مواعيد العمل والاستيقاظ, ثم رأى الفتى اختفاء الطعام في المنزل في النهار فكان على الفتى إذا أراد الطعام أن يذهب إليه بدلا من أن يقدم إليه, وأذن المغرب فكأن ظلمة المغرب نوراً أضاء القلوب وأشاع السكينة في النفوس وسحر الألباب وأخذ بمجامع الروح.
وتمر سنوات قليلة ويصبح كاتب السطور في العاشرة من عمره ويبدأ صيام رمضان فيرى جمال رمضان الحقيقي, وتأخذه رجلاه في مكة المكرمة في الثمانينيات الهجرية إلى أسواق مكة في عصر يوم رمضان, فيرى وما أجمل ما تراه عيناه في سوق الصغير ذلك السوق الذي اشتهر بين أهالي مكة أكثر من اشتهار أشهر الأسواق في العالم العربي, يرى سوق الصغير قد تحول إلى منظر يحتاج إلى شاعر مصور كصاحبنا علي بن العباس الرومي الشهير بابن الرومي حتى يصور لنا ما تعرضه الحوانيت من أطيب المأكولات المكية من حلوى وفطائر وما يحلو من الأشربة اللذيذة.
وتكون المتعة والتسلية بعد صلاة التراويح في الاستماع إلى المذياع وما يبثه من إذاعتنا السعودية التي كانت تستقطب كبار الأدباء في رمضان للكتابة لها من أمثال أحمد عبدالغفور عطار وأحمد محمد السباعي ومحمد حسن عواد ومحمد أحمد باشميل وغيرهم, ولا ننسى في هذا الصدد الإذاعة المصرية وما تبثه من برامج رائعة يأتي في مقدمتها القرآن الكريم بأصوات أعلام القراء من أمثال الشيخ محمد رفعت والشيخ علي محمود والشيخ محمد سلامة والمقرئ الذي تشرفت بمعرفته في أوائل السبعينيات من القرن الميلادي الماضي وهو الشيخ مصطفى إسماعيل - رحمهم الله رحمة واسعة-.
وتمر أعوام فيرى الكاتب نفسه في فصول المرحلة المتوسطة صائماً رمضان آخذاً نفسه بالعزم والحزم في أداء قيام الليل في المسجد الحرام مستمعاً للقرآن من أئمة المسجد الحرام أجزل الله لهم المثوبة, ولا يفوته مع ذلك حظه من التسلية بعد أن غزا جهاز التلفاز المنازل, فبعد عودته من صلاة القيام يشاهد الكاتب طرفاً من تلك الباقة الجميلة التي يهديها له التلفاز السعودي من مسلسلات كانت في يوم من الأيام تنطق بالعربية الفصحى عندما كانت الكاتبة الكبيرة جلبهار ممتاز ترسل روائعها من أمثال سر الغريب ومقامات بديع الزمان الهمذاني واليد الجريحة وغيرها.
وما إن يلتحق الكاتب بالمرحلة الثانوية حتى يرى نفسه مسؤولا في المنزل عن شراء احتياجات البيت من الطعام, وهو يحرص على حضور مجالس العلماء التي كانت تعقد بين العصر والمغرب في المسجد الحرام, كان المسجد الحرام يغص بحلقات العلم والعلماء أذكر منهم الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد والشيخ محمد العربي التباني والشيخ حسن المشاط والشيخ محمد نور سيف والسيد علوي مالكي والسيد أمين كتبي - رحمهم الله - وأجزل لهم عظيم الثواب.
إنها صورة عشتها لرمضان في مكة المكرمة في الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي لا تبرح مخيلتي, لقد استطاعت هذه الصورة ان تفرض نفسها على الذاكرة والقلب والنفس والوجدان, بسطت للقارئ ما استطاع القلم ان ينقله وتركت القلب يعيش بكامل الذكريات تغسل الوجدان تطهره وتغمره بأنوار الإيمان؟

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved