| مقـالات
من خلاصات الحكمة عند الشعوب قولهم: (خير عادة، أن لا يكون لك عادة)، لأن التعود على أمر ما، يرفعه الى درجة الملازمة في الحياة العامة، فيصعب الانفكاك منه، ولهذا,, وجدنا للعادة حضور في أمثال وحكم العالم؛ ففي بعض من دول أوربا يقولون: (العادة اقوى من الحق, والعادة ملكة العالم, والعادة أعظم قائد للحياة الإنسانية,, والعادة قانون غير مكتوب), ولكن العرب يقولون بأن: (للعادة على كل إنسان سلطان)، وجاء الشعر العربي ليصور هذا السلطان على أنه: (قيد) يطوق صاحبه قد يصعب الخلاص منه, يقول رشيد سليم الخوري:
نصحتك؛ لا تألف سوى العادة التي يسرك منها منشأ ومصير فلم أر كالعادات شيئاً بناؤه يسير؛ وأما هدمه فعسير |
ولكن الفنلنديين؛ يرون غير ما يرى شاعرنا الخوري، فهم يقولون بأن: (الوجه من صنع الله، والملابس من صنع مواردنا، والعادات من صنع إرادتنا),, وهذه الإرادة,, نحن الذين نملكها ونتحكم فيها؛ فهي التي في وسعها أن تتوقف عن صناعة عادة سيئة ومضرة.
* قد يأتي تبكيت للعادة على وجه العموم في أكثر من مسألة؛ لكن,, عندما تكون العادة مضرة؛ فهي بكل تأكيد؛ أسوأ عادة وأبغضها، فملازمتها للإنسان في حياته معناها؛ إلحاق الضرر به على وجه من الوجوه, وعادة التدخين؛ هي بكل تأكيد؛ أسوأ عادة على الإطلاق، لأن ضررها يأتي من عدة أوجه، أهمها صحة المدخن ووقته وماله ومظهره، ثم تتعدى بذلك إلى إلحاق الأذى بمن يحيط بالمدخن، فتلوث البيئة، وتفسد المكان, يستوي في ذلك التدخين بالسيجارة أو بالسيجار أو بالشيشة وما كان على ذات الشاكلة, يقول (فيناندر): (من الصعب الحياة بسعادة في ظل عادات سيئة), وعادة كهذه؛ أسوأ من سيئة، وصاحبها مقهور مغلوب، مسلوب الإرادة إلا من رحم ربي, ومن شعر معروف الرصافي؛ هذه الأبيات التي تصور حال العبودية التي تمارسها العادات ضد البشر:
كل ابن آدم مقهور بعادات لهن ينقاد في كل الإرادات يجري علهين فيما يبتغيه ولا ينفك عنهن حتى في الملذات قد يستلذ الفتى ما اعتاد من ضرر حتى يرى في تعاطيه المسرات عادات كل امرىء تأبى عليه بأن تكون حاجاته إلا كثيرات |
* إن عادة التدخين؛ من البلايا التي رزئت بها البشرية، وعم أذاها وخطرها الرجال والنساء والكبار والصغار، في كافة المجتمعات، وفي كل القارات، واصبح لهذا الأذى؛ شركات تزرع وتصنع وتركب وتنتج وتروج، ورؤوس أموال تدار بمئات البلايين، تزين البلاء وتغرر له، فتدير الأدخنة الزرقاء في الأرض وفي السماء، فتدور معها الأدمغة غير المدركة للخطر المحيط بها.
* كثير من الدول والشعوب؛ يتخذ من التنظيمات والتشريعات والتدابير المضادة؛ ما يكفي ذوي العقول النيرة، الذين يفهمون ويدركون الضرر الذي يتسبب فيه التدخين على صحة الناس وحياتهم وبيئاتهم، ولكن أين هم أصحاب العقول النيرة هذه؟! هل هم هؤلاء الذين يقرؤون التحذيرات والتنبيهات على علب الدخان,,؟ يقرؤونها وكأنها حض وحث وترغيب؛ لا نهي وتحذير وتنبيه,,!!
* في المملكة على سبيل المثال؛ جاءت إجراءات مبكرة قبل عدة سنوات، بدأت بفرض رسوم جمركية عالية على بضاعة الدخان، ثم جاء حظر نهائي للإعلان الترويجي في وسائل الإعلام ومنها التلفزة، وكان في قمة هذه الإجراءات؛ القرار الوزاري الذي يمنع ويحظر التدخين أثناء العمل في المؤسسات والدوائر الحكومية، وبذلت الخطوط السعودية جهدها لحظر التدخين على متن رحلاتها الداخلية، وبادرت أسواق ومحلات تجارية الى مقاطعة التدخين وعدم بيعه، وشاعت بحوث ودراسات علمية تثبت الضرر الصحي والبيئي للتدخين, ولكن على ما يبدو فإن عدد المدخنين يزداد بشكل مخيف، وتجاهل التحذيرات والتنبيهات ونتائج البحوث العلمية المؤكد واضح، بل إن هناك تجاهل أكبر للأوامر السامية في هذا الخصوص؛ يفضحه المدخنون في مكاتب ومقار عملهم، وتفضحه (الشيش) التي تنتصب في زوايا وغرف داخل بعض المؤسسات الحكومية والاهلي، وتقدم لرواد المقاهي في الأحياء وداخل المدن، ويكشفه علانية؛ إصرار بعض ركاب الرحلات الداخلية على التدخين في الفضاء؛ رغم كل التحذيرات المتكررة، ورغم كل ما يبذله المضيفون والمضيفات من جهد؛ في الطلب الى المدخنين؛ أن يكفوا عن هذه العادة السيئة حتى تهبط بهم الطائرة بسلام.
* لا أدري متى وكيف ننتهي من هذا الوباء,,؟ هل نبحث عن عادة أخرى مضادة لعادة التدخين قد تنسيانها,,؟ لم لا,, فإن (ابيكتات) يرى بأن: (دواء العادة؛ عادة مضادة), وعادة مضادة ينبغي أن تكون مفيدة.
* لقد جاء التبغ الى أوروبا أول مرة؛ عن طريق الهنود الحمر والبحر الكاريبي؛ بعد رحلة (كريستوفر كولمبوس) قبل اكثر من ستة قرون، وكانت أمريكا الوسطى؛ هي منبته ومنبعه الى الهند والصين وأوروبا والشرق الأوسط؛ ثم احتلت الولايات المتحدة الامريكية؛ المرتبة الثانية بعد الصين في زراعة التبغ، وصناعة منتجاته وتصديرها، لكن أمريكا هذه؛ تشن اليوم أعظم؛ و,, (أجمل) حرب ضد التدخين والمدخنين، حتى أصبح من يمارس هذه العادة داخلها؛ في عداد المنبوذين في المجتمع الأمريكي,,! فقد صدرت قوانين وتشريعات تكافح التدخين بشتى صوره، وتلحق المدخنين وتطاردهم في البيت والشارع والعمل، وفي المطاعم والقطارات والحافلات، وراح المجتمع ينظر الى المدخن في عمارة أو مكان عام نظرته إلى مجرم يجب معاقبته,,! وفي بعض المطاعم؛ خصصوا مناضد قريبة من دورات المياه لممارسة جريمة التدخين؛ لكنها لم تدم طويلاً فألغيت,,! وفي مطاراتهم؛ بنوا غرفاً زجاجية ينحشر فيها المدخنون تحت سحابات من الدخان الأزرق، بينما يتفرج عليهم من بالخارج وهم يضحكون من هذا المنظر الهزلي,,!! وبدأت حرب جادة ضد بيع وشراء الأطفال والمراهقين للسجائر، ولم يعد أمام المدخنين في المدن الأمركية؛ سوى الشارع العام، ينزلون إليه من الشقق والطوابق لممارسة التدخين، بعيدا عن شكايات الآخرين من السكان.
* أمريكا نفسها؛ التي تزرع التبغ؛ وتصنع وتنتج شتى أنواع الدخان؛ وتصدره لكافة أنحاء العالم؛ قامت بحظر التدخين في جميع الطائرات التي تطير فوق أراضيها، ومنعته بشكل حاسم؛ على متن جميع الخطوط الأمريكية والأجنبية التي تعبر المحيط الى الولايات المتحدة، وعلى كل شركة طيران تطير الى هناك؛ أن تتبرأ من جريمة التدخين على متنها، وأن تثبت أن جميع ركابها؛ برآء من هذا الوباء الخطير، وإلا,, فلتعد أدراجها,,!
* ونتيجة لهذه الإجراءات الصارمة؛ ارتفع سعر علبة الدخان ارتفاعاً كبيراً، وتم تغريم شركات التبغ والدخان الكبرى؛ مليارات الدولارات، وجاء ذلك؛ في قضايا مدنية رفعها ضدها في المحاكم؛ مدخنون سابقون تضرروا من هذه العادة بشتى أنواع الأمراض السرطانية وغيرها، وظهر ان كثيرا من المدخنين؛ تعالوا على كبرياء هذه العادة البغيضة؛ فتخلوا عنها تحت طائلة الملاحقة، والشعور بالاضطهاد الرسمي والاجتماعي، ومهما جاء من تصنف ووصف لهذه الاجراءات والتشريعات؛ فإنها تظل حقاً مشروعا للمجتمع، ضد أشخاص لا يؤذون أنفسهم فحسب؛ بل يمتدون بهذا الأذى الى كافة أفراد المجتمع، ولم يستطع احد في أمريكا إثارة قضية تتعلق بحقوق الإنسان؛ أو المساس بالحريات الخاصة، لماذا,,؟ لأن المدخنين؛ يلحقون الضرر بالكل؛ وينتهكون حقوق المجتمع، ويلوثون حياة الناس وبيئتهم.
* كل هذا حدث ويحدث كل يوم؛ في أكبر دولة في العالم تزرع التبغ، وتنتج وتصنع الدخان؛ ويخرج منها عبر الأقمار الفضائية في كل لحظة؛ مواد إعلامية مصورة عن أدق الحوادث وأتفهها، وتتلقفها وسائلنا العربية للعرض والترويج و(الحقن) السمعي والبصري,, إلا ما يحدث بشأن هذه الحرب الجميلة ضد الدخان والمدخنين، فنحن نستورد ونروج ما يصب في حسابات الشركات العالمية، ولا نقترب مما يؤذيها أو يخل بأرباحها، وكأن وسائلنا الإعلامية؛ تدار من مصانع ومزارع الشاي والحليب والتبغ، فلا نجرؤ على الكلام ولو بالنقل، كما هي عادتنا, العادة التي لا ينبغي ان تسيطر على حياتنا مثل ما تمكنت منا عادة التدخين الخبيثة.
وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (العادات قاهرات؛ فمن اعتاد شيئاً في السر؛ فضحه في العلانية).
* إن الذين يزرعون ويصنعون ويصدرون ويكسبون مئات البلايين من وراء التبغ والدخان ومشتقاته؛ يخوضون اخيراً حرباً شعواء ضد هذه الآفة، بعد انكشاف خطر التدخين على الصحة بصورة مباشرة، أما نحن؛ فما زلنا نستورد هذه البضاعة الضارة، ونروج لها إعلامياً ويظهر بعض القادة (النشامى) منا في القنوات الفضائية؛ وهم يدخنون السيجار الكوبي غالي الثمن، فينظرون ويحثون الناس على الصمود والتصدي والجوع، من أجل الحزب والأمة والقومية العربية، في الوقت الذي فيه؛ يقف مواطنوهم في طوابير طويلة، من أجل رغيف خبز، وحفنة رز، ويبيعون أثاث بيوتهم، لسد رمق أطفال حفاة عراة، مرضى جوعى,,!
* متى نملك الشجاعة الكافية؛ فنتصدى لغول الشركات العالمية وسماسرتها، ونخوض حرباً على السيجارة والسيجار والشيشة,,؟!
* ومتى ننتصر على أنفسنا؛ فنعلن الحرب على عادة التدخين,,!!
* قرار (الحرب)؛ بيد المدخنين والمدخنات؛ الذين يمارسون (عادة قبيحة) يلعنونها صباح مساء,,!!
|
|
|
|
|