أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 28th October,2000العدد:10257الطبعةالاولـيالسبت 1 ,شعبان 1421

الثقافية

الحوار هو الشّرط الأوّل لتحقيق مبدأ العدالة
(قراءة في كتاب الفقهاء والخلفاء للدكتور سلطان بن حثلين)
د, عبدالله خلف العسّاف *
من المصطلحات الأثيرية التي ظلّ الإنسان يرددها وما يزال: العدالة، والديمقراطية، والمساواة، وحقوق الإنسان, لقد كانت هذه المصطلحات تتغير من عصر إلى آخر لكن معناها، وبحث الإنسان عن مفردات تناسبها كان شغله الشاغل, إن كثيراً من العلوم الإنسانية ظل على مدى عصور طويلة مهتماً في وضع نظريات للبحث في هذا الموضوع، وكذلك كافة التيارات الفكرية، وامتداداتها التي لاتكاد تنتهي كانت تنطلق من الهدف المذكور, إن الشعور بالظلم هو السبب الرئيسي في قيام حرب طروادة بين اليونانيين والطرواديين، وإن الجور الذي كان يقع على شعب أورك قبل آلاف السنين هو السبب المباشر للصراع الشهير بين أنكيدو وجلجامش، وهو نفسه الذي دفع هذا الأخير بعد أن فقد غصن الحياة الأخضر لكي يؤمن أن خلود الإنسان ليس ببقاء جسده على قيد الحياة، وإنما في ما يقدمه من أفعال خيّرة، وعلى رأسها رفع الظلم عن عامة الشعب, ولعل ظهور قوانين حمورابي المبكرة ليدل دلالة واضحة على أن همَّ الإنسان الأول كان عبر التاريخ، ليس البحث عن المساواة فحسب، وإنما تحقيقها.
إن أحد الأهداف الرئيسية التي سعت الأديان لتحقيقه هو إنصاف المظلوم من الظالم, ولعل الدين الإسلامي هو أكثرها اهتماماً بهذه المسألة، وذلك من خلال ما أورده من آيات قرآنية، وما ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث، وهو الذي كان يردد قوله تعالى حين دخل فاتحاً مكة: (وقل جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً), والحق تمثّل في تحقيق العدالة، والباطل يعني الظلم, وقد كان من أهم أسباب الخلاف بين الحاكم والمحكوم في العصور اللاحقة: العصر الأموي، والعصر العباسي والمملوكي ينبع من الخلاف حول مفهوم العدالة، وأشكال تطبيقها.
إن الحديث عن العدالة، والمساواة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأساليب تطبيق ذلك هو جوهر الحديث الذي شكّل المادة الأساسية من الكتاب الجديد للباحث السعودي الدكتور سلطان بن خالد بن حثلين الذي صدر مؤخراً هذا العام 2000م عن دار عمار للنشر والتوزيع في عمّان، وهو يجمع بين الدين والسياسة معاً، ويسعى فيه المؤلف إلى بيان مواقف بعض أشهر فقهاء أهل السنّة والجماعة من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من السلطة السياسية في العصرين الأموي والعباسي (60 245)ه.
يقع الكتاب في 192 صفحة من القطع الكبير، وقد تضمّن مقدمة وخاتمة، وثلاثة فصول، وذُيِّل بقائمتي مراجع باللغتين العربية والإنكليزية, تضمّن الفصل الأول مواقف الفقهاء من الدولة الأموية، وتناول الفصل الثاني مواقف الفقهاء من الدولة، الحكم العباسي، وتضمّن الفصل الثالث وسائل المواجهة بين السلطات السياسية والفقهاء.
يحدد المؤلف منذ البداية مجال بحثه بقوله: إن الباحث في تاريخ الدولة الإسلامية بعد العهد الراشدي لا يمكنه إغفال الإشكالية في العلاقة بين الفقهاء والسلطة السياسية في العصور اللاحقة, هذه العلاقة التي اتخذت طابع الصراع والحذر والريبة وعدم التوافق في الآراء والرؤى بين كل من الطرفين، أدت إلى بروز الفقهاء كفئة مستقلة تعبِّر عن روح الجماعة وآمالها في العودة إلى العهد الراشدي.
ويشير إلى أن دور الفقهاء في المجتمع الإسلامي تنامى، واختلفت نوعية مشاركتهم في الأحداث السياسية، وفي طبيعة علاقتهم، وموقفهم من السلطة نظراً لاختلاف الفقهاء حول الأولويات، وكيفية تحقيق الإصلاح السياسي بمعناه الشامل.
ويحدد بعد ذلك أهداف الدراسة التي تبدو من خلال بيان مواقف الفقهاء المختلفة من السلطة السياسية، وأنهم لم يكونوا بعيدين عن الواقع السياسي للأمة, وهو يؤكد بهذا الصدد أن موقف الفقهاء من السلطة فُهم فهماً خاطئاً من بعض الأطراف؛ فاتهمهم بعض المستشرقين بأنهم كانوا فقهاء للسلطة ودعاة خضوع مطلق للحاكم، حتى لو كان مستبداً وجائراً، وانهم حرموا الأمة من التمرد على الظلم وساهموا بفتاويهم وكتاباتهم على تبرير تجاوزات السلطة؛ مما أدى إلى تردي الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمع الإسلامي, وهناك فئة من الحركات الإسلامية لم تجد في مواقف الفقهاء سوى موقف الرأي الذي انتهج المقاومة المسلحة الخروج على السلطة ، ومن ثم أصبح اللجوء إلى العنف هو الوسيلة الوحيدة لديهم لتحقيق الإصلاح.
يرى الباحث أن كلا الرأيين المستشرقين والداعين إلى استخدام العنف على طرفي نقيض، كلاهما خاطىء, وهو ضمن هذا الإطار يؤكد أن مواقف الفقهاء اختلفت وتباينت، فموقف أغلب الفقهاء لم يكن أبداً داعياً إلى العنف أو إلى الخضوع بل إن تلك الفئة من الفقهاء التي أرغمتها الظروف على المواجهة المسلحة ضد السلطة كانت لها ظروفها الاجتماعية والسياسية الخاصة بها التي انتهت بانتهاء تلك الفترة، وأن مواقف الفقهاء من السلطة السياسية بعد تلك المرحلة اتخذت أشكالاً عديدة أكثر إيجابية وتأثيراً في الواقع السياسي والاجتماعي للأمة، بعيداً عن العنف، والخروج على السلطة.
يتناول الفصل الأول من الدراسة الدولة الأموية, حيث أدت التغيرات السياسية التي أحدثها الأمويون في نظام الحكم الإسلامي وغياب العدل وانتشار الظلم والاستبداد والاستئثار بالأموال العامة، كل هذه الأمور أدت إلى معارضة أغلب الفقهاء للحكم الأموي.
ومع أن هذه المعارضة لم تبرز بشكل قوي ومؤثر في عهد معاوية، وذلك لعدله وحلمه ولفضله كصحابي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمعت عليه كلمة المسلمين إلا أنها بدأت تأخذ طابعاً جديداً ومؤثراً في الأحداث والفترات اللاحقة.
ويؤكد الباحث ان فترة حكم يزيد بن معاوية تعتبر من أهم الفترات في العلاقة بين السياسة والدين في التاريخ الإسلامي؛ وذلك لسببين، أولهما أن أبرز المعارضين من العلماء والفقهاء كانوا من الصحابة وأبنائهم ممن كان لهم السيادة في قريش والمكانة الرفيعة في المجتمع الإسلامي، وبخاصة أن الحسين بن علي، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير كانوا من الناحية الدينية يمثلون المرجعية الشرعية للمجتمع،ويدل على مكانتهم الفقهية قول عبدالرحمن بن أسلم عنهم: (لما مات العبادلة؛ عبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو صار الفقه في جميع البلدان إلى الوالي), كما أنهم من الناحية السياسية كانوا يمثلون القيادات السياسية البديلة والمنافسة للحكم الأموي, ويتمثل السبب الثاني في أن المواقف السياسية لهؤلاء العلماء والفقهاء وفتاويهم السياسية أصبحت هي أحد أهم المصادر الرئيسية الذي اعتمد عليه كثير من الفقهاء في العصور اللاحقة، وتأثرت بآرائهم المدارس الفقهية المختلفة,ويضع الباحث المعايير التي انطلق منها الفقهاء في تحديد علاقتهم بالسطلة في عهد بني أمية، وهي طبيعة عمل الفقيه، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووحدة الكيان السياسي للأمة الإسلامية، وشرعية السلطة.
وبناء على هذه المعايير ظهر بعد وفاة معاوية وتولي يزيد للخلافة اتجاهان مختلفان للفقهاء، وإن كان يجمعهما انتقادهما للحكم الأموي، وهما:
الفئة الأولى: وترى أن حكم بني أمية جائر وغير شرعي، وأن الأمويين قد انحرفوا بالخلافة عن أصولها وحولوها إلى حكم ظالم، يضاف إلى ذلك تصرفاتهم الاستبدادية بالأموال، وجور ولاتهم وبطشهم بمعارضيهم، وأن هذه الأمور منكر يجب تغييره بالقوة، وإعادة الأمر شورى بين المسلمين، وإقامة العدل بين الرعية, وعلى ذلك ترى هذه الفئة عدم صحةمبايعة بني أمية ووجوب الخروج عليهم, ومن اصحاب هذا الاتجاه: الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير،وبعض فقهاء المدينة ممن شارك في موقعة الحرّة، والفقهاء الذين شاركوا ابن الأشعث، ومنهم سعيد بن الجبير.
أما الفئةالثانية فرأت ان حكم الأمويين ظالم، واستبدادي، وأنه انحرف بالأمة عن المنهج السليم للحكم الإسلامي؛ من شورى وبيعة اختيارية للأمة، ولكنها خالفت الفئة الأولى في كون السلطة شرعية، وأن البيعة لها ملزمة للأمة، وأن شرعيتها تمليها ضرورة الأمر الواقع ووحدة الجماعة, وعلى ذلك فهي لاترى الخروج على بني أمية بل تستنكره، وتكتفي بمناصحة حكام بني أمية وانتقادهم، وعدم تقلد أي مناصب وظيفية لهؤلاء الحكام، وهو نوع من العصيان المدني والمعارضة السلبية اللاعنفية للحكم الأموي.
ومن زعماء هذه الفئة عبدالله بن عمر، وفقهاء المدينة السبعة، أي مدرسة المدينة بشكل عام.
وينطلق الباحث في بسط تفصيلي لمواقف الفئتين المذكورتين من خلال عرضه المنهجي للمواقف ودعمها بالأدلة الشرعية التي بنى هؤلاء الفقهاء عليها مواقفهم.
ينتقل الباحث بعد ذلك إلى الفصل الثاني الذي يتناول فيه مواقف الفقهاء من الدولة العباسية، حيث يؤكد أن الدولة العباسية قامت في ظل دعوة تأسست على تراث المعارضة العلوية،وحركات أخرى قاومت الحكم الأموي من موقع الدين، ورفع شعارات العدل والمساواة، واتباع القرآن والسنة في الحكم, وكانت آمال كثيرة من العلماء والفقهاء تطمع في أن ترى في الحكم العباسي عودة حقيقية لتلك المبادىء التي قامت عليها دعوتهم, ولكن ما إن استولى العباسيون على السلطة، حتى اتضحت معالم سياستهم في الحكم, هذه السياسة التي لاتختلف عن الحكم الأموي، ومن هنا بدأ إحساس العلماء بالإحباط والأسى واليأس من إعادة الحكم إلى الشورى وسيرة الخلفاء الراشدين.
ويرى المؤلف أن الحكم العباسي لم يختلف في ظلمه وجوره واستئثاره بالسلطة والأموال, وكذلك موقف الفقهاء منه لم يختلف كثيراً عن موقفهم من الحكم الأموي، فقد كانت أغلب فئات الفقهاء ترى فيهم حكماً مستبداً، ولكن يلاحظ أن أغلب الفقهاء كانوا يحرصون أشد الحرص على عدم الانخراط في أي ضرب أو نشاط يدعو إلى الخروج على العباسيين.
لقد أصبح التيار السائد بين الفقهاء في العهد العباسي يقول بوجوب الموازنة بين وحدة الجماعة وتغيير المنكر، وأصبح موقف عبدالله بن عمر، وسعيد بن المسيّب ومدرستهما هو الطابع الغالب على المفتين.
ويرى الباحث أن تلك الفئة من الفقهاء التي ترى الإصلاح من خلال العمل في وظائف الدولة في العهد الأموي أصبحت أكثر انتشاراً وشيوعاً في العهد العباسي،ومن أبرز روادها الإمام أبو حنيفة، والقاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وقد بنت هذه الفئة موقفها على الأدلة الشرعية واستنبطت فقهية تدل على إلمام كبير بالواقع السياسي والاجتماعي للأمة الإسلامية.
ثم يستعرض المؤلف بشكل تفصيلي مواقف الأئمة الأربعة من الحكم العباسي: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ثم موقفي الإمامين القاضي أبي يوسف، والشيباني .
وفي الفصل الثالث يتناول الدكتور ابن حثلين الأساليب التي كانت تستخدمها السلطة مع الفقهاء وللأساليب التي اتبعها الفقهاء مع السلطة.
ومن خلال قراءة أولى لهذا الكتاب يلاحظ القارىء أن المنهج الذي اعتمده الباحث في دراسته للمتن هو منهج إسلامي يدعو من خلال استعراضه للمواقف المختلفة للفقهاء في الدولتين الأموية والعباسية إلى تأسيس مبدأ العدالة في العصر الحديث بناء على النقاء الذي كانت تتميز به في العصر الراشدي، وأن المشروع الثقافي لتحقيق الإصلاح في الدولة الإسلامية ينطلق ضمن هذا الإطار من مفهوم العدالة الذي أسس في صدر الإسلام، وطُبّق في العصر الراشدي، وطالب به الفقهاء فيما بعد, ويرى الباحث أن كل ذلك لايتم بالسلاح أو العنف، وإنما بالحوار والمشاركة الإيجابية الفعالة في النظم السياسية القائمة مع المحافظة على استقلالية الفقهاء, إن هذا الأسلوب يعتبر أنجع طريقة لتحقيق الإصلاح المنشود.
وتبدو المنهجية في النص الذي بين أيدينا من خلال نجاح الباحث في تنظيم جزئيات بحثه، والترتيب المنطقي لأفكاره، والتوازن بين الفصول، وطريقة العرض إذ كان يأتي بالموقف ثم يدعمه بالحجة المباشرة, وكانت معظم الحجج التي كان يوردها آيات من القرآن، أو الحديث الشريف، أو الحوار العلمي.
ومن الحسنات المنهجية أن الباحث لم يُثقل بحثه بالمصطلحات، ولم يلجأ إلى استخدام مصطلحات غائمة، وإنما استخدم المتفق عليه منها ، وكان استخدامه لها في ثنايا البحث واضحاً وموفقاً.
وقد بدت اللغة العلمية واضحة، مباشرة، تقريرية تناسب طبيعة البحث الذي لا يناسبه سوى هذا النوع من اللغة, فالبحث يجب أن يكون دقيقاً في طرحه، وفي جمله ومفرداته, ولم يشكُ البحث من ترهّل أو تزيّد أو تقعّر وما إلى ذلك.
أما الرؤيا في البحث فبدت لنا من خلال سعي الباحث الحثيث كما يبدو إلى اسقاط مواقف الفقهاء في العصرين الأموي والعباسي على العصر الحديث، وذلك من خلال دعوته غير المباشرة إلى تحقيق الإصلاح السياسي في البلاد العربية والإسلامية الذي يجب أن يقوم على مبدأ الحوار، لامبدأ الشجار والنار, وقد أثبت هذا الموقف الأخير فشله من خلال التجارب القديمة والحديثة، ولم يجلب إلى الأمة سوى الدمار والتخريب.
نتمنى لصاحب الكتاب وللكتاب التوفيق والنجاح في تحقيق الهدف الرفيع الذي يسعى إليه، وهو تحقيق العدالة من خلال الحوار، وربما كان هذا هو هدف الكتاب الاساسي غير المعلن,إن المؤلف قد تجاوز بطرحه التكاملي هذا الاتجاهات الفكرية الواحدية التي انتشرت بين أوساط المفكرين والمثقفين العرب في مراحل الخمسينيات، والستينيات، والسبعينيات، والتي كانت تقرأ الظاهرة أية ظاهرة من زاوية واحدة لا سواها.
*جامعة حلب كلية الآداب


أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved