| مقـالات
مفردات اللغة تدل على مسمى سابق سواأُ أكان عيناً موجودة، أم فكرة في العقل تخيلة، أم تجريداً عقلياً من شيإٍ أو أشياأ,, هذه بديهة ملموسة في التجربة والممارسة,, ولكن سوسير في انجيله اللغوي الجديد يكابر هذه البدهية، وأنا أنقل كلامه مجزأ من ثلاث ترجمات عربية,, يقول في الترجمة العراقية (1) : يعد بعض الناس اللغة في جوهرها عملية لتسمية الأشياإ ليس إلا,, أي أنها قائمة من الألفاظ,, كل لفظة تدل على الشيإ الذي تسميه، فعلى سبيل المثال شجرة تدل على مسمى صور سوسير نموذجاً له من الشجر ، وكلمة حصان على حيوان رسم صورته ,, إلى آخره,, إلى آخره,, إن هذا الرأي يمكن انتقاده في عدد من النقاط,, ثم ذكر النقطة الأولى، فقال: فهو يزعم أن الأفكار معدة مسبقاً، وموجودة قبل الكلمات (2) ,, وهذا الزعم عند سوسير خاطأ، وسيبنى على بطلانه القول بأن اللغة دلالة على الأشياإ، لأن هذا التعريف للغة يلزم منه الزعم بأن الأفكار معدة مسبقاً.
ودليل سوسير على دعوى بطلان أسبقية الأفكار هذه الدعوى الثانية: لا توجد أفكار يسبق اللغة وجودها، ولا تتميز هذه الأفكار قبل ظهور اللغة ,, وهذه الدعوى الثانية بناها على تجربة وإجماع، فإن صحت تجربته وحكايته للإجماع فدعواه الثانية برهان، لأن ما بُني على البرهان فهو برهان,, يقول عن التجربة: إن تفكيرنا من الناحية السايكولوجية إذا أغفلنا التعبير عنه بالكلمات ما هو إلا كتلة غير متميزة لا شكل لها .
ويقول عن الإجماع: وقد اتفق الفلاسفة وعلماأُ اللغة دائماً على أنه لولا الإشارات لما استطعنا أن نميز تمييزاً واضحاً ثابتاً بين فكرتين ,, وعلى هذين البرهانين بنى ما أسلفته من الدعوى الثانية التي عبر عنها بتعبير آخر، فقال: فلولا اللغة أصبحت الفكرة شيأ مبهماً غير واضح المعالم (3) .
وفي الترجمة التونسية: تمثل اللغة في نظر بعضهم إذا أرجعت إلى مبدئها الأساسي مصطلحية,, أي قائمة من الكلمات موافقة لعدد مماثل من الأشياإ ثم ذكر شجرة وحصاناً كلمة وصورة,, إلخ ,, لكن هذا التصور قابل للانتقاد من عدة أوجه، فهو يفترض وجود أفكار سابقة لوجود الكلمات (4) ,, ثم يقول: إن فكرنا من الناحية النفسية وبقطع النظر عن التعبير بالكلمات لا يعدو أن يكون كتلة مبهمة الشكل غامضة الملامح,, وقد اتفق جميع الفلاسفة واللغويون في كل العصور على الاعتراف بأنه لولا الاستعانة بالدلائل لكنا عاجزين عن التمييز بين فكرتين تمييزاً واضحاً دائماً، فمثل الفكر إذا اعتبرناه في حد ذاته كمثل السديم حيث لا شيأ معين الحدود بالضرورة : فلا أفكار موجودة سلفاً، ولا وجود لأي شيإ متميز قبل ظهور اللغة (5) .
وفي الترجمة المصرية: ينظر بعض الناس إلى اللغة عند تحليلها إلى عناصرها وكأنها عملية تسمية فقط (6) ,, قائمة من الكلمات تتطابق كل منها مع الاسم الذي تدل عليه,, على سبيل المثال هذه الفكرة مفتوحة للنقد من عدة جوانب: إنها تفترض أن الأفكار الجاهزة توجد قبل الكلمات (7) .
ثم يقول: إن أفكارنا من ناحية نفسية منفصلة عن التعبير عنها في كلمات ما هي إلا كتلة مشوهة غير واضحة,, يتفق الفلاسفة واللغويون دائماً على الاعتراف: بأنه من غير الاستعانة بالعلامات فإننا لا نستطيع عمل فواصل واضحة وفارق ثابت بين فكرتين (8) .
قال أبو عبدالرحمن: أكتفي بهذا القدر من كلام سوسير حتى لا أتشتت بكم، وأناقشه بهذه الوقفات:
الوقفة الأولى: في الترجمة العراقية: إن اللغة عملية لتسمية الأشياإ ليس إلا,, وفي التونسية: إنها مصطلحية,, وفي المصرية: كأنها عملية تسمية فقط,, والترجمة التونسية عن الطبعة الفرنسية عام 1916م بجمع وترتيب تلاميذ سوسير، والترجمة العراقية والمصرية كانتا عن الترجمة الإنجليزية.
قال أبو عبدالرحمن: إنني أجد في ترجمتين ليس إلا ومرادفتها فقط وتخلو التونسية من هذا الاحتراز.
قال أبو عبدالرحمن: إن صح ان سوسير ذكر هذا الاحتراز فهو احتراز في محله، لأن كل المفردات أسماأ، فالفعل اسم للحدث، والوصف اسم للمعنى بغض النظر عن اسناده إلى شيإ آخر، والحرف اسم لمعاني الرابطة بغض النظر عن ربطها بين شيأين,, إنها أسماأ للذوات والمعاني وأزمنة حدوثها، فضرب الفعل اسم لايقاع حدث في زمانه.
وإن كانت مصطلحية من تعبير سوسير فقد اتفقت الترجمتان الأخريان على ايضاحها بأنها تسمية للأشياإ، وهذا بدهي مفهوم من السياق، إذ مثل بالشجرة والحصان، وذلك هو المعنى المعجمي المتوارث لا الاصطلاح العلمي الخاص,, مع أن الاصطلاح العلمي امتداد للتسمية اللغوية.
أما ترجمة كأنها عملية فإن كانت هي تعبير سوسير فهي منتقدة، لأن سوسير في دور التأصيل، فلا يجوز له تقريب محل النزاع بالتشبيه المقارب وله حقيقة مطابقة.
الوقفة الثانية: في احدى الترجمات ان اللغة تدل في جوهرها، وفي الثانية إذا رجعت إلى مبدئها الأساسي، وفي الثالثة عند تحليلها إلى عناصرها.
قال أبو عبدالرحمن: هذا القيد في الترجمات الثلاث غير مفهوم, فإن كان الجوهر أصل الاشتقاق,, أي المعنى المشتق منه (9) فلا معنى لهذا القيد، لأن كل معنى مشتق هو أيضاً اسم لمعناه,, وإن كان الجوهر أول لغة للبشرية فذلك أمر ميتافيزيقي غير محفوظ ولا مميز,, وعلى التسليم بحفظه وتمييزه فلا معنى للتقيد به، لأن كل لغة حدثت أو ستحدث مكونة من ألفاظ دالة على معانيها، ومسبوقة بالمعروف الذي هو المعنى,, ولا أعلم احتمال جوهر غير هذا.
وهكذا المبدأ الأساسي لا يفهم منه إلا ما فُهم من الجوهر، وقد مضى بيان القول فيه,, وقد يفهم منه الغرض والغاية والحكم فلا مبدأ لها إلا الدلالة على المسميات، وما يلحق ذلك من تحسينات من التعبير بالأفصح إذا كانت اللغة ثرية,, وأما التحليل إلى العناصر فيصدق على المفردة الواحدة من ناحية صيغها ومعانيها وخصائص حروفها,, أما اللغة بعامة فلا عناصر لها إلا معرفة دلالة كل مفردة على معانيها، وذلك هو التسمية بعينها، إذن تلك القيود فضول.
الوقفة الثالثة: نسب سوسير هذه البدهية إلى بعض الناس، أو إلى نظر بعضهم,, والواقع أن هذه فطرة عند جميع الناس، واجماع من علمائها حتى وجدت فلسفات شاذة كفلسفة سوسير.
الوقفة الرابعة: كرر معنى التسمية بأن اللغة قائمة من الألفاظ، وان كل لفظة تدل على الشيإ الذي تسميه، أو قائمة من الكلمات موافقة لعدد مماثل من الأشياإ، أو قائمة من الكلمات تتطابق كل منها مع الاسم الذي تدل عليه.
قال أبو عبدالرحمن: نعم هذا هو واقع اللغة، فأي غرابة في هذا؟,, وإذا لم توجد المطابقة (10) لم توجد الدلالة والتسمية.
الوقفة الخامسة: في الترجمة العراقية: ان القول: بان اللغة تسمية: يقوم على الزعم بأن الأفكار معدة مسبقاً، وموجودة قبل الكلمات,, وفي الترجمة التونسية يفترض وجود أفكار سابقة لوجود الكلمات، وفي الترجمة المصرية يفترض أن الأفكار الجاهزة توجد (11) قبل الكلمات.
قال أبو عبدالرحمن: هو إقرار لا زعم ولا فرض: بأن اللغة تسمية لمعروف مسبقاً سواأ أكان أشياأ أم أفكاراً.
الوقفة السادسة: أن تعبير سوسير عن الأفكار قاصرة، بل الموجودة مسبقاً كل معروف أو مُتوهم من الأشياإ، والوجدانات القلبية، والمشاعر الحسية، وحصيلة أعمال العقل من أفكار وأحكام وأخيلة.
الوقفة السابعة: غاب عن بال سوسير انه لا فكر إلا في معروف أو موروث خيالي، وأن العقل يختزن صوراً لأشياأ موجودة,, لا يمكن ألبتة أن يتصور العقل ما لا يعرفه بالحس، أو بالوصف من شيإ في حسه، لأن وأن أفكاره وأحكامه تجريدات من المحسوس وعلاقات بين المحسوسات، ولأن اخيلته تركيب من المحسوس، فمهما تخيل من شخوص وهيآت لا وجود لها في الواقع بذلك التركيب: فعناصره مجردة من المحسوس كطائر منقاره من ذهب ورجلاه من عاج وجسمه من لحم ودم، أو طائر رأسه رأس جمل وعجيزته عجيزة قرد,, الخ,, الخ,, محال أن يكون الإبداع الفني متجرداً من عناصر الطبيعة,, إذن الفكر في معروف موجود، فإن كانت له تسمية سابقة موروثة استعملها، فإن غابت عنه سأل عنها، فإن كانت مستجدة على أمته كنجم أو حيوان أو نبات يُكتشف أول مرة أو جهاز يصنع أول مرة: فلا بد من تسمية جديدة تكون فردية فتشيع، وتكون اصطلاحية,, والتسمية الموروثة لا تعني أسبقية اللغة، لأنها حادثة بعد المعرفة، والوجود بجزئياته في الجملة أسبق من وجود البشر وتعبيرهم,, إن التسمية ابتداأ مسبوقة بالوجود والمعرفة,, لا يمكن أن يتصور الفكر غير هذا.
الوقفة الثامنة: حكم سوسير في الترجمة العراقية انه لا يوجد أفكار مسبوقة باللغة، واستدل بأن الأفكار لا تتميز قبل ظهور اللغة، وأن تفكيرنا من الناحية السايكولوجية إذا أغفلنا التعبير عنه بالكلمات ما هو إلا كتلة متميزة لا شكل لها، ولولا اللغة أصبحت الفكرة شيأ مبهماً غير واضح المعالم,, وفي التونسية أن فكرنا من الناحية النفسية وبقطع النظر عن التعبير بالكمات لا يعدو أن يكون كتلة مبهمة الشكل غامضة الملامح، والفكر إذا اعتبرناه في حد ذاته كمثل السديم حيث لا شيأ معين الحدود بالضرورة ، إذن لا أفكار موجودة سلفاً، ولا وجود لأي شيإ متميز قبل ظهور اللغة,, والترجمة المصرية اختصار للترجمة العراقية في هذه النقطة.
قال أبو عبدالرحمن: ها هنا خمس مُآخذات:
أولها: أن دعوى أسبقية الأفكار محالة التصور كما سبق في الوقفة السابعة.
وثانيها: أن سوسير خلط بين دعوى أسبقية الفكر، ودعوى ضرورة تمييزه باللغة، فالتمييز بالكمال الذي يليق بالإنسان الناطق المفكر دعوى بدهية صحيحة، ولكنها لا تعني أسبقية اللغة، بل تعني أن الأشياأ والمشاعر والأفكار والأخيلة الموجودة مسبقاً لا تتميز بغير اللغة الموجودة تالياً.
وثالثها: ان التميز موجود في الأفكار والأشياإ والمشاعر، وإنما الغرض نقل تمييز الفكر من المفكر إلى الآخرين، ويتم ذلك بالإشارة والحركة إلا أن الدلالة ناقصة، ولا يتم التمييز الأكمل اللائق بالناطق المفكر إلا باللغة.
ورابعها: أن التعبير بالكتلة والشكل عن الأفكار غير موصل، ولعل السديم اقرب دلالة لو صح أن ذلك هو وضع الفكر لدى المفكر نفسه، وإنما الصواب أن ذلك هو وضع فكره إذا أراد نقل تجربته للآخرين، فلا يتميز التمييز الكامل إلا باللغة.
وخامسها: لا معنى للسايكولوجية والنفسية ها هنا إلا أن التجربة الفكرية بغير اللغة مغيبة في نفس المفكر لا يصل إليها الآخرون إلا بتجارب من أنفسهم، أو لغة مبينة عن متعارف عليه.
الوقفة التاسعة: يطول عجبي من عقدة الخواجات في أمور أدبية وفكرية وثقافية نملكها ثم تُقدم لنا بمغالطات وغباإ كإنكار بدهية التسمية، وكجعل شرطية اللغة لكمال توصيل البيان والتمييز دليلاً على أسبقية اللغة!!.
الوقفة العاشرة: حكى سوسير في الترجمة العراقية اتفاق الفلاسفة علماإ اللغة دائماً على أنه لولا الإشارات لما استطعنا أن نميز تمييزاً واضحاً بين فكرتين,, وفي التونسية جميع الفلاسفة واللغويين في جميع العصور على الاعتراف بأنه لو لا الاستعانة بالدلائل لكنا عاجزين عن التمييز بين فكرتين تمييزاً واضحاً دائماً,, وفي المصرية اتفق الفلاسفة واللغويون دائماً على الاعتراف بأنه من غير الاستعانة بالعلامات فإننا لا نستطيع عمل فواصل واضحة وفارق ثابت بين فكرتين.
قال أبو عبدالرحمن: أريح سوسير فأقول: ليس هذا هو اتفاق الفلاسفة واللغويين فحسب، بل هو فطرة في النفوس البشرية، ولكن هذا يعني حاجة الفكر إلى اللغة لأجل التوصيل توصيلاً يضمن نقل التجربة كاملة، ولا يعني أسبقية اللغة على الوجود والمعارف كما أسلفت.
الوقفة الحادية عشرة: كلمة دائماً في الترجمة العراقية والمصرية تقوم مقام في جميع العصور لدى التونسية,, وكلمة دائماً في التونسية تقوم مقام ثابت في المصرية,, على أن ثابتاً أدل,, وفي آخر المصرية إضافات لا تستغرب، لأنها ترجمة عن الانجليزية وليست ترجمة مباشرة عن لغة المأَلَّف، وإلى لقاإ إن شاأَ الله.
***
الحواشي:
1 هي ترجمة الدكتور يوئيل يوسف عزيز، وقد راجع النص العربي الدكتور مالك يوسف المطلبي توزيع بيت الموصل ط دار الكتب للطباعة والنشر بجامعة الموصل عام 1988م.
2 ص 84.
3 ص 131.
4 ص 19,, وهي بتعريب صالح الفرمادي، ومحمد الشاوش، ومحمد عجينة ط الدار العربية للكتاب عام 1985م.
5 ص 172.
6 في الأصل وضع شرطة قبل عند تحليلها ، وقبل وكأنها ، وقبل قائمة ,, وهذا خلل بيَّن في استعمال علامات الترقيم.
7 ص 121,, وهي ترجمة الدكتور أحمد نعيم الكراعين نشر دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية عام 1985م ط المطبعة العصرية بالاسكندرية,, وطبع في سوريا بترجمة الأستاذين يوسف غازي ومجيد النصر، ولم أطلع عليها,, وذكر الدكتور عبدالرحمن الحاج صاحح في أوائل العقد السابع الميلادي أنه يعكف على إعداد الترجمة الكاملة لمحاضرات سوسور,, انظر الترجمة العراقية ص 13 14.
8 ص 195.
9 إنما الاشتقاق في المعاني وليس في الألفاظ إلا تجوزاً، لأن الصيغ مسموعة عن العرب، ثم يجري التحويل إليها حسب إرادة المتكلم، وقد بينت هذه الظاهرة في مناسبات عديدة.
10 المراد مطابقة الدلالة لا مطابقة الوضع، فاللفظ مطابق لمدلوله سواأُ أكان المدلول وضعياً، أم مجازياً.
11 الأفصح أن يقول: توجد جاهزة.
|
|
|
|
|