| مقـالات
تقوم العملية النقدية كما هو معلوم على الاستحسان والاستهجان وتتردد بين الذاتية والموضوعية ومهما حاول الناقد ان يكون موضوعيا، فإن ذاتيته لابد ان تظهر، ولابد من هذا التمازج، ولكن هناك من يتفلت من كل الاصول والمعايير المرعية عند النقاد معتمدا على ذوقه الشخصي، وتأثره الذاتي، وهو ما يعرف عند الدارسين بالنقد التأثري، أو الانطباعي, واكثر ما يكون هذا النقد، خارج النطاق الاكاديمي، كما نلحظ ايضا من يستحسن او يستهجن ما يقرأ او يسمع، في جملة او جملتين فضفاتين، دون ان يبدي تعليلا، او يحكم قاعدة يستعين بها ويرجع اليها، وفي الكتب القديمة والحديثة الكثير من هذه النماذج، وسنتناول هنا بعضا منها، قال يحيى بن نُجيم، وكان معاصرا للأصمعي والجاحظ: كان ابن ميَّادة (شاعر يحسب في المدنيين) يستحسن هذا البيت لأرطاة بن سُهيّة (يحسب في المدنيين أيضا):
فقُلت لها يا أم بيضاءَ إنه هُرِيق شبابي، واستشنّ أديمي |
والذي نعتقده أن الذي اهتز له ابن ميادة إنما هي صورة اراقة الشباب، والأديم المستشن، وهذا التقابل بين النضارة والجفاف، وما يفضي به إلينا من الحسرة والألم حيث لم يعد الشارع مرضيا لأم بيضاء، وأشباهها من الحسناوات، ولاشك أن هذا التعبير المصور أوشج بالشعر وألوط.
وكان الأصمعي (الحيوان 3/465) يستحسن قول الطِّرمّاح بن حكيم في صفة الظليم (ذكر النَّعام):
يجتاب شملةَ بُرجُدٍ لسَرَاته قدراً، وأسلَمَ ما سواه البُرجُدُ |
(اجتاب القميص: لبسه، الشملة: شُقةٌ من الثياب ذات مخمل، يتوشح بها ويتلفّع، البُرجد: كساء مخطط غليظ، جمعه براجد، السَّراةُ: هي هنا بمعنى الظهر), يقول: قد لبس ذلك الظليم كساء أسود مخملاً من الريش فوق ظهره، وجعل الشملة على قدر ظهره، وترك البرجُد ما سوى الظهر، من العنق والرجلين، فلم يستره، ومن المعلوم أن العنق والرجلين في الظليم عارية من الريش، وهكذا نجد الحسن في هذا البيت ينبثق من الصورة اللونية المستوحاة من حياة المجتمع الرعوي (ظليم + شملة + برجد), وكان الأصمعي أيضا يستحسن قول الطرّماح في صفة الثور:
يبدُو تُضمره البلاد كأنه سيف على شرف يُسلُّ ويغمدُ |
ولنتساءل عن هذه الحياة الحيوانية في الجزيرة العربية التي تضمنتها أشعارهم، وارتبطت بتجاربهم الفنية، وحياتهم الواقعية، فرسموا لنا منها مشاهد رائعة تهز النفوس وتحرك الوجدان، ولو حاولنا مقارنتها بحياتنا اليوم لبكينا كثيرا لفقداننا امثال تلك الحياة اما سرّ جمال هذا البيت فيرجع فيما نحسب الى هذه الصورة الحركية المثيرة: (الظهور والاختفاء، والسّل والاغماد ويضاف الى ذلك اللون الابيض).
وكما كان يعجب الرواة والنقاد بشعر الطِّرمّاح ويستحسنونه، فإن الشعراء أيضا كانوا يستحسنون الكثير من أشعاره، فهذا أبو نواس يستحسن قوله:
اذا قُبضت نفس الطِّرمَّاح أخلقت عُرَى المجد، واسترخى عنان القصائد |
فأي فخر هذا وأي زهو بالنفس، إنه صانع للمجد وبانٍ لصروحه، وموثق لعراه، وهو أيضا شاعر مجيد فهو ربّ السيف والقلم، هو إنسان متميز ذو فاعلية في الحياة، وبفقده تنحل عرى المجد وتبلى، وتموت الأشعار وتذهب ريحها، ويظهر اعتزاز الشاعر بنفسه أكثر، حين يأتي باسمه مظهراً مع إمكان ان يقول: (إذا قبضت نفسي) مكتفيا بياء المتكلم، وانظر معي إلى جمال الايقاع، في تساوي الجملتين الأخيرتين (فعل ماض + الفاعل + المضاف إليه)، كما لا يغيب عن أذهاننا أن البيت كله يمثل جملة شرطية متماسكة بالعلاقة القوية بين الشرط (قبضت) والجزاء: (أخلقت) أما جملة (واسترخى,,) فهي معطوفة آخذة حكم ما عطفت عليه، هذا علاوة على التحول المتحقق للجملة الشرطية، مع كونها ماضوية شكلا، استقبالية معنى، مع ملاحظة أن القبض أتى مبنيا للمجهول بينما فعل الجزاء (أخلقت + استرخى معطوفا)يأتي إراديا مبنياً للفاعل.
وقال سهل بن هارون يمدح يحيى بن خالد البرمكي:
عدوّ تلادِ المال فيما ينوبه منوعٌ إذا ما منعُه كان أحزما |
فإذا تأملناه وجدنا سبب استحسانهم له يتمثل في الفكرة، فالممدوح كريم لا يكنز المال، ولا يتخذ منه تلاداً، ولكنه قد يدفعه حزمه الى المنع وعدم العطاء، إذ الكرم يجب ان يكون في موضع الكرم، لأنه في غير محله لا يورث إلا ضرَّا، وربما عده أهل العقول سفهاً لا يجلب الا الذم.
واستحسن بعضهم قول العلاء بن الجارود:
أظهروا للناس نُسكاً وعلى المنقوش داروا وله صاموا وصلَّوا وله حجُّوا وزاروا وله قاموا وقالوا وله حلُّو ا وساروا لو غدا فوق الثريا ولهم ريش لطاروا |
والأبيات تشير الى بعض الأقوام الذين كثيرا ما نلتقي بهم في حياتنا اليومية، هم قوم باعوا ضمائرهم للشيطان، وجعلوا كل همهم في الحياة ان يحصلوا على المال دون تفريق بين حلال وحرام، ومشروع وغير مشروع، واتخذوا دينهم مطية لدنياهم، فهم نماذج سيئة للمتاجرين بالدين، فويل لهم مما كسبت ايديهم، وويل لمجتمعاتهم منهم وقال شاعر آخر حول هذا المضمون:
شمّر ثيابك واستعدّ لقابلٍ واحكك جبينك للقضاء بثوم وامش الدبيبَ اذا مشيت لحاجة حتى تُصيب وديعةً ليتيم |
فقد بلغ الخبث ببعضهم ان يضع لبخةً من الثوم، ليصنع في جبينه، علامة التقوى وأمارة السجود، وما هو بسجّاد ولا عرفت التقوى الى قلبه سبيلاً.
د, محمد العيد الخطراوي
|
|
|
|
|