| شرفات
عندما كان المدرس المكسيكي خوسيه أنطونيو لوبيز تيرسيرو طالبا، كان يستسيغ فكرة اعتبار سرعة الحركة والطاقة المحتملة بأنها أشبه بآلتين يمكن حفظهما في صوان أو خزانة,
ففي تلك الأيام الخوالي، حدت به الأمور الى أن يصدق كل الأشياء الغريبة, ولم تأت هذه البراءة من قراءة الروايات الواقعية الساحرة للروائي جابرييل جارسيا ماركيز فحسب، بل وأيضا لأن النعاس كان يغلبه في حصص الفيزياء المجردة، والتي يتذكرها لوبيز تيرسيرو واصفا اياها بأنها كانت بغيضة ومع ذلك فانه يعمل الآن مدرسا للكيمياء بمدرسة معهد الجنوب Escuela del Sur institute احدى المدارس الثانوية في المكسيك.
وهو يحاول اليوم أن يعلم الكيمياء على النحو الذي كان يود أن يتعلمها به, ففي أغلب الأحوال الممكنة، يستخدم موضوعات الحياة اليومية لمساعدة طلابه على استيعاب المفاهيم المجردة, وعلى سبيل المثال، فان الغسالة الآلية يمكن أن تصور فكرة التشتت بواسطة قوة الطرد المركزي، وان الملابس تبين كيف تميز بين الألياف الطبيعية والصناعية، وان اللدائن مواد البلاستيك تساعد على دراسة المشتقات النفطية, كما ان عصير الليمون والكرنب الأحمر يبعثان الحياة في الأحماض، بينما يساعد التلفزيون على بيان كيف تعمل الموجات الكهرومغناطيسية.
ويمثل هذا الأسلوب تغيرا نوعيا هائلا، وذلك بالقياس على الأقل الى ما كان يجب أن يمر به لوبيز تيرسيرو عندما كان طالبا, وعندما يعود الى الوراء، عندما كان طالبا في المدرسة الثانوية، يتذكر قائلا: كان المدرس يصل الينا، ثم يطرح مفهوما ما، ويكتب معادلة، ثم يعلمنا كيف نحل المسائل باستخدام المعادلة, وكل ما كنت أفعله، هو العمل من خلال المعادلات وذلك بأن أستبدل الحروف بالأرقام.
وان هذه الطريقة التعليمية التقليدية، القائمة على أساس نقل مجموعة من المعلومات ودراسة المسائل، التي لا تلائم الكثير من الطلاب الا قليلا، ما تزال جارية، وليس في المكسيك فقط, وكما يقول جاكوب بريجمان أحد المتخصصين في تدريس العلوم بالبنك الدولي، فان تدريس العلوم في الدول النامية غالبا ما يعتمد اعتمادا كبيرا على حفظ الحقائق واستظهارها، ولا يعتمد اعتمادا كافيا على تعليم فهم مواءمة المعرفة وتطبيقها في البيئة المحلية, أما في الدول الصناعية، فان التركيز أكبر على أسلوب حل المسائل والمشكلات وصناعة القرار وتنمية القدرة على التحليل والعمل في فريق.
وان جوانب القصور في المنظمة التعليمية بالعالم الثالث تثير القلق والانزعاج، خاصة وان التنمية الاقتصادية مرتبطة ارتباطا متزايدا بالمعرفة العلمية والتكنولوجية, ولكن هناك الآن رغبة واسعة النطاق في التغيير، متجسدة في موجة من الاصلاحات في مجال تدريس العلوم تجري في جميع أنحاء العالم خلال السنوات القليلة الماضية وعلى الرغم من أن الاصلاحات تختلف من دولة لأخرى، فانها تتمتع بسمات مشتركة معينة.
ومن بين هذه السمات ربط العلوم بالحياة اليومية مثلما يفعل لوبيز تيرسيرو في المكسيك, وان هذه الطريقة، فضلا عن تحسين عملية التعلم، تجعل الطلاب أكثر تحمسا للعلوم، وراغبين فيها رغبة جوهرية وأصيلة, ويتجلى ذلك في أن نصف خريجي مدرسة معهد الجنوب في السنوات الأخيرة قد اتخذوا مسارات علمية، أعلى بنسبة 30% من معدل المدارس المكسيكية.
كشف النقاب عن الغاية العملية للمعرفة
ان ربط العلم بالحياة اليومية يعني أيضا تثبيت التدريس تثبيتا أكثر رسوخا في البيئة المحلية, فالمدرسون يحاولون باستخدام المشكلات التي تؤثر على المجتمع، ان يبينوا القيمة العملية للمعرفة العلمية في تحديد أسباب ظواهر بعينها, فهم يشجعون الطلاب على أن يطلعوا بوسائل جديدة يمكن أن تحول دون وقوع كوارث بيئية.
ومن ثم، فان المدرسين يبذلون جهودا جبارة في فصولهم لمعالجة المشكلات الوثيقة الصلة بالطلاب، بدلا من استخدام أمثلة مجردة من الكتب المدرسية, وذلك على حد قول بتينا وولثر Bettina Walther منسق أحد مشروعات تدريس العلوم في المدارس الثانوية التنزانية, ويشترك في هذا المشروع، الذي بدأ في 1997م، مدرسون للرياضيات من 37 مدرسة، يركزون على برامج التنمية في المدن التي يعملون فيها كمدرسين, وعلى سبيل المثال، فان دروس الهندسة يمكن أن تقوم على أساس الحالة العملية لتركيب خطوط الكهرباء والهواتف لشرح المفاهيم، بينما تعنى الرياضيات التطبيقية باستخدام الأسمدة ومبيدات الآفات لتعلم عمليات مختلفة.
وحتى عند النظر الى النجوم، فان هؤلاء المدرسين يؤسسون دروسهم على المعتقدات المحلية الشائعة, ويقوم بيتر ليسالا حاليا، وهو أحد مستشاري تدريس العلوم للمدارس الثانوية في ليسوتو، بوضع مقرر عن علم الفلك، يتميز به المنهج الدراسي في بلاده, ويشرح ذلك بقوله: كان أول شيء فعلته هو اجراء بحث في معتقدات قبائل الباسوتو عن النجوم، ويبدأ المقرر الذي أعده بمناقشة هذه المعتقدات.
وقد تكون بعض مشروعات تدريس العلوم مستوحاة من نموذج أجنبي، وفي هذه الحالة، فان المفتاح الرئيس لها يكمن في تكييف الموضوعات وفقا للظروف المحلية، مثلما فعل بعض المدرسين والطلاب على نحو خلاق ومبدع للغاية باستخدام مقرر للمدارس الثانوية وضعته الجمعية الكيميائية الأمريكية ومقرها في واشنطن, وهي منظمة مكرسة لتشجيع وتعزيز المعرفة والبحوث في مجال الكيمياء والعلوم المتصلة بها.
العلوم للجميع
ويشكل أساس هذا الاتجاه الاصلاحي الاعتقاد بأنه يجب اتاحة الفرصة للمزيد من الشباب للوصول بسهولة الى التعليم العلمي، وتؤمن سيلفيا وير Sylvia Ware مؤلفة العديد من التقارير حول تدريس العلوم في الدول النامية للبنك الدولي، ومديرة التعليم والنشاطات الدولية بالجمعية الكيميائية الأمريكية، فان العلوم للجميع وليست لعلماء المستقبل فقط، وتقول بأن أولئك المعنيين باصلاح تدريس العلوم يعتقدون بأن العلوم من الأهمية بمكان، بحيث لا تترك للعلماء وحدهم, اذ يجب على الجمهور العام أن يتمتع بفهم أوسع وأدق للعلوم، مما هو عليه الآن, وان مشكلات الدول النامية، كتوفير المياه ، التنمية الصحية، أو الصناعية، واستخدام الأراضي، يجب أن يتناولها ويعالجها هؤلاء الذين يفهمون ما تنطوى عليه هذه الأمور من علو وتكنولوجيا.
وبعبارة أخرى، فان الهدف هو توفير المعرفة العلمية الأساسية، حتى يتسنى للناس القيام بدور فعال في المناقشات الحيوية حول قضايا تبدأ من حماية البيئة حتى استخدام الكائنات الحية المعدلة وراثيا، وحتى المعضلات الأخلاقية الجديدة التي تطرحها الاكتشافات البيولوجية الحديثة.
هذا، ومن خلال نشاطات، مثل فرز النفايات، وحماية أنواع حيوانية ونباتية معينة معرضة للخطر، وصيانة مصادر المياه وترشيدها، فان تدريس العلوم يمكن أن يساعد في تدريب المواطنين بأن يكونوا على وعي بمسؤولياتهم الاجتماعية, ومن أمثلة ذلك، مشروع جلوبو في كوستاريكا، الذي يهدف الى توعية الطلاب بحماية البيئة بدراسة ظاهرة النينو El Nino المناخية، حيث يقوم شباب كوستاريكا بقياس درجات الحرارة، وتسجيل معدلات سقوط الامطار في مجتمعاتهم, ثم تستخدم هذه البيانات التي تجمع بواسطة أدوات معقدة نسبيا، في مقررات الرياضيات، لوضع رسومات بيانية في العلوم الاجتماعية، لدراسة أثر الفيضانات على المجتمعات، وفي دروس علم الأحياء لشرح دورة الحياة.
وتقول سيلفيا وير ان: قضية العلوم للجميع قد نوقشت من الأرجنتين حتى زيمبابوي ولكن السؤال الجوهري، هو كيف يمكن جعل المعرفة العلمية أكثر منالا، وأيسر وصولا الى المزيد من الطلاب بدون تخفيض مستويات المقررات بالنسبة لأولئك الذين سيصبحون علماء الغد, ان الاجابة عن هذا السؤال معقدةومركبة، وتتطلب نظاما يتمتع بالمرونة، بحيث يقدم المزيد من المعرفة الدقيقة المستفيضة لأولئك الذين يعتزمون انتهاج مسار علمي، مع اتاحة الفرصة في نفس الوقت أمام التدريب العلمي للآخرين، والذي يسمح لهم بأداء عمل فعال في المجتمع.
وعلى الرغم من أن الدول النامية ما تزال بعيدة كل البعد عن حل هذه القضية، فان دولا، كالأرجنتين والبرازيل وشيلي، قد آثرت طريق التخصص, ففي شيلي مثلا، فان طلاب السنوات الأولى من التعليم بالمرحلة الثانوية يسيرون على نفس البرنامج، والهدف من ذلك هو تكوين الأساس لديهم ليصبحوا مواطنين مصقولين ومسؤولين اجتماعيا, أما في العامين الأخيرين، فان نظاما توجيهيا يقدم نوعين من التخصص: نوعا فنيا ومهنيا يستهدف تدريب موظفي المستقبل القادرين على التنافس في السوق العالمية، ثم نوعا ينطوي على مقرر علمي نظري بدرجة أكبر، يثير وينشط الفكر التحليلي، ويعمل على غرس مستويات أعلى لادراك المفاهيم، وهذا النوع مكرس بصفة خاصة للطلاب الراغبين في أن يسلكوا مسارا علميا, ومن ثم، فان هذا النموذج الشيلي يهدف، باستخدام هذا المزيج، الى ضمان خلق قوة عاملة مدربة تدريبا عاليا، بحيث تستطيع الاستجابة للتغيرات السريعة في سوق العمل، بينما تقيم في الوقت ذاته مجتمعا علميا قادرا على تحقيق الابتكارات التكنولوجية المطلوبة لتحديث اقتصاد البلاد.
النهوض بالمدرسين
ان هذه التجديدات والابتكارات ربما تعد بحق انجازات متقدمة وجوهرية، ولكن سيلفيا وير ترى انه لا يمكن أن تقوم بمجرد تغيير المنهج الدراسي فقط ثم، تتوقع أن تتغير الأمور في الفصل, اذ ينبغي العمل مع المدرسين والتعاون معهم ومساعدتهم على أن يصبحوا على دراية بالمادة الجديدة وطرق التدريس الجديدة, وللاسف الشديد، فان المدرسين في الدول النامية يواجهون وضعا مزعزعا وغير مستقر، وبالتالي فهم عاجزون عن الاضطلاع بالريادة الطبيعية في عملية الاصلاح.
ويعمل المدرسون في شيلي ما بين 33 الى 44 ساعة أسبوعيا في مدرستين أو ثلاث مدارس أحيانا, أما في المكسيك فان الطلاب يتعلمون بصفة عامة على أيدي أطباء أسنان وأطباء باطنيين، أو على أيدي مدرسين على دراية بالأساليب الفنية للفصل أكثر من درايتهم بالموضوع الذي من المفترض أن يدرسوه, فالطلاب أو المدرسون لا يخرجون كثيرا عن الكتاب المدرسي, أما فيسينت تالانكور Vicente Talanquer أستاذ الكيمياء بجامعة المكسيك المستقلة، فانه يؤكد أن المشكلة الأساسية بالنسبة لتدريس العلوم لم تعد قضية البرامج أو الكتب المدرسية، اذ ان نقطة الضعف تكمن في تدريب المدرسين، والذي يعد في الواقع العملي أمرا متروكا للقدر, ومن ثم، فان ما يصفه بأنه هو فجوة كبيرة ما تزال تفصل بين الخطط والبرامج التعليمية عن الحقيقة الواقعة والثابتة للفصل.
وترى سيلفيا ويز: ان هناك طريقة واحدة فقط لسد هذه الفجوة، وهي انفاق أكبر قدر ممكن في مجال التنمية المهنية للمدرسين لاستثمارهم وفي الوقت الذي تم فيه تكييف مقرر الكيمياء في المجتمع Chemcom لاستخدامه في روسيا، فان الجمعية الكيميائية الأمريكية قد قدمت بمساندة من اليونسكو حلقات دراسية لتدريب المدرسين، حتى بالنسبة لأولئك القادمين من أبعد المدن في سيبيريا, ونتيجة لذلك، فان المدرسين يصبحون على دراية بالمواد والطرق التعليمية، فضلا عن وسائل التقييم الجديدة التي تمكنهم من معرفة ما اذا كان الطالب قد تعلم المفاهيم بواسطة الصم والاستظهار بغير فهم، أم انه فهم الأفكار وقادر على تطبيقها في مواقف مختلفة.
وان ضمان هذا التدريب في نهاية المطاف، يقتضي ويتطلب استثمارا عاما وهائلا، وارادة سياسية عاقدة العزم على ذلك.
واذا ما أخذنا في الاعتبار ان التعليم العلمي، قد بدأ في المكسيك منذ سبع سنوات فقط، وانه يضم 200,000 مدرس ثانوي فضلا عن 600,000 مدرس ابتدائي، فانه يبدو جليا ان التغييرات الجذرية التي يسعى اليها كل امرىء لن تحدث في يوم وليلة.
|
|
|
|
|