| شرفات
بعد الاحتلال البريطاني لمصر وفد كثير من المهاجرين والمغامرين بحثا عن الثراء في حماية جيش المحتل, كانت هناك اسرة ايطالية جاءت من منطقة توسكانيا واستقرت في الاسكندرية عام 1888م الاب يعمل في الحفر واعمال البناء في قناة السويس ثم ما لبث ان اصيب بمرض ما ورحل بعد عام واحد من وصوله.
تحملت الام العنيدة الصلبة اعباء الاسرة وفتحت مخبزا (فرنا) على اطراف الاسكندرية وتولت ادارته بنفسها, كان الطفل جوسيبي انجاريتي ابن عام واحد,, يتيم لكنه لم يعِ احساس اليتم بعد, يعيش طفولته وصباه في دفء شمس اسكندرية وتحت وصاية الام الحازمة التي راحت تكافح باصرار وترسم لابنها مستقبلا محددا, تعده لان يكون محاميا بارعا وانجاريتي غارق الى اذنيه في أشعار بودلير ومالارميه, ثم بدأ يتردد على (المعسكر الاحمر) وهو فرع للتجمع الدولي للفوضويين في الاسكندرية يديره صديقه الاشد عنفا وحماسا انريكوبيا.
يهرب من حزم الام الى مرتع الفوضويين,, ومن دراسة المحاماة الى فضاء الشعر,, وعندما نظم تجمع الفوضويين حركة جريئة لتحرير البحارة المتمردين على المدرعة بوتومكين (قُدم عنها فيلم شهير للمخرج الكبير سيرجي ايزنشتاين) شارك انجاريتي في المظاهرة وقدم للمحاكمة امام القنصلية الايطالية بالاسكندرية (في ظل الامتيازات التي كان يتمتع بها الاجانب آنذاك) ورغم العفو العام عن المتهمين ظل انجاريتي يروج للفوضوية ووجد فرصة اكبر لافكاره تلك على مقاهي باريس التي سافر اليها عام 1912م بحجة ان يدرس الحقوق استجابة لالحاح امه.
ودع بحر اسكندرية وحافة الصحراء الى غير رجعة وانغمس في ليل باريس المقاهي والوجوه الهائمة، الصعلكة وشباب الفنانين والسريالية ومحاضرات السوربون,, بيكاسو وموديلياني وابو للينييرو برجون,, عامان من الفن والحياة البوهيمية ثم عاد على اثرهما الى ايطاليا للحصول على شهادة تؤهله لتعليم اللغة الفرنسية وآنذاك تنشب الحرب العالمية الاولى ويجد انجاريتي نفسه مجنداً على الجبهة النمسوية ثم الفرنسية.
وتفجر الحرب بركان الشعر بداخله,, قصائد كالشظايا عن انسان وجد نفسه بغتة على درب القتل والدماء والتدمير,, انسان يشعر ان وجوده الفردي مهدد في كل لحظة بالقلق والضياع وفقد الاعزاء,.
ليلة بطولها
ملقى بجوار
رفيق مذبوح
بفمة العابس
المستدير ناحية البدر
بالدم المحتقن في يديه
الذي تغلغل في صمتي
انها روح الحرب جرفت الفوضوي القديم الى مستنقعها الدموي ليشعر ان الزمن مدمر وان الشعر شظايا منثورة وابنية متكسرة، اصداء بلا معنى,.
في مكمن
داخل هذه الاحشاء
من الاطلال
رحت اجرجر هيكلي العظمي
ساعات وساعات
غائصا في الوحل
مثل كعب حذاء
أو نبتة شوكية
ثم يخاطب نفسه قائلا:
انجاريتي
أيها الصابر على الآلام
يكفيك وهم واحد ليبث فيك الشجاعة
وفي عام 1918 يستغل انجاريتي فرصة اعلان الهدنة لزيارة اصدقاء باريس ويسارع الى بيت أبو للينير حاملاً معه هدية السجائر التوسكانية التي مان يحبها ليفاجأ بأن أبو للينير يلفظ انفاسه الاخيرة ثم بعد اشهر قليلة يشيع صديقه الرسام البائس موديلياني وكذلك صديقه المصري محمد شعيب الذي عاش معه اياما حلوة في الاسكندرية وفي احد الفنادق المتواضعة في باريس.
الحرب وفقد الاصدقاء كانا وجهين لعملة واحدة,, هي الالم ووحشة الحياة,, ولولا انه تعرف على الفرنسية (جان دوبوا) وتزوجها فلربما انتحر ككثير من الفوضويين,, اعطاه الزواج الحب والدفء والرغبة في الاستقرار والعمل فكان يترجم ويراسل الصحف كما عمل بوزارة الخارجية الايطالية وشيئا فشيئا خبت بداخله روح التمرد.
في فترة استقراره النسبي التقى بأمه في روما بعد غياب سنوات طويلة كانت هي لا تزال في مصر وكان انجاريتي جوالا في اوروبا كمراسل صحفي وبعد هذا اللقاء الحار بعامين تموت الام في الاسكندرية في نفس عام ميلاد ابنه انطونيو ويهتز وتر الالم والشعر بفعل الرحيل,, بهواجس الحنين
في السماء افتش عن وجهك السعيد
ولن ترى عيناي في داخلي شيئا آخر
عندما يشاء الله ان يغلقهما .
رغم ان الشعر اعطاه الشهرة والتحقق داخل الوطن الا انه استجاب لدعوة جامعة سان باولو بالبرازيل ليعمل بها استاذا للأدب الايطالي لمدة ست سنوات فقد خلالها ابنه انطونيو وامتنع تماما عن كتابة بيت واحد من الشعر او على الاقل لم يستطع ان يقول الشعر, وفي احدى زياراته لايطاليا قبض عليه بحجة معارضته الشديدة للنزعات العرقية ولم يفرج عنه الا بتدخل موسوليني نفسه.
علاقته بموسوليني علاقة غامضة وغريبة,,! يقال ان بينهما صداقة قديمة لدرجة ان موسوليني كتب مقدمة ديوانه الميناء المدفون عام 1923م ولدرجة ان انجاريتي ايد الفاشية صراحة عام 1933م الا ان الخراب الذي حل على بلاده على يد الالمان في الحرب العالمية الثانية جعله يعض على شفتيه من الندم والحسرة ويعيد حساباته كشاعر خدعته السياسة,.
لقد تزايد عذابه مع تزايد عذاب الوطن ورغم أنه صار عضوا في الاكاديمية الايطالية عام 1942م واستاذا للأدب الايطالي في جامعة روما منذ ذلك الحين وحتى وفاته الا ان الحرب طبعت شعره بطابعها العبثي والدموي ولم يسلم من توابعها حين قدم الى محكمة التطهير عام 1947م في اطار الصراع على كرسي المشاهير بالجامعة.
الحرب والاستفزازات دمرت صحته واجبرته أزمة وجوده ان ينغمس في العمل والشعر ليحصل على جائزة روما للشعر عام 1950م وجائزة كنوك - لي عام 1956م وجائزة مونتفلترو عام 1960م وفي عام 1962م ينتخب رئيسا للجمعية الاوروبية للكتاب ويرأس مؤتمرها الشهير عام 1963م بحضور شولوخوف وسارتر وسيمون دي بوثوار واهرنبورج,
واثناء سفره الى امريكا لتسلم جائزة من جامعة اوكلاهوما يفاجئه المرض ويعود سريعا الى بلاده ليموت في مدينة ميلانو في الاول من يونيو
إنسان جريح انا
وأود أن امضي
لأصل في النهاية الى الرحمة
حيث تنصت الاسماع لإنسان
وحيد مع نفسه
شريف صالح
|
|
|
|
|