| عزيزتـي الجزيرة
ليس هناك من يبغي ان يطمس عيون الامة الإسلامية وشبابها في كل بلد إسلامي أو اجنبي عن التعاضد والتآخي والتآزر بين الامة العربية، وليس هناك من يبغي ان يخرس ألسنتهم في مواقف الوطنية المحمودة، فذلك من حق كل عربي مسلم، بل واجب حتم، ومطلب من مطالب نصرته للحق والعدل والامة، لكن بعض هذه الشعوب اعتقدوا هذه التظاهرات حماسا وطنيا كافيا للتعبير عما يجيش في النفوس ويعتلج في الصدور، وتغلي به الارادات,, وحتى لو فرض ان هذه الروح الحماسية الاسلامية اضطرت لكسر طوق العزلة الانفرادية السلبية: فإنه يجب ان يكون اسلوب هذه التظاهرات حماسيا لا يشوبه ميل إلى العبث غير المرغوب فيه، أو التخريب أو مساس بكيان الآخرين ممن (لا ناقة لهم فيها ولا جمل) كما يقال ولان هذه التظاهرات فرصة قد ينتهزها بعض شياطين الانس فتحدثهم نفوسهم حديث الشر والسوء للاخلال بأنظمة الامن او تعرضهم للأذى والعقاب,, ولا شك ان الأمة يقاس رقيها بسلوكها في غضبها وبطريقتها في التعبير عن آمالها وآلامها، والمعركة التي بين الامة الاسلامية وبين الصهيونية، بل بين الاستعمار كله معركة نفسية طويلة الامد، لا تجديها التظاهرات نفعا، فهي إن يُقتل فيها الهزل قُتل فيها الواجب، والحقائق التي بيننا وبين اسرائيل: إنما يكون فينا جميعا بحثها التحليل، تكذب أو تصدق، فيجب ان ننقذ فضائلنا من رذائل هذه المدنية الاوروبية، ننقذ استقلالنا بعد ذلك، وننقذه بذلك,, لم يكن العسير يعسُر على أسلافنا الأولين، كأن في ايديهم مفاتيح من العناصر الطبيعية يفتحون بها، ومعرفة السر في ذلك، انهم ارتفعوا فوق ضعف الضعفاء فصاروا عملا مما فرضه عليهم الخالق غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الذلة والخنوع، ومعنى الخوف، بل المعنى الارضي من افعال الخلق، وعلمهم الدين كيف يعيشون بالصدق في ايمانهم القوي الذي وضع في قلب كل منهم عظمته وكبرياءه,, وقد اخترعهم الايمان اختراعا نفسيا علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: (لا يذل).
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّهَ بالرجال فلاحُ |
ولو سئلنا، ما الاسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألنا: كم عدد المسلمين؟!
والجواب معروف، والهدف من هذا الجواب معروف أيضا، وكانت حكمة العرب التي يعملون عليها (اطلب الموت توهب لك الحياة) ومنذ اسبوعين او أزيد تحركت طبيعة الانسان الاصيلة في الدكتاتورية الصهيونية على حين غرة فوقع العالم الاسلامي كله في (بحران) من القلق على سلامة اخوانهم في فلسطين، وقد حاول الكتّاب بالبلاغة والحكمة، وساستهم بالمنطق والحيلة، ان يدفعوا وقوع الكارثة او يؤخروا يوم السعير، فما رجعوا بطائل، وإنما كان ذلك لأن الذئب متى صمم على الافتراس بطل كل دليل ووهت كل حجة، وإذا انفجر البركان ودوّت حممه وسال حميمه فمن ذا يقول للطبيعة الكاشرة الفاغرة فاها: رويدك يا أمة الله؟ إن على السفوح، وفوق السهول ملايين من عباد الله لهم حق الحياة وليس عليهم ان يموتوا ليتنفس المارد من ضيقه في الفضاء ويشتفي من غليله على الارض، فيجب على المسلمين ألا ينظروا لهذه الدولة الفلسطينية نظر الغرير الأبله وهي تمشي في النار وتخوض في الدم وقد تطلب القُوتَ في هذه اللحظات الحرجة فلا تجده، وتنشد الامن فلا تناله,, أفلا يتصور المسلمون حال هؤلاء الأباة الذين يغاديهم الفزع ويراوحهم الموت وهم يدافعون عن حقهم في الحياة ولا يمتلكون في دفاعهم إلا الحجارة وقد تعوزهم احيانا، وينافحون عن مرقدهم في الارض، ويقولون للواغل الثقيل وللحامي الدخيل: إنها موتةٌ لا مناص منها، واصرارهم بأن تُنتر (1) أشلاؤهم على أديم الوطن، وتقبر اجسادهم في ثرى الوطن احب اليهم من ان يعيشوا عيش اليهود في ماضيهم شرداء في كل طريق، طُرداء في كل بلد,, لقد شنّ يهود الارض على عرب فلسطين الحرب في صراحة وقحةٍ وأعلنوا الجهاد الديني اليهودي القومي، وسلحوا ذُؤبانهم بالمنايا والمنى، ودفعوهم في وجه الحق والعدل ومن ورائهم مصارف اليهود تمدهم بالذهب، ومصانع الانجليز والامريكان تمدهم بالحديد والعتاد، فانطلقوا يُخربون البيوت ويقطعون السبل، ويحصرون الآمنين في أجواف الدور، إن أبطال فلسطين يقاتلون للحياة لا للمجد، ويناضلون للدفاع عن قبلة المسلمين، وخليق بمن يدفع عن نفسه ان يعان، وبمن يدافع عن حوزة الدين ان يسند ويشد عضده، وإن فلسطين من البلاد العربية بمكان القلب والروح من الجسد، ومن الامة الاسلامية بموضع الاحساس الحي والعرق النابض وسيعلم الغافلون ان محنتها سبيل المسلمين الى التعاطف، وصرختها نداء العرب الى الوحدة.
فلك الله يا فلسطين الشدُّ ما تكابدين من عسف القوي وكيد العتي وقسوة الظالم، إن دموعك منذ الفاجعة مع كثرة فواجعك لم تُرفأ، وإن جروحك الاخيرة لا ولم تندمل، وإن صوتك الجازع المكروب سوف يجلجل في أعماق الشرق وآفاق العروبة مستغيثا من الخطب اليهودي الذي تمطى بصلبه وأردف اعجازاً وناء بكلكل على امة الاسلام جمعاء، وأنقض ظهر الدول، لكن بنيك الباسلين يا فلسطين يتنافسون في مجد الموت وشرف التضحية,, هذا وان فزعة الامة العربية الاجماعية لهذه الفاجعة لتبشر بعودة تلك الروح ورجعة هذه الحيوية، ولعلها فزعة المغيث، لا فزعة النادب الآسف، فإن مصاب ابناء فلسطين اليوم لا ينفع فيه البكاء أو الاحتجاج والشجب، ولا يدفع منه التظاهرات والحزن، ولا نقول للامة العربية بأجمعها تطوّعوا للقتال وجها لوجه، لأن القوى غير متكافئة، وإذا تفاوتت كان هناك الآكل والمأكول، والغانم والغارم، إذن، لا نقول تطوعوا، ولكن نقول: تبرعوا، وليس في التبرع للجريح بالدواء، وللجائع بالغذاء نقض لمعاهدة ولا غدر بصداقه، وأقل ما يجب للقريب على القريب وللجار على الجار يدٌ تواسي في الشدة، وقلب يخفق في المصيبة، ولسان يحتج في المظلمة، فهل يزكو بعروبتنا والجود غريزة في كيانها، وباسلامياتنا والمواساة ركن من أركانها ان تقف من فلسطين في هذه الايام الحرجة موقف الخلي المتفرج (وويلٌ للشجي من الخلي) يسمع الأنين فلا يعود ويبصر الدمع فلا يكترث؟! وهذه المحنة التي يقاسونها ليست محنة فلسطين لكنها محنة الاسلام كلِّه، فأولئك اخواننا المنكوبون، ومعنى ذلك انهم في نكبتهم امتحان لضمائرنا، أولئك المضطهدون ومعنى هذا ان السياسة التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرار للذل؟ وماذا تكون نكبة الاخ إلا ان تكون اسما آخر لمروءة سائر اخوته او مذلّتهم، وقد كان اسلافنا يفتحون الممالك فلنفتح جيوبنا وأيدينا، وكانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غير مكترثين فلنرم نحن في سبيل الحق بالدراهم والدنانير، فكل قرش يدفع لفلسطين يذهب الى هناك ليحارب ويجاهد هو ايضا، وكل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليفرض على السياسة احترام الشعور الاسلامي، والعرب الذين فطروا على نصرة الاخ ونجدة الصريخ ومعونة الضعيف وأمن الخائف وكسوة العاري واطعام الجائع لا يُعرضون عن يد فلسطين التي تمد في احلك الظروف، ولا عن صوتها الذي يهيب ويدوي في الآفاق، فقد قالوا قديما:
كلا أخي وخليلي واجدي عَضُداً في النائبات وإلمام الملمات |
وقالوا :
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا |
ونحن في مملكتنا الموقرة نحمد الله على ما منحنا من كرامة وجدّد لنا من نعمة فهي حائزة قصب السبق في المبادرة إلى الاعمال الخيرية، سبّاقة الى الاغاثة والنجدة والمبادرة في اسعاف المصابين، فقد هب شعبنا بأجمعه شيبا وشبانا وأطفالا ونساء بمد يد العون والتبرع مقتدين بمليكهم خادم الحرمين الشريفين وإخوته والأمراء، فهو أول من سنّ هذه السنّة الحسنة، فقد امر باستقبال المصابين من فلسطين لعلاجهم وبالتبرع المالي السخي، واقتفى اثره المقتدرون وترسموا خطاه وكل جوده من موجوده، فعل ذلك لعلمه ان هذه الطريقة موطن يزيد فيه معنى المال المبذول فيكون شيئا سمويا، وان كل قرش يبذله المسلم لفلسطين يتكلم يوم الحساب قائلا: يارب أنا إيمان فلان، ولو صام العالم الإسلامي كله يوما واحدا وبذل نفقات هذا اليوم الواحد لفلسطين لأغناها في جميع حالاتها، وإن الامل لكبير والرجاء عظيم في ان تتحطم حلقات القيود على ضغط هذا الجهاد الملح والقيادة العربية المخلصة، فما بعد الكرب إلا الفرج إن شاء الله.
عسى الكرب الذي امسيتُ فيه يكون وراءه فرجٌ قريبُ |
آملين ومؤملين ان تبرز فلسطين طليقة على سجيتها سافرة عن طويتها، ما دام صوت الحق في الامة الاسلامية قد عصف في رأسها النخوة وتمرّد في نفسها التاريخ فهي تتأهب لاعلان قوتها واعزاز كلمتها وتحصين عزتها في كل الاتجاهات وعلى كل المسارات، وها هم ابناء العروبة البررة في اكثر البلدان يتدفقون في التبرع السخي لمشروع الجهاد الوطني الفلسطيني، يتدفقون تدفق الدماء الحيّة في قلوبهم المريرة وقد دهش العالم لهبتهم العاصفة، كما دهش من قبل لغفوتهم الثقيلة، رغم ان هذا ليس مأخذا على العرب، لأنهم كما قال فرسانهم وأبطالهم:
بعيدٌ عنك ما استغنيت عنه وطلّاعٌ عليك مع الخطوبِ |
وقال الآخر:
يكون مني إذا نابتني نائبة وليس مني إذا استرخى لي اللّببُ |
وعلى قدر الاخلاص والتضحية يُهزم الجمع ويولون الدُّبر، إن عاجلا وإن آجلا إن شاء الله (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) وكان الله في عون المسلمين ما كانوا في عون إخوتهم.
عبدالله التركي البكر خبير التعليم بحائل
(1) تنتر : تبعثر وتمزق.
|
|
|
|
|