| مقـالات
لقد اعتدنا على تداول مفهوم التلوث في المحيط الطبيعي، ولم نعتد بعد على مفهوم التلوث الثقافي، علماً أن مثل هذا التلوث ليس جديداً، أي ان حضارات سابقة مر بها تطور العقل البشري كانت قد رفعته سلاحاً للهيمنة والسيطرة على ثقافات كثيرة، كالحضارة الإغريقية التي كشفت عن عنصريتها بقول واحد من كبار مفكريها (أفلاطون): الحمد لله الذي خلقني يونانياً لا بربريا وحراً لاعبداً ,, بالمقابل عرف العقل البشري في تاريخيته حضارات كالحضارة الصينية والإسلامية التي رفعت رآية العولمة دونما أي تلوث ثقافي.
الآن، وفي ظل الحضارة المهيمة أخذ مفهوم التلوث الثقافي تطوراً باتجاه قهر واستلاب كل ثقافة غافلة عن أمنها وتنمية مجتمعها بكل الاتجاهات فهذه الثقافات عاجزة عن مواجهة هذا التلوث الثقافي ولم تنل منه إلا نفاياته الحضارية,, أي أنها مقبرة لهذه النفايات.
لقد كانت بدايات هذا التلوث على يد رواد الإنثربولويجا في الحقبة الاستعمارية التقليدية عندما توجهوا كمبشرين دينيين أو محاربين في الجيوش الاستعمارية ,, أو مستشارين باتجاه المجتمعات البدائية البسيطة في افريقيا وأمريكا اللاتينية واستراليا وفي جزر التروبرياند وجزر الإندمان وجزر في المحيط الهادي,.
لتمدين تلك الشعوب (المتوحشة) على حد زعمهم التي تعيش حالة قبل منطقية (كما زعم ليفي بريل).
وها نحن الآن نشهد على تفاقم خطورة هذا التلوث الثقافي مع تمركز كل أسلحة الهيمنة (العسكرية والعلمية والاقتصادية) بحزوة قطب واحد، لا وجود لمن يضاهيه.
بالرغم من ثقتنا بثقافتنا وبأنها قوية راسخة رسوخ الجبال الراسيات، فلا بأس علينا من تقوية تحصيناتنا الأمنية جميعها بلا استثناء، وباستمرار وتيقظ.
لنا، لا بل علينا ان نتنبه للاتجاهات التي تأتينا عن طريقها أشكال التلوث الثقافي:
1, عن طريق استيراد النفايات الحضارية من المجتمعات الصناعية مثل الأطعمة والألبسة والعطور وغيرها من المنتجات الاستهلاكية التي تخدر العقل والدين معا وتغيب الاحساس بالمسؤولية والولاء الوطني.
2, عن طريق عمالة تفتقر إلى الوعي والتعليم والقيم الروحية، إضافة إلى كونها في أحيان كثيرة غريبة أو مغتربة عن قيمها الروحية، وأكثرها خطورة تلك الشريحة منها ما يعيش في البيوت كخادمات أو مربيات أو سائقين، يفتقرون اجمالا إلى التعافي الروحي والنفسي والتربوي، ربما لا ذنب لهم في ما آلوا إليه، ولكن، هذه هي ظروفهم التي تشكل خطورة على تنشئة فلذات أكبادنا.
3, القنوات الفضائية، وخاصة تلك التي تستهدف قيمنا الأخلاقية أو تلك التي تتوجه إلى أطفالنا بمشاهد العنف والعدوانية والعبثية والتفكك الاسري, وفي أحسن الحالات قائمة على قيم ثقافية قد تناسب مجتمعاتها وليس بالضرورة أبداً أن تناسبنا,ما أشرنا إليه من اتجاهات نتوقع التلوث الثقافي عن طريقها، ذكرناها على سبيل المثال لا الحصر.
ما يهمنا، هي جملة الإجراءات لتدعيم أمننا الثقافي ولكي نتجنب التلوث الثقافي، بأي شكل من أشكاله، إلى أبعد حد ممكن, من هذه الإجراءات:
1, معالجة مشكلة العمالة الأجنبية من خلال تعميق مبدأ السعودة وبشكل مدروس بعيداً عن أي انفعال لكي نتجنب المضاعفات.
2, محاصرة النفايات الحضارية بطرح وتشجيع البدائل الوطنية والتعاطي مع ما هو إيجابي ومفيد من الإنتاج الحضاري المتطور بشكل يخدم خطط التنمية وتعزيز كافة أشكال الأمن الاجتماعي.
3, القضاء على الجرائم والجنح والانحرافات ومطاردتها في اوكارها قبل أن تشتد ويصلب عودها فيصعب ملاحقتها إذا ما انتشرت لا سمح الله.
4, حصر وظيفة التنشئة الأسرية للأطفال بالأبوين، وفي حال تعذر القيام بهذه الوظيفة، فلا بديل عن مؤسسات تربوية حكومية مرتبطة بخطة اجتماعية تستوعب مصلحة الطفل وبالتالي مصلحة المجتمع.
5, التمسك بالقيم الثقافية المحلية من خلال احتضانها ورعايتها بمهرجانات سنوية كالجنادرية مثلاً.
6, إعادة النظر، وبشكل مستمر (دوري، ومن خلال مؤتمرات وندوات اختصاصية) بأنظمة التعليم في شتى مراحله، والتركيز على قضية الإبداع والبحث العلمي، وربط الجامعة باحتياجات المجتمع الآنية والتنموية بشكل يعزز الاستقلال والسيادة.
7, تكريم وتشجيع العلماء في ثقافتنا من خلال جوائز وأوسمة ورعاية خاصة بهذه الكفاءات الموجودة.
8, الاهتمام بوسائل الإعلام المرئية منه والمكتوبة، بشكل يمكنه من منافسة الإعلام الذي يستهدف شخصيتنا,.
9, التوسع في إقامة المزيد من المراكز الإسلامية في كل مكان من العالم.
10, تقوية جهاز المناعة الاجتماعي بشكل يمكنه من إجهاض كافة سلبيات التغيير الاجتماعي، وتكون هذه التقوية في التنظيم وإعادة التنظيم لكافة المؤسسات الاجتماعية، والتأهيل وإعادة التأهيل للخبرات العاملة في هذه المؤسسات.
11, ردم الهوة بين الأجيال، لكي لا يكون هنا تصدعات بين الأجيال مما يخلق ارتباكا واضطرابات وازمات في الاتصال والتواصل الثقافي.
12, تجيير أي تناقضات اجتماعية لتقوية الشعور بالولاء للوطن والإحساس بالمسؤولية الاجتماعية.
أخيراً,,, فعلى النخب الاجتماعية، التصدي للعولمة بشكل إيجابي وفعال، نحو حوار ثقافي ديمقراطي وليس إلى قبول الغزو الثقافي.
وعلينا ان نهتم بالفئات الاجتماعية المعرضة أكثر من غيرها إلى التلوث الثقافي والترويج له، سواء عن سابق تصور وترصد، أو عن جهل وسذاجة.
ويندرج تحت عنوان هذه الفئات الاجتماعية الضعيفة كل شخص فاشل في حياته الأسرية أو المهنية أو يعاني من بؤس في وعيه خاصة عند بعض الشباب، أو الأطفال الذين يعانون من التشرد أو المدمنين على المخدرات, أو المتعاطين لعادات وقيم غريبة عن مجتمعنا,, ومن في حكمهم.
د, برهان مهلوبي أستاذ مساعد في علم الاجتماع جامعة الملك سعود
|
|
|
|
|