| الثقافية
قبل سنوات كان مجرد الحديث عن الكمبيوتر يثير عددا هائلا من المخاوف لدي، انه ذلك المجهول الغامض الذي لم اتوقف عن تصوره ككائن غريب يحاول التسلل الىنخاع قصيدتي كفيروس عملاق، يمتص رحيقها ويتركها عارية وحيدة في صحراء جليدية تقاسي موتا بطيئا لاشفاء منه.
كانت كلمة ابداع بالنسبة لي كما زالت حتى اليوم بالنسبة لغيري تعني شيئا واحدا: ضد التكنولوجيا، ضد هذا البرود الفج الزاحف بكل جرأة لاحتلال حياتنا المعاصرة، كانت القصيدة اشبه بدرع امام هذا الزحف، ولان التناقض حاد الى هذه الدرجة، فان استخدام الكمبيوتر لكتابتها هو بمثابة التغافل عن تسلل حصان طروادة الى قلبها.
اعترف انني خضت معارك صغيرة كثيرة انتصارا للقلم والورقة البيضاء والحبر، الحبر الاسود بالتحديد الذي كتبت به قصائدي ورواياتي حتىمابعد اواسط التسعينات ويبدو ان فقدان معنى البراءة المتلاحق في يومنا يدفعنا احيانا للتمسك بأبسط مايرمزاليها, ولم يكن ثمة مايرمزاليها اكثر من الورقة البيضاء، والقلم خاصة وانهما وسيلة الإنتاج بالغة التقشف التي يحسدنا عليها السينمائيون والمسرحيون والتشكيليون والناحتون و,,,، ورغم ذلك الجهد المبذول في الكتابة، لانني واحد من اولئك الذين ينسون خلالها عدم وجود مبرد للضغط بهذه القوة على الورقة اليضاء، الا ان فكرة البساطة تظل آسرة هنا، اذ المسافة بين القلب ورأس القلم اقرب بكثير من المسافة بينها وبين الشاشة، فما بالك بالهارد دسك !!
اتذكر الآن ماحدث لي مع الكمبيوتر والتعامل معه كعدو، واتذكر في الوقت نفسه ذلك العداء المر والشرس الذي ابدته امهاتنا حين ظهر على هذا الكوكب بين عشية وضحاها ذلك الكائن الخطر الذي يدعى البوتغاز فقد ابدين تمسكا ببابور الكاز كما لو انه بطاقة وجودهن في هذا العالم، فالبوتغاز خطير وأي خطأ يكفي لقتل كل من في البيت والتطويح بالبيت نفسه الى الجحيم، اذكر خرافات لاتحصى رافقت دخول الكائن الجديد الى بعض البيوت كما حدث تماما مع الغسالة الكهربائية، اذ بقيت الامهات متمسكات دون هوادة برأيهن القائل ان هذه الغسالات لاتنظف كأيديهن، ولم يكن سوى حجة لإبعاد هذا المخلوق عن بيوتهن لانهن سمعن عن نساء يمتن يومياً بالصعقات التي تنتج عن لقاء الماء بالتيار الكهربائي.
وحين اقتنعن بأن البوتغاز يمكن ان يحتمل في البيت، لم يتخلين تماما عن بوابير الكاز، بل انهن كن يغافلن ازواجهن ليطبخن على الكاز, ويبقين خائفات ان يكتشف الزوج آخر النهار الفرق بين طبخة انضجت على البوتغاز وطبخة انضجت على البابور.
لكنهن وأزواجهن معهن وأولادهن ايضا، لم يكن بإمكانهم ان ينسوا اغلاق جرار الغاز كلما انجز شيء على ناره، فلعله يغافلهم نائمين ويخنق الجميع؟!!
وقد كنت علىدين امي في هذه، مع الفارق الكبير بين كمية النار اللازمة لإنضاج رأس قرنبيط وكمية النار اللازمة لتخلق قصيدة!!
وكأمهاتنا اللواتي بدأن يعترفن مضطرات بسبب تزايد الابناء والمتاعب المرافقة لوجودهم بأهمية الغسالة واهمية جرة الغاز، بدأت اعترف بأهمية الكمبيوتر، او على الاقل ان اقف محايدا حين يتم التحدث عن مزاياه، خاصة وان مشاغلي باتت تكبر يوما بعد يوم مع دخولي المتزايد لعالم الكتابة الروائية، وما تتطلبه كتابة رواية من جهود وسنوات من العمل، لقد بدأت مثلا بكتابة طيور الحذر وعمري ستة وثلاثون عاما، وانهيتها في الاربعين، ان مجرد التفكير بذلك يبعث على الهلع, كما ان الرواية تقتضي كتابة اولى وثانية وثالثة، ورابعة احيانا.
هل كنت سأكتفي بالورقة والقلم لو لم اكتب سوى الشعر؟ لعل الجواب هو اللا جواب هنا: ربما
لكنني ذات يوم وصلت الى قرار خطير: لابد من الكمبيوتر، ان لم يكن اليوم، فغدا!! هذا القرار العقلي لم يكن اكثر من الحاق الهزيمة بالعدو في الحلم, لكن من قال ان معركة الحلم هذه فارغة من معناها, لذا كنت بحاجة لان احلمها اكثر من مرة حتى اصحو ذات يوم وانا افكر هل حدثت المعركة في الحلم ام في الواقع؟
ترديد كذبة، مهما كانت كبيرة، يحملها نحو وهم الحقيقة باستمرار.
لقد اقتنعت عقليا، ولكن كان يلزمني القلب لأومن بما افكر به, هكذا رحت ادور وادور حول القرار يوما بعد يوم، دون ان اتجرأ على دخول عتبة شركة لبيع هذا الجهاز, لكنني حسمت الامر في النهاية على النحو التالي: ثمة شخص مريض بمرض خطير للغاية، وإذا لم يوافق على اجراء عملية جراحة مستعجلة له فإنه سيموت!
بهذه الروحية عبرت عتبات شركة لبيع اجهزة الكمبيوتر، واشتريت.
وكما تفجرت مخاوف امهاتنا قديما امام كل ماهو جديد، تفجرت مخاوفي، كما لو ان هذا الجهاز سينقض ذات يوم علي وعلى ما اكتبه فيبتلعنا, لكن، وكما يحدث دائما فإن العدو الذي يمكن ان تراه، اقل عداوة وخطرا من العدو الذي لا يبلغه بصرك.
من هنا تأتي الجرأة.
هكذا رحت اتجاسر واتسلل عبر هذا العقل المخيف يوما بعد يوم، ولم اجد وسيلة افضل واسلم من ان اقوم بنسخ بعض مخطوطاتي الشعرية, وما ان انتهيت حتى كنت قد بدأت تناسي الخوف القديم, ان لم يكن كله فمعظمه.
تدريجيا بدأت بكتابة بعض الاسطر من رواية كنت وصلت الىمنتصفها بالقلم، وساعدني ان لغة الرواية كانت قائمة على المكر الشديد بحيث تحتاج كل مفردة الى عناية خاصة بها، كانت رواية يكتبها البطء، وكانت سرعتي الحلزونية في الكتابة مباشرة باستخدام الكمبيوتر مناسبة تماما لمثل هذا العمل, الا انني بقيت خائفا على الشعر، فما ان تخطر ببالي قصيدة حتى اقفل الجهاز واهرع الى الورقة والقلم.
عشت هذا الفصام زمنا، ولكنه لحسن الحظ لم يكن طويلا، اذ ما ان اصبحت اصابعي قادرة على مجاراة فكرتي في سرعتها حتى وجدت نفسي اكتب كل شيء بالكمبيوتر.
الآن يمكن ان اعترف ان اكثر اعمالي الشعرية تأثيراً وحرارة، واعني ديوان الام والابن قد كتب بلا ورق ولا اقلام وانني فرح بالنتيجة.
الآن يمكنني القول إنني لم اعد استطيع الكتابة براحة تامة حين استخدم القلم.
الآن يمكنني ان اعترف ان هذا الجهاز قدم لي الكثير كي انجز براحة اكبر.
وبالتأكيد لايعود هذا الامر لموهبة خاصة كانت تسكنني ولم اكن اعيها، بل يعود ببساطة للاسف، او للأسف الى حقيقة ان الإنسان هو المخلوق الاكثر استعدادا لاعتياد الاشياء.
***
وبعد:
كنوع من الوفاء للماضي فكرت بكتابة هذا المقال بالقلم، حتى انشره دون ان اخدع القارئ الذي اعتاد ان يقرأ القراء يعتادون ايضا!! المقال بقلم:
فلان, لكنني لم استطع، ولذا احب ان انوه هنا إلى ان اي إشارة تفيد بأن هذا المقال قد كتب بقلمي ليست صحيحة!!
|
|
|
|
|