| مقـالات
جاء توجه الحملة الصليبية الاستعمارية الخامسة إلى مصر نتيجة لإدراك المستعمرين بأن صمود المدافعين عن القدس يستمد بعض قوته من مصر فأرادوا عزل فلسطين عن اتصالها الجغرافي والعسكري مع هذا البلد.
وبالتالي إغلاق البوابة الوحيدة بين فلسطين وباقي الدول العربية والإسلامية في أفريقيا, ولما لم يتحقق لهم هذا الهدف في الحملة الخامسة تربصوا حتى استحكمت النزاعات بين الحكام الأيوبيين ما أشبه الأمس باليوم! ووصلت إلى درجة اقتنع معها الغزاة بأن الاتجاه إلى فلسطين مباشرة أمر ممكن فجهزوا حملة سادسة بقيادة امبراطور ألمانيا الذي تمكن من احتلال القدس مرة ثانية عام 1229م وبقيت تحت الاستعمار حتى استفاق الاخوة المتنازعون وأعادوا تنظيم وتوحيد بعض صفوفهم الأمر الذي مكنهم من تحرير القدس سنة 1244م لكن الأطماع الاستعمارية لم تنته ونزعة البغي والعدوان تجاه العرب والمسلمين تشغل العقول والضمائر الاستعمارية فعقدوا العزم على عدوان آخر أمضوا أربع سنوات يعدون له العدة ويجمعون له الجيوش المتوحشة ثم اتجهوا إلى الشرق بقيادة ملك فرنسا إيذانا ببداية الحملة الصليبية الاستعمارية السابعة وكانت وجهتها إلى مصر بوابة العرب إلى النصر والهزيمة وتآمرت قوى الاستعمار مع المغول للضغط على المسلمين وشغلهم من ناحية الشرق فسقطت دمياط سنة 1249م بيد المستعمر الغربي لكن مدينة المنصورة كانت صامدة منصورة فقد هزم ملك فرنسا على أبوابها ووقع في الأسر وتمثل أهل المنصورة أخلاق صلاح الدين الأيوبي فأطلقوا سراحه ,, ودفع العرب والمسلمون ثمن ذلك الحلم والتسامح فقد عض اليد التي حلت وثاقه واستمر في دعم ما تبقى من الجيوش الصليبية الاستعمارية الأمر الذي مكنها من البقاء في البلاد العربية حتى عام 1291م.
لقد لحق بالعرب والمسلمين جراء تلك الحروب العدوانية بأس شديد: قتل جماعي وهتك للأعراض وتخريب للأوطان وتدنيس وهدم للمقدسات في حين استفاد الغربيون من الحضارة العربية الإسلامية فوائد عظيمة هي الأساس الذي قامت عليه حضارتهم,, وكانت الحروب الصليبية الاستعمارية مناسبة مأساوية لتقابل الحضارتين: الحضارة الغربية الاستعمارية الغاصبة المتوحشة المتخلفة والحضارة العربية الإسلامية تلك الحضارة الإنسانية المطلعة إلى آفاق العلم والتفكر والسلام وإعمار الأرض.
بعد إجلاء المستعمرين الصليبيين عن الوطن العربي تعاقبت الأحداث وقامت الممالك والإمارات والخلافات على أنقاض بعضها البعض, وحين جاءت الخلافة العثمانية ترفع راية التوحيد والوحدة الإسلامية فرح بها المسلمون لكن وضع شخص غير مناسب في مكان مناسب يؤدي إلى كوارث محدقة فالجيش العثماني أخذ في إحدى المراحل يتعامل مع اخوته العرب بنفس الأسلوب الذي مارسه المستعمر الغربي تجاه العرب والمسلمين واتبع العثمانيون سياسة (فرق تسد) فأثاروا العداوات بين العرب لإضعافهم ولم يعلموا أن في ذلك إضعافا للمسلمين جميعاً,, وهكذا تكالب الأعداء على الوطن العربي وعاد الاستعمار الغربي في قوالب وأساليب جديدة بعد أن عقدوا المؤتمرات والاتفاقيات لاقتسام ما أسموه بتركة الرجل المريض وهو الاسم الذي أطلق على الخلافة العثمانية عندما بدأت في الانحدار ومن أهم تلك الأساليب:
1 العمل على جبهتين من الناحية الاستراتيجية الأولى جبهة دينية تتخذ من التبشير قاعدة لانطلاقها والثانية جبهة عسكرية تنجز عملياتها بالغزو العسكري برا وبحراً.
2 استغل الاستعمار الغربي ما دب من عداوات بين العرب والعثمانيين فأذكى نار القوميات العربية ضد الخلافة العثمانية وبخاصة بعد أن تنكر العثمانيون للأخوة الإسلامية وعادوا إلى الجذور الاثنية للأتراك فازداد تدميرهم للبلاد العربية وسحقهم لشعوبها.
3 اتبع الغرب خطة مزدوجة في تعامله مع العرب فهو من جهة لايتردد في القيام بأبشع الأعمال العسكرية ضد أجزاء من الوطن العربي ثم يحتلها ومن جهة أخرى يدعم القوميات العربية ضد الخلافة العثمانية وهذا ما بلبل الافكار العربية وجعلها في حيرة من أمرها.
4 عمد الغرب إلى أن يكون تمدده في الوطن العربي بطيئا ومتجايلا مع انحسار الخلافة العثمانية فلم يكن الاستعمار يصل إلى أي جزء من هذا الوطن إلا وقد قتل معظم محاربيه في معاركهم مع الجيش العثماني وأنهك من بقي منهم وهكذا دواليك حتى أصبح الوطن العربي من دمشق إلى عدن ومن الكويت إلى الجزائر مستعمرة غربية.
وقد لعب عدد من العوامل دوراً مهماً في مساعدة الاستعمار الغربي على استمرار بسط نفوذه وسيطرته على الوطن العربي مدة طويلة دون أن تلحق بجيوشه خسائر كبيرة وكان من أهم تلك العوامل أن العرب لم يستفيدوا من تجاربهم السابقة التي عانوا فيها من غدر الاستعمار ولم يكن ادراكهم لفداحة تآمر العربي على أخيه العربي في المستوى الذي يجعلهم يرفضون أي مصلحة ذاتية إذا كان ثمنها هو التآمر مع الاستعمار ضد بعضهم البعض,, هذا بالإضافة إلى أن الغرب درس تاريخ وأحداث العرب ثم وظف النتائج لإثارة النزاعات والمخاوف من الأطماع بين بعض القادة والحكام العرب, واستغل ذلك لرسم الحدود بين الإمارات والممالك العربية بشكل ساخر فبعض تلك الحدود غير متعرجة وتبدو كما لو كانت مرسومة بالمسطرة لأنها لاتستند على اختلافات ديموغرافية أو ثقافية تفرق بين مجتمع عربي وآخر مما هو موجود بين الدول الأخرى رغم أن الاستعمار قد نجح إلى حد كبير في خلق مثل تلك الفوارق بين العرب.
لقد بذل المستعمرون كل الجهود اللازمة لاستمرار الأمة العربية في حالة من الهزيمة والانكسار فعملوا على خلخلة التركيبة السكانية في فلسطين من خلال زيادة أعداد اليهود تمهيداً لزرع الدولة الصهيونية لتكون مرتكزاً لتحقيق أهداف إجرامية في حق الأمة العربية وليس من جديد القول بأنه لامثيل لموقع فلسطين فهو الموقع الذي يربط بين آسيا وافريقيا وأوروبا وهو الموقع الوحيد الذي يربط بين شرق الوطن العربي وغربه,, ذلك الربط الذي أعلن الغرب في كثير من المناسبات أنه ممتعض ومتخوف من استمراره وأعلن جهوده الرامية إلى ذبح الوطن العربي من منتصفه للفصل بين شرقه وغربه وقد حقق هذه الإرادة العدوانية البغيضة ولاتزال دماء الأمة العربية تنزف ففلسطين والجولان وأجزاء من لبنان تحت الاحتلال العسكري الصهيوني المباشر والوطن العربي واقع تحت الهيمنة الأمريكية والبريطانية ولايحول بيني وبين القول بأنه يقع تحت الاستعمار الأمريكي والبريطاني الكامل سوى اعتبارات أدبية مع أن ذلك لا يغير عند العقلاء شيئا من الواقع لأن الأمور تؤخذ بنتائجها ومن يفكر في حال الأمة العربية لا يجد صعوبة في تكييف ردود الأفعال العربية على كثير من الوقائع وردها إلى أسبابها.
إن بريطانيا تتحمل كل المسؤولية عن قيام الدولة الصهيونية في قلب الأمة العربية بينما تتحمل أمريكا كل المسؤولية عن بقاء الصهيونية وعن جميع اعتداءاتها على الأمة العربية فقد قامت بريطانيا إبان احتلالها لفلسطين بتسهيل كل الصعاب واتخاذ كل الاجراءات اللازمة لغرس الشجرة الخبيثة (إسرائيل) في فلسطين بصورة سرية فعملت على استقطاب اليهود الصهاينة إلى فلسطين وساعدتهم على تنظيم وتفعيل جهودهم السياسية التي كانت قد بدأت في مؤتمرهم الأول في سويسرا سنة 1897م وحين استحكمت حلقات المؤامرة أعلن وزير خارجية بريطاني في عام 1917م رغبة حكومته في انشاء وطن للصهاينة في فلسطين وبهذا انتقل العمل البريطاني والصهيوني السري لتحقيق هذه الغاية إلى العمل المعلن الذي استمر واحدا وثلاثين عاما لتثبيت أقدام الصهيونية ثم غادرت بريطانيا فلسطين عام 1948م وأعلن عن قيام دولة إسرائيل في العام نفسه.
بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت أمريكا قوة امبريالية عظمى فغير الصهاينة حصانهم ولم تخيب أمريكا أملهم فقد سعت إلى جعل وجود الصهاينة في فلسطين مشروعا ومحميا بالقانون الدولي فاستصدرت قرارا من الأمم المتحدة عام 1947م بتقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة وحين أعلن عن قيام دولة إسرائيل اعترفت بها أمريكا في غضون دقائق لتفتح بذلك الباب أمام باقي الدول الغربية وجندت كل امكاناتها لدعم الاغتصاب الصهيوني والرفع من قدرات هذه الدولة العنصرية عسكريا وتكنولوجيا وانبرت بلا هوادة تظلم الأمة العربية وتخذّل من مواقفها بالتدخل العسكري المباشر والرهاب السياسي والاقتصادي والاستخباراتي ومن يراقب ويستعرض بدقة تلك التصرفات الأمريكية في الماضي والحاضر فلن يجد حرجا إذا وصف أمريكا بأنها تتصرف كما لو كانت في حالة حرب حقيقية مع العرب وهناك مؤشرات آمل ألا تكون صادقة بأن المواقف الغربية تجاه الأمة العربية في المستقبل ستكون أقسى وأعنف من ذي قبل وستضيف إلى أساليبها السابقة أنماطاً متطورة تستهدف البنية الثقافية العربية والتركيبة السكانية والخريطة السياسية للوطن العربي.
لقد عكست بريطانيا وأمريكا إلى العالم في بداية قيام الدولة الصهيونية فكرة مؤداها أن دافعهما من وراء الدعم الذي تقدمانه للدولة الصهيونية يكمن في ضرورة وجود صديق مأمون يضمن بالارهاب حماية ممر قناة السويس وابقاءه مفتوحاً أمام الاساطيل البحرية للدولتين كي تصل بدون رسوم بالسرعة المناسبة من وإلى أي مكان في آسيا غير أن عدداً من المتغيرات قد أفرزت تساؤلا مهما يقول: لماذا تستمر أمريكا في دعم اسرائيل في عدوانها على سورية ولبنان وباقي الدول العربية وقد ضمنت حرية الملاحة في قناة السويس بعد اتفاق السلام بين الصهيونية ومصر في كامب ديفيد؟, وبعد أن أصبحت كل العوامل تسير في الاتجاه الذي يكفل تقديم ما تحتاجه السياسة الأمريكية من تسهيلات وظروف مواتية للهيمنة على كل أجزاء الوطن العربي عسكريا وسياسيا واقتصاديا وبشكل يفوق ما قدمته وما ستقدمه الصهيونية لأمريكا في هذا المجال.
وحين نربط بين هذا المسلسل من الاعتداءات والحروب التي شنها الاستعمار الغربي والصهيونية الاسرائيلية وبين القمة العربية الأخيرة نجد أن جدول أعمال هذه القمة يعالج قضايا لها جذور تعود إلى عام 972م وهو العام الذي بدأت فيه بوادر الهجمة الاستعمارية الصهيونية على الوطن العربي مما يعني أنه قد حان بتر تلك الجذور واخراج أمتنا من حالة الضعف والانهزام وايقاف هذا المسلسل الهمجي.
وفي الوقت الذي اكتب فيه هذا المقال وأرسله للنشر قبل يوم من انعقاد القمة العربية أقول: ان نتائج هذه القمة لن تكون ملبية لمطالب الأمة العربية,, وسينشر هذا المقال بعد انتهاء أعمال القمة ومن يقارن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون سيجد عجباً وقد بنيت توقعي هذا على عدد من المعطيات فالجزائر موعودة بمساعدة غربية للتغلب على الجماعات الإسلامية المسلحة هناك والعراق يرغب في تخفيف الحصار وليبيا ترغب في انهاء الاجراءات القضائية الفرنسية ضد بعض الشخصيات الليبية وتخفيف الضغوط حول قضية لوكربي ومصر تخشى من اثارة الاضطرابات بين الأقباط والمسلمين أو تحريك الاستخبارات الأمريكية للجماعات المسلحة في مصر ودول الخليج تعاني من التهديدات العراقية والمغرب يبحث عن مساعدات ضد حركة البوليساريو وتونس تريد تخفيف الضغوط الغربية في مجال حقوق الانسان والسودان أثقلت رأسه عمامة من المشاكل الداخلية التي يغذيها الغرب علناً وسورية تنظر إلى الجولان ولبنان يركض باتجاه مزارع شبعا واليمن يسعى للتخفيف من تداعيات الهجوم على المدمرة الأمريكية والسلطة التنفيذية الفلسطينية مشغولة بمطاردة أعضاء من منظمة حماس طلبت اسرائيل اعادتهم إلى السجن إلى غير ذلك من الظروف والضغوط التي يمارسها الغرب على الأمة العربية,, فهل أصبح تغيير الحال في جو من التعاون والتفاهم بين الشعوب العربية وأنظمتها ضربا من المحال؟ وهل تحول الجهاد ضد الصهيونية والاستعمار إلى اثم وارهاب؟ في حين أن الشعوب العربية لم تقترف ذنبا عندما طالبت قادتها بالعمل على اخراج الانسان العربي من مستنقعات الذل والانهزام أمام الصهيونية الجبانة والتفرقة العنصرية الغربية واضطهادها للإنسان العربي,, واختم هذا المقال بتوقيع بطل: إن الصهيونية حركة ظالمة تقوم على مبادىء جائرة واضطهادية وانها تهدد البلاد العربية في الوجهتين الحربية والاستراتيجية عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، 1947م.
|
|
|
|
|