| الثقافية
الظواهر الأدبية التي تبرز على أجناس الأدب هي البصمة الوحيدة التي قد يتركها الكتاب تقنيا عن جيلهم أو لنقل عصرهم,, والأدب العربي أحد الآداب التي ظلت لزمن طويل محط انظار الكثير من الباحثين غرباً أولا ثم شرقاً.
ولاشك ان المتبصر بشكل الكتابة الحديث في العالم العربي يلحظ الكثير من الظواهر لغوياً وأسلوبياً وحتى فكرياً وهذه الظواهر هي نتيجة طبيعية للتمازج الحضاري مع الآداب لدى الأمم الأخرى.
في هذه السطور سنترك الظواهر اللغوية والفكرية جانباً وسأطرق بايجاز الظواهر الاسلوبية ليس ببحث أكاديمي دقيق ولكن بشكل قد يفتح افاقا للكتاب الجدد الذين مازالوا يتلمسون الطريق بحثا عن خط مميز يسمح لهم مستقبلا بالتواجد على صفحات تاريخ الأدب العربي.
لقد لمعت اسماء كثيرة في القرنين الأخيرين لكتاب عرب في مجال الرواية والقصة القصيرة إلا انها لم ترسم ملامح شخصية لكتاباتها بل اقتصرت على اجترار اساليب مطروحة في سوق الأدب العربي منذ مئات السنين وعندما تتصفح ما تركته تلك الاسماء من اعمال تجده بكل أسف بعيداً عن الابتكار وبعيداً عن المنافسة في سوق الادب العالمي وقد يكون لهم العذر في ذلك لعدة عوامل اهمها عدم اجادة الكثير منهم للغات اخرى ومن ثم الولوج لاداب تلك اللغات مباشرة بعيداً عن تداخلات ورؤى المترجم مما جعل التفاعل مع النماذج الابداعية العالمية مبتوراً.
لن آتي بشيء جديد إذا ما أشرت إلى سلطة الفعل الماضي والصيغ الركيكة المرتبطة به عند كثير من كتابنا كالاستعانة ب(كان وأخواتها) في كل مرة يبدأ الكتابة وسنأخذ نجيب محفوظ كنموذج لكاتب عربي مرموق ففي الكثير من اعماله ينطلق في الكتابة من جديد بصيغة الماضي لا شعورياً وهذا يعطي مؤشراً خطيراً على ما وصلت إليه هذه الظاهرة من تأثير كبير على تفعيل العمل الادبي الاحترافي ففي رواية المرايا على سبيل المثال بدأ نجيب محفوظ في كل اجزاء الرواية بصنعة الماضي وإليكم الافتتاحيات في كل جزء.
كانت السفينة تصعد مضت ساعة من الزمان ارسل الملك في طلب,, وعلى اثر وصول فرعون الى قصره دعا,, وخرج الجنود,,, وانبعثت في القصر,, وخرج الجيش,, إلى آخر جزء من الرواية ومازال نجيب يصر على البقاء في إطار الطرق على الفعل الماضي دون ادراك اهمية الفعل المضارع في تفعيل حركية الرواية وتنبيه ذهن القارئ ولعل ذلك يعود إلى مشكلة ثقافية تخص الثقافة العربية بشكل عام.
وإذا ما أخذنا في المقابل كاتبا غربيا من كتاب هذا القرن هو ارنست همنجواي والقينانظرة على احدى مجموعاته القصصية ولتكن (رجال بلا نساء) لوجدناه يفتتح قصصه بطريقة مختلفة تماما عن الطرح الذي يسلكه نجيب محفوظ وسأكتفي في هذه السطور بنجيب وهمنجواي,, لنتتبع الفروقات بين الكتابة الانفعالية والكتابة الاحترافية ولننظر سويا إلى نماذج همنجواي وكيف يدخل في عملية الكتابة وفي قصة (عشرة هنود) يقول: بعد أسبوع من يوليو,, نيك يقود سيارته عائداً إلى بيته,, وفي قصة في بلد آخر يبدأ ب في الخريف الحرب ماتزال هناك ، وفي اليوم الجمعة يقول في المدخل جنود رومانيون في مكان للشرب في الحادية عشرة ليلاُ,,, .
والنماذج كثيرة في هذا السياق وهي تكشف لنا عيبا فنيا في قضية التناول القصصي التقليدي عبر توظيف الفعل الماضي في غير محله مما يعني قصوراً في ايصال الصورة كاملة الى المتلقي وبدلا من جعله يعيش الحكاية بكل جمالياتها ننفي الزمن المضارع ونخرجه إلى زمن آخر وقد يكون ذلك بدافع عاطفي احيانا لما تعانيه ثقافتنا من حنين للماضي.
والآن لنخرج نحو زاوية اخرى وهي تقنية ايضا تخص القصة والرواية تتعلق بالوصف لحالة أو مكان وندرس كيفية ابتكار الوسائل التي تؤدي الغرض المنشود وتكشف عبقرية الكاتب وتميزه وسنعود لطرح نموذجين لدراسة الفارق والتأثير يقول نجيب محفوظ في نفس الرواية وبلغت السفينة مرفأها، وكانت الشمس تنغمس في النيل والشفق يخضب الأفق,,
هنا وصف طبيعي بشكل مباشر ليس فيه اي ابتكار من اي نوع وكأنما هو يسلك اسهل الطرق في الوصف.
وللنظر لطريقة مبتكرة لدى همنجواي عندما يصف المكان يقول في قصة (تلال كالفيلة البيضاء).
انها تشبه الفيلة البيضاء.
لم أر واحداً من قبل.
أقصد تلك التلال البعيدة هناك,.
ربما رأيتها من قبل
الفتاة من خلف الستارة
هل تودان تجربة مشروبٍ آخر,.
إذا ما تمعنا في هذا الجزء الحواري لوجدناه يصف لنا بعضا من المشهد وما يحيط بالمتحاورين دون ان يلجأ الكاتب إلى وصف خارجي من طرفه فقد استطاع بتقنية عالية ان يجعل بطلي القصة يصفان المكان عبر حوار يجسد في الوقت ذاته حالتهما النفسية.
ان ابتكار مثل هذه التقنيات يحتاج إلى المثابرة والبحث الجاد في قضية الكتابة وعدم الركون إلى مجرد الموهبة في سبيل الوصول للقارئ فالمسألة الآن اصبحت تطويراً وإضافة في الاسلوب واكتشاف طرق جديدة لتحقيق أهداف القصة او الرواية وليست مجرد تسلية بل احتراف وتطوير مهارات ودراسة التأثير النفسي لما يمكن ان يقوله الكاتب على المتلقي.
عبدالله الفهيد
|
|
|
|
|