| شرفات
أمير كندة,, أمير الشعر الجاهلي,, عاش فارساً ورحل بعد حياة قصيرة محفوفة بالمكاره,, محفوفة بالأساطير أيضا,, انه امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، والقيس الذى يُضاف إليه اسم صنم كان يعبد في الجاهلية! اعتنق جده المزدكية ودعا إلى شيوعية فوضية في المال والنساء، واعتنقت عمته هند النصرانية وبنت ديراً باسمها على حين كان المنذر زوجها ملك الحيرة وثنياً, تقاتل عماه شرحبيل وسلمة في معركة دموية عُرفت بيوم الكلاب الأول، كما دارت حرب البسوس أربعين عاما بسبب مقتل خاله كليب بن وائل الذي كانت العرب تضرب به المثل في العزة, وكان الملك عمرو بن هند ابن عمته طاغية مستبداً.
أخواله أمراء وأعمامه أمراء، يحكمون بالسياسة حينا وبالقهر في أحيان كثيرة، وتعج بيوتاتهم بالثراء والأحقاد واللهو والفحش والكبر والتسلط والقتال, فاكتفى امرؤ القيس أصغر اخوته ان يكون الفتى المدلل، نهاره في الصيد واللعب وليله في الشرب والطرب مع ابناء السراة أو يقوم برحلات لا تنتهي بعيداً عن بيت الأسرة لانه يفتقد الحنان الذي يشد أمثاله إلى البيت، خاصة ان الأب يضيق بسيرته ويحيا في خلاف دائم معه، تارة لانه احب عنيزة ابنة عمه شرحبيل، وتارة لأنه يشبب بزوجة أبيه تدعى هر ويقال انها جارية اهملها الأب فوجد فيها الابن المراهق منقذاً لطاقاته المكبوتة:
وهرُّ تصيد قلوب الرجال وأفلت منها ابنُ عُمرو حُجُر |
يسمعه الأب فيثب ويطفق يلطمه قائلا: ألم أنهك عن أن تقول شعراً، وعن ان تذكرني في شعرك؟! لكن شيئان لا يستطيع امرؤ القيس ان يحيا بدونهما: الشعر والنساء! فهو يصف المرأة متذكراً ومتأملا وماجنا، بعضهن تعالى عليه فاتخذ منهن موقف العاشق المتذلل كفاطمة بنت العبيد بن تعلبة التي يدعوها ألا تسرف في التدلل، ومن صويحباته أيضا هرُّ جارية ابيه، وعنيزة ابنة عمه شرحبيل المشهورة في واقعة يوم دارة جُلجُل حين ارتحل الحي وتخلف امرؤ القيس بعد قومه فكمن في غيابة من الارض حتى مر به النساء، فإذا فتيات فيهن عنيزة، فلما رأين الغدير قلن: لو نزلنا في هذا الغدير واغتسلن, وبالفعل نحين العبيد ودخلن في الغدير، ليأتي امرؤ القيس ويجمع ثيابهن وهن في الماء وقعد عليها قائلا: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو ظلت في الغدير إلى الليل، حتى تخرج كما هي مجردة فتكون هي التي تأخذ ثوبها! وبعد تلكؤ خرجن واحدة وراء أخرى عدا عنيزة التي ناشدته ان يضع لها ثوبها, فقال: لا تمسيه حتى تخرجي عريانة كما خرجن, فخرت واقبلت الفتيات عليه يقلن له: غدِّنا فقد حبستنا وجوعتنا، فذبح لهن ناقته وأشعل ناراً بمساعدة العبيد والخدم لطهيها, وبعد الشبع والغناء والشرب، عُدن في طرب وكل واحدة تحمل شيئا من متاعه وزاده وبقيت عنيزة لم يحمّلها شيئا فقال لها: يا بنت الكرام، ليس لك بد من ان تحمليني معك فأنا لا أطيق المشي ولم أتعوده, فحملته على بعيرها فكان يميل إليها ويدخل رأسه في خدرها ويقبلها:
ألا رب يوم لك منهن صالحٍ ولاسيما يومٌ بدارة جُلجُلِ ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجباً لرحلها المتحمَّلِ ويوم دخلتُ الخدرَ خدرَ عُنيزة فقالت: لك الويلاتُ إنك مُرجِلي |
ورغم علاقاته النسائية المتعددة إلا انه لم يكن موفقا في حياته العاطفية، كثير الزواج كثير الطلاق، لذلك نجد ان زوجته أم جندب تفضل عليه شاعراً آخر هو علقمة الفحل فيطلقها ظنا منه انها لا تفاضل بين شاعرين وإنما تفاضل بين زوج وعشيق, وحين سألها في ساعة صفاء ذات يوم: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك انك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الاراقة، بطيء الافاقة.
هكذا افتقد في اسرته العطف والهدوء النفسي كما افتقد بين زوجاته الحب والتقدير، فلم يكن حريصات على رضاه وكان هو من جانب آخر سيئ الظن بهن سريعا إلى التخلص منهن فعاش حياته مغامرات متصلة يقتحم منازل الحرائر وبائعات الهوى سواء بسواء، أو يتريث حتى ترسل اليهن احداهن فيحكى عنها ولا يشي باسمها أبداً:
مهفهفةٌ بيضاء غيرُ مُفاضةٍ ترائبها مصقولة كالسجنجلِ |
يعب من مباهج الحياة ولا يبالي بصراع أبيه أمير كندة مع بني اسد الذين ثاروا على طغيانه ومنعوا الضرائب، وأخيراً استطاع علباء الكاهلي ان يهجم على قبته ويقتله, وعلى امرئ القيس الآن ان يأخذ الثأر,, ان يسترد المُلك,, تاركاً اللعب واللهو والنساء إلى أمد غير معلوم ربما كان لا يحب أباه لكنه قطعا يشعر بفخر الانتماء إلى سراة كندة، ومن العار حقا ان يضيع دم اميرها وابناؤه أحياء.
خرج امرؤ القيس يطلب نُصرة بكر وتغلب وحمير، نصرة الاخوال والاحلاف والاعوان,, قبيلة تنصر وقبيلة تخذل:
لقد أنكرتني بعدم وأهلها ولابن جُريجٍ في قرى حمص أنكرا |
يطوف في مدن الجزيرة فارسا ضليلا، ما ان يذق طعم النصر حتى يلقى الهزيمة وغدر الأصحاب:
كذلك جدي، ما أصاحبُ صاحباً من الناس إلا خانني وتغيّرا |
يأسى لايامه الخوالي,, يأسى لمجد آبائه الضائع,, فلا استرد مُلكا ولا ثأر من قاتل ابيه,, لا الآمال الكبار تحققت ولا هموم الليل تنزاح:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليتبلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكلِ ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ بصبح وما الاصباح منك بأمثلِ |
اصبح يخشى الصباح بما قد يحمله من هموم أخرى وهزائم أخرى، وأشار عليه البعض ان يطلب العون من امبراطور بيزنطة جوستنيان، فرحل إليه في وفد من اهله ومعاونيه بعد ان رهن الكثير من المتاع والدروع لدى السموأل بن عادياء المرابي اليهودي.
كان الامبراطور يطمح ان يتخذ من كندة شوكة في ظهر اعدائه من الفرس وأهل الحيرة، لكنه كان شيخا فانيا توفى في نفس العام يعاني من تضاؤل اعداد جيشه، فاكتفى بالوعد وتطييب الخاطر, ويقال ان امرؤ القيس اعجب بابنته وعشقها فأتى إليها وأتت إليه، فساء القيصر ذلك، وأرسل إليه في طريق عودته حلة مسمومة، تقطع لحمه بمجرد ان يلبسها، فكانت سبب وفاته الغامضة قرب انقرة، ولذلك سُمي بذي القروح:
فقلتُ له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً، أو نموت فنُعذرا |
إنه اليوم غير الأمس، شاب منه الشعر قبل الأوان، وتقوس الظهر في رحلات ومعارك لم تفض إلى شيء وتصرم من بين يديه المال والاعوان المخلصون:
إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي وقد طوقت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإيابِ |
كان إياباً حزينا لفارس دون الاربعين رغم ظروف الموت الاسطورية الغامضة، بما يكون قد أصيب بمرض الجدري او بمرض جنسي غامض إذ تشى أحاديثه مع النساء بذلك انعكس في التهاب جلدي ادى شيئا فشيئا إلى تساقط الجلد وهو في طريق العودة يغني مأساته وحده:
فلو ان ما اسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ ولكنما أسعى لمجدٍ مُؤثلٍ وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي |
كأنما صوته صوت المتنبي ذاته، يتردد في البرية قبل قرون,, نفس الجموح ونفس المصير الاسطوري الغامض بحثاً عن مجد لا ينال فهل نال المجد حقاً ,, ؟
ربما ناله أميراً للشعر فحسب ,,, !!
شريف صالح
|
|
|
|
|