أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 19th October,2000العدد:10248الطبعةالاولـيالخميس 22 ,رجب 1421

الثقافية

قصة
الشهيد والجلاد
إبراهيم الناصر الحميدان
الى روح الطفل محمد رامي الدرة الذي أبكى الآلاف وأحدث قتله صدمة لدى الملايين من الشرفاء .
أحست بانقباض قلبها منذ استيقاظها من النوم, لذا فإنها لم تخاطب زوجها أبي رامي كعادتها في أكثر الأيام انما تركته يمضغ افطاره على عجل وهو يرتدي ملابسه الملطخة ببقع الزيوت والألوان قبل أن ينطلق الى عمله وكلمته بخاطركم يرتفع صداها في جنبات المنزل.
جاء اليها طفلها رامي ذي الحادية عشرة من العمر يتحسسها وما زالت راقدة على ظهرها معكرة المزاج, فمسحت على رأسه بحنان الأم المحبة لأبنائها ونهضت حتى تعد له افطاره من الخبز والجبنة وبعض حبات الزيتون التي اعتاد على تناولها كل صباح قبل أن يمضي الى مدرسته الابتدائية، كان قد أدى واجباته المدرسية بالأمس لذا فقد كان سعيدا عندما نال كلمات استحسان من أستاذ اللغة العربية عندما قرأ الموضوع الذي كتبه في حب الوطن ورغم أنه نقل مشاعر السعادة الى أمه عندما عاد الى المنزل فلم يسمع منها كلمات التشجيع والاطراء التي اعتادها منها في مثل هذه المواقف بل رآها ساهمة شاردة وكأنما ثمة ما يشغلها عنه وقد تأكد له هذا الأمر حينما سمعها تشتبك مع والده في نقاش عقب عودته في المساء حول أمور تتعلق بمصروفات المنزل إذ إن الأب كان يشكو لزوجته من متاعب المواصلات ولاسيما ان جنود الصهاينة كانوا يطلبون منهم النزول من الحافلات التي يركبونها كلما مروا بمراكز التفتيش للتأكد من خلوها من الأسلحة ووسائل المقاومة, بل انهم اشتبكوا مع سائق احدى الحافلات لأنهم عثروا على صرّة تحوي حجارة يستعملها الشباب في قذف الجنود بها عند احتكاكهم في أغلب الأوقات, وكان الرجل يتذمر لهذه الأسباب من تأخره عن مواعيد عمله مما يجعله يفكر بشراء واسطة نقل تساعده في الوصول الى موقع العمل دون عوائق, وكانت المرأة ترى أن يكتفي بشراء دراجة نارية أسوة بأكثر الجيران الذين يعتبرونها أنجح من غيرها بتكاليف قليلة بينما أبو رامي كان يحاول اقناعها بأن مثل هذه الدراجة لن تغيره كثيرا لأنه يحمل معه في الغالب أدوات الشغل التي تحتاج الى وعاء أكبر من حجم الدراجة, وكان وحيدهم رامي يتابع النقاش بفتور حتى يفرغ له والده فيريه العلامة الجيدة التي نالها من معلمه مذيلة بعبارات تشجيعية, وعندما ختم والده نقاشه معلنا بأنه اتفق مع أحد السماسرة بأن يريه عربة مستعملة مدحها بأنها نظيفة تحمس رامي متدخلا ليقول لأبيه خذني معك حتى أراها يا أبي ومع أن أمه أبدت خوفها من خروجه في ذلك المساء لأن الشارع كان يغلو ضد الغزاة الذين يستثيرون المواطنين بأسلحتهم ويدفعونهم بأعقاب البنادق كلما شاهدوا تجمعا صغيرا بينما الشباب يتحدونهم بالشتائم ساخرين من عنجهيتهم وأنهم لا يهادونهم أو يخشون من أسلحتهم على أن أولئك الجنود يزدادون طغيانا عندما يشاهدون أولئك الشباب يحملون بعض الأعلام الفلسطينية الصغيرة التي يخفونها في جيوبهم أو يحاولون اشعال النار بالأعلام الاسرائيلية لتبدأ المواجهة عنيفة حادة وهو ما حدث ذلك اليوم في أحد الأحياء السكنية وقد امتدت شراراتها الى بقية المناطق بيد أن رامي ألح بالتوسل لأمه مؤكدا بأنه لا خوف عليه لأن تلك المواجهات تحدث كل يوم فما الجديد فيها؟
اصطحب عمار ابنه رامي الذي كان يسرع في مشيه تحمسا لرؤية العربة التي سوف يبتاعها والده ومرا بالشوارع المكتظة بتجمعات الشباب دون توقف حتى وجدا انفسهما محاصرين ما بين جنود الاحتلال الذين اتخذوا من سطوح بعض العمارات السكنية مواقع آمنة لهم يوجهون من ارتفاعها أسلحتهم الى صدور الشباب الذين كانوا يقذفون الحجارة نحو مجموعة من الجنود منعوهم من السير في مظاهرتهم السلمية التي تعبر عن استنكارهم للممارسات الاستفزازية التي يقوم بها جنود الاحتلال, وكان التصادم يزداد كلما أوغلا في تلك الشوارع الضيقة حتى وجدا أنفسهما لا يستطيعان التقدم أمام ذلك التراشق المتبادل, وكان رامي يرغب في الانضمام الى حشود أبناء وطنه للتعبير عن استيائه وتعاطفه معهم لولا أن والده أعاد على سمعه بأن عليهم انجاز عملهم ثم التفرغ لما يريدون بعد ذلك وهكذا كمنا وراء برميل صغير حتى يتاح لهم امكانية المضي في طريقهما انما التراشق كان قد تعاظم بين الأطراف المتواجهة وأولئك الجنود الذين يطلقون النيران من سطوح العمارات الجانبية.
وشعر عمار ببعض الخطر الذين يهددهما فجلس في زاوية من الأرض محتميا بذلك الساتر طالبا من ابنه أن يبقى الى جانبه حتى تهدأ المواجهة لولا استمرار انهمار الرصاص الذي يخترق المسافات وازيزه يمر بالقرب منهما مما جعله يرفع يده نحو مصدر الرصاص لاعنا اياهم لأنه وابنه اصبحا معزولين عن تلك المواجهة بحكم مكانهما لأن يكفوا عن توجيه الرصاص نحوهما بيد أن شتائمه كانت كافية لاستثارة الأعداء فركزوا عليهما رشاشاتهم حتى سمع استغاثة ابنه الذي كان يتشبث بملابسه مروعا من احتداد القصف نحوهما, وتمنى لو ينهض للمشاركة في هذه المواجهة لولا أنه رأى عقب ذلك رأس ابنه يسقط على صدره مضرجاً بدمه ولم تحمل مشاعره ذلك المشهد المؤلم لمقتل ابنه وهو بين يديه فأحس بانفجار في أعماقه وثورة تتأجج لا يستطيع السيطرة عليها فأصيب بجلطة جعلته يتهاوى فاقدا الحركة وأصبح المشهد مغريا لكل كاميرات التصوير التي وجدت مادة تستحق التسجيل من مرأى صبي قتيل وأب أصيب بالشلل فاقدا الوعي في معركة غير متكافئة بين جيش مدجج ظالم وشعب اعزل غاضب يدافع عن كرامته ومقدساته.
وهكذا اضيف طفل في الحادية عشرة ربيعا من عمره الى قائمة الشهداء الأبرار على أرض فلسطين المغتصبة شاهدا على بسالة الرجال وصمود الحق دفاعا عن المقدسات الاسلامية في وجه الظلم والطغيان, فرحمة الله على كافة الشهداء البواسل الأبطال في أرض فلسطين الجريحة الصامدة.

أعلـىالصفحةرجوع














[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved