| الثقافية
هناك فوضى إبداعية، وليس عندنا فقط، ولكنها فوضى عالمية تجوب أرجاء كوكبنا الأرضي ولا ينجو من آثارها مكان أو إنسان، بدأت قبل قرنين أو أكثر ووصلت إلينا قبل حوالي قرن، وفاجأت العالم بعد قرون طويلة من السير الثابت المحدد على قواعد وأنماط وأعراف قديمة متوارثة في الحياة والفكر والإبداع.
ومع أن هذه الفوضى أظهرت انجازات ابداعية تشبه الومضات والبروق الخاطفة في ليالي الحضارات، وخلال عشرات القرون، إلا أن أياً منها لم يتكرس ويؤسس ويبقى ويكتسب من القوة الذاتية والانتشار والقبول ما يمكن أن يجعل منه ظاهرة مؤثرة أو مستمرة في مسار الإبداع، في تاريخنا الإبداعي وفي تواريخ الأمم الأخرى، مما يعني وجود بذور وجذور وأصول لهذه الفوضى التي نشهدها الآن، فلماذا لم يعرف العالم هذه الفوضى وبهذا الشكل الواضح والمؤثر إلا في هذين القرنين الأخيرين؟
الآن، وفي كل مكان، نرى هذه الفوضى ونعيشها، فيرفضها البعض ويقبلها البعض ويقف البعض الآخر منها موقف المتفرج أو اللامبالي أو المنتظر، ويتساءل الجميع: هل هذه الفوضى وسيلة أم غاية، وهل تكتفي بكونها وسيلة أم تطمح إلى أن تكون غاية في ذاتها، وهل تكمن أهميتها في قيمتها أم ان قيمتها تكمن في أهميتها، وما هي هذه القيمة وهذه الأهمية، وما آثارها الايجابية والسلبية على الانسان في حياته وفكره وإبداعه، ومتى وكيف تكرّست هذه الفوضى، وما الذي جعلها تواصل مسيرتها وتفرض وجودها الذي غير معالم وحدود خرائط الحياة والفكر بعامة والإبداع بخاصة ، وماذا يمكن أن ينجم عن استمرارها من تأثيرات مستقبلية.
هناك أربعة مواقد صاخبة مشتعلة تواصل العمل تحت قِدر هذه الفوضى التي تغلي.
الأول: المبدع الذي يملك مواهب وقدرات الفنان الرائي الفيلسوف في الآن نفسه.
والثاني: الناقد، والثالث: الإنسان سواء كان قارئاً أو غير قارئ، مسؤولاً أو غير مسؤول، معنياً بالأمر أو يتظاهر بأنه غير معني، يمثل نفسه فقط أو يمثل مجتمعاً أو توجهاً فكرياً أو مؤسسة، رافضاً أو موافقاً أو مباركاً أو متفرجاً أو متظاهراً بأنه غير معني ولا مكترث لما يجري في القِدر التي يُشارك في حملها واستمرار غليانها شاء أم أبى، وتسكب عليه بعض عصاراتها وزبدها وتضره وتنفعه وترفع منه أو تضع، شاء أم أبى.
والرابع: الظروف المحيطة من زمان ومكان وحاجات وكل ما يمكن أن يشارك في تشكيل هذه الظروف أو يؤثر فيها.
وقِدر الفوضى ما تزال تغلي ويتصاعد منها الدخان والأبخرة ويسيل على جانبيها الرحيق والزبد في الآن نفسه، وفي داخل القدر خلاصة ما أنجزه الإنسان وما يحيط به عبر تاريخه الطويل، وفي محاولات متواصلة للحصول من هذا المزيج على شيء جديد بمواصفات جديدة.
هذا كله، حتم على كل من يُريد التصدي لهذه الفوضى، وأياً كان نوع هذا التصدي، سلباً أو ايجاباً، أو دراسة أو تأملاً، أن يجيب عن الأسئلة السابقة أو يحاول مجادلتها، وعشرات الأسئلة الأخرى المرتبطة بها، وأسئلة جديدة سوف تنشأ عما تثيره أي اجابة جديدة من شكوك أو ما يصاحبها من قصور أو ظلال أو مناطق معتمة تحتاج إلى اضاءة.
ربما، بدأت هذه الفوضى صغيرة ومتفرقة، وغير واضحة المعالم والتأثير، وان كان لها جذور في الماضي، نمت وترعرعت فقط في القرنين الأخيرين، ونشأت لها فروع وأشكال ومضامين متنوعة، وافترقت في بعض المواقع والتحمت في بعضها الآخر، وأصبح لها أكثر من مجال وأكثر من نشاط، وتداخلت وتعددت واختلطت وأثارت هي ومظاهرها ومعالمها كل ما يمكن تخيله وما لا يمكن من دلالات ارتبطت بها من قبل وترتبط بها الآن وسوف ترتبط بها غداً.
في التركيبة الداخلية والشكل الخارجي لهذه الفوضى، وفي تآلفها واختلافها وتضادها ومفارقتها وانسجامها وتباينها وتمايزها، نجد الإنسان.
وعندما نحاول ارتيادها واكتشافها، نرتاد ونكتشف الذات الإنسانية، الظاهرة والمستترة والمعلنة والخفية والمتوارية، البارزة والنشطة والكامنة.
هذه الفوضى، حتى في صورتها الظاهرة البسيطة الواضحة المرئية، تشمل العالم اليوم وتعكس صورته، وتفضح الذات الكامنة في كل فرد منا، ونراها في سلسلة الأحداث الخارجية وما يمكن أن يكمن خلفها من أحداث غامضة سرية، وطريقة هذه الأحداث في الاعلان عن أو اعلان ذاتها، عبر فقاعات هائلة العدد تواصل التكون والانفجار، أما الأمكنة والأزمنة والقضايا فليست أكثر من مناسبة تنفجر فيها احدى هذه الفقاعات، وكل انفجار صغير يمر بسلسلة تحولات، قبل وبعد وأثناء، حتى يصبح مجرد مظهر أو رمز صغير من رموز هذه الفوضى، وفي كل مكان وزمان وقضية، وفي كل جزئية منها نرى شيئاً من الطابع الكلي والدلالة وعنصراً بسيطاً من مجموعة لا متناهية من العناصر والمظاهر تشير إلى هذه الفوضى وتشارك في وجودها وفي تحديد قيمتها وأهميتها وآثارها وتعكس وجهاً من وجوهها.
هذه الفوضى تجارب لا نهائية مداراتها عوالم غير محدودة، وشاملة، بحيث تطال كل شيء، ولا تُعنى بأي شكل كان بالدوافع والممارسات والاستجابات، لاعتمادها التام على خصائصها ومكوناتها التي تعود إلى جذورها الابدية التي ارتبطت بها منذ البدايات.
هناك نوع خاص ومميز من العلاقات بين هذه الفوضى وبين الشعر، إلى درجة ان احدهما ليس سبباً ولا نتيجة للآخر، بقدر ما يُساهم في حياة صاحبه، بطريقة جدلية ومعقدة، على الرغم من أن النظرة السطحية تدل فقط على أن الشعر لا يزيد عن كونه فقاعة صغيرة من ملايين الفقاعات الفوضوية التي تنفجر وتواصل الانفجار، في كل لحظة وفي كل مكان.
|
|
|
|
|