| مقـالات
عرفت العصامية منذ زمن عصام بن شَهبَر الجرمي حاجب النعمان ابن المنذر، ومعنى العصامية الاعتماد على النفس والصبر في سبيل كسب العيش، وعدم الاعتماد على الآباء والأجداد، فهناك رجال شرفوا بالاكتساب لا بالانتساب ومنهم عصام الذي قيلت فيه الاشعار والامثال، ومنها (كن عصامياً ولا تكن عظامياً) أي افتخر بما اكتسبته بنفسك لا بعظام آبائك, وعصام الجرمي اكتسب اللباقة وحسن المنطق وفنون الحرب وسياسة الملك حتى قرّبه الملوك، وأجزلوا له العطاء، فقد اختير عصام حاجباً للملك النعمان بن المنذر وحافظاً لسره، وقائداً لجيوشه في الأزمات، وقد لازمه دهراً طويلاً ولم يغضب عليه الملك كما غضب على كثير من أتباعه والوافدين عليه، والسبب في ذلك حسن تعامله مع من يدخل على الملك، ونسوق هنا مثالاً واحداً يبرز مهارة عصام في اتقان عمله، يقول حسان بن ثابت: قدمت على النعمان بن المنذر، وقد امتدحته فأتيت حاجبه عصام بن شهبر فجلست إليه فقال: إني لأرى عربياً، أفمن الحجاز أنت؟ قلت نعم قال: فكن قحطانياً.
فقلت: فأنا قحطاني, قال: فكن يثربيّاً, قلت: فأنا يثربي.
قال: فكن خزرجيّاً قلت: فأنا خزرجي, قال: فكن حسان بن ثابت, قلت: فأنا هو, قال: أجئت بمَدحةِ الملك؟ قلت: نعم, قال: فإني أرشدك: إذا دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم ويسبُّه، فإياك أن تساعده على ذلك، ولكن أمِر ذكره إمراراً، لا توافق فيه ولا تخالف، وقل ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وأنت منه, وإن دعاك الى الطعام فلا تؤاكله، فان أقسم عليك فأصب منه اليسير اصابة بارٍ قسمه متشرف بمؤاكلته لا أكل جائع سغِب، ولا تطل محادثته ولا تبدأه بالإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك، ولا تطل الاقامة في مجلسه, فقلت: احسن الله رفدك, قد أوصيت واعياً, ودخل ثم خرج إليَّ فقال لي: ادخل, فدخلت فسلمت وحييت تحية الملوك، فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه كان حاضراً، وأجبت بما أمرني، ثم استأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته، ثم دعا بالطعام، ففعلت ما أمرني به، وبالشراب ففعلت مثل ذلك، فأمر لي بجائزة سنية وخرجت, ويحرص عصام على عقد صداقة مع ندماء الملك وجلسائه، فهو صديق للنابغة الذبياني، وقد نصحه بالهروب بعد قوله في المتجردة زوجة النعمان:
سقط النصيف ولم تُرد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد |
وكان النابغة معجباً بعصام ولباقته ونصحه وحسن تعامله، فقد قال فيه:
نفس عصامٍٍ سوّدت عصاما
وعلمته الكر والاقداما
وجعلته ملكاً هُماما
وعندما عاد النابغة الى النعمان وجده مريضاً يحمله الرجال في نعش، لأنهم يعتقدون ان ذلك أوطأ من الارض، فتوجه الى عصام بقوله:
ألم أُقسم عليك لِتُخبِرَنِّي أمحمولٌ على النعش الهُمام فإني لا ألومك في دخولي ولكن ما وراءك يا عصام |
وقد اصبح قول النابغة (ما وراءك يا عصام) من الامثال السائرة بحيث لا يخلو منه كتاب من كتب الامثال، ويقصد بقوله: ما خلفك من امر الملك ومرضه؟ فأخبرني بكنه أمره وحقيقته؟ وقد أدرج اسم عصام من ضمن الاسماء اللامعة التي انفردت بأمر معين، وهو هنا حوزة الشرف بالاكتساب كما اكتسب حاتم شهرة الكرم، وعنترة شهرة الشجاعة.
ولا ننسى أثر شعر النابغة في سيرورة عصام والتعريف به، فالشعر من اهم وسائل الاعلام في العصر الجاهلي.
وشبابنا اليوم بحاجة الى القدوة الحسنة المتمثلة في عصام، فكم من شاب يبحث عن العمل اليوم ولكنه لا يتصف بالعصامية، فعصامية الشاب هي التي توجد له العمل، فالدراسة تأهيل للتعامل مع المجتمع، إن لم تؤهل لعمل مخصوص، أما كيفية خروج الشاب من البطالة الى العمل فتحتاج الى العصامية وهي قبول القليل حتى يأتي الكثير، وقبول الشاق حتى يأتي السهل، فالمهم البدء في العمل، وقبوله.
|
|
|
|
|