أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 17th October,2000العدد:10246الطبعةالاولـيالثلاثاء 20 ,رجب 1421

مقـالات

قوانين التَّماس بين (السياسة والإعلام) (6/8)
د, حسن بن فهد الهويمل
والسؤال الذي يجب أن ثار هو, هل على هذين النظامين (البيعة، والشورى) مآخذ جوهرية تمس ذات المذهب وعين المنهج؟, وهل الأخذ بهما مضر بالأمة أو معوق للمصلحة؟ أحسب أن القاتل بذلك جاهل أو متحامل, (فالبيعة) الإسلامية تتم وفق ضوابط وشروط، وقد ألفت في ذلك كتب كثيرة ومتنوعة مثل:
(البيعة) لمحمود الخالدي.
(البيعة في النظام السياسي الإسلامي) لأحمد صديق عبدالرحمن.
(البيعة عند مفكري أهل السنةوالعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث) للدكتور أحمد عبدالجواد عبدالمجيد.
كما أن (الشورى) تتم وفق ضوابط وشروط، وقد ألفت في ذلك كتب ودراسات مثل:
(فقه الشورى والاستشارة) للدكتور توفيق الشاذلي.
(الشورى في الإسلام) للدكتور حسن هويدي.
(ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية) للدكتور عدنان النحوي.
وليس من شيء من مفردات الفكر السياسي الإسلامي إلا وألفت فيه عشرات الكتب واختلفت فيه الآراء، ومن مصلحة الأمة الإسلامية الأخذ بهما بشروطهما وضوابطهما ومقتضياتهما.
والذين يطالبون بمفردات الفكر السياسي الغربي من أبناء المسلمين يعيشون ردة فعل غير راشدة ولا مرشدة، مع جهلهم الذريع بما ينطوي عليه الإسلام من نظام سياسي، يستجيب لحاجات الأمة، ويقيل عثرتها، ويحل أزماتها المتنامية، ويكفل لأفرادها ما تكفله النظم الغربي، وما يعانيه العالم الإسلامي من إخفاقات على مختلف الصعد: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، مرده ذلك إما: للفهم الخاطئ للإسلام، أو إلى الابتعاد عن مراده الله لعباده، أو بسبب التلفيق ونقل الأنظمة بمعزل عن حواضنها, وما تعانيه الأمة الإسلامية ليس نقصاً في مبادئ الإسلام السياسية ولا عجزاً منه عن تلبية حاجات الأمة المعاصرة, وجهل النخب الفكرية لما ينطوي عليه الإسلام من قيم سياسية ودستورية وتشريعية وتنفيذية ألجأهم إلى البدائل غير الإسلامية, وياليت أولئك يقرؤون في الثقافة الإسلامية مثلما قرؤوا في ثقافة الغرب ليقفوا على كنوز فرطوا بها وتلقفها المستشرقون, إنهم يعالجون قضايا أمتهم دون استحضار للنص الإسلامي وفضاءاته الدلالية المستوعبة للنوازل، ودون تأصيل شرعي، وكيف لا يكون الإسلام مستوعباً لكل مطالب الحياة وقد أنزله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
واللجوء إلى المستجدات المخالفة للمقتضى الإسلامي تدفع إليها جنايات المطبقين وجهل المصلحين, والمتهالكون على الأنظمة والمذاهب والمناهج ربما تستهويهم الأسماء الجذابة، والإشكالية ليست في المسميات: ملكية أو سلطانية أو إماراتية أو جمهورية: شورية أو برلمانية، انتخابية أو اختيارية، الإشكالية في إقامة الخليفة المسلم حكمه على القوة والعدل، وإظهار الدين والحكم بما أنزل الله، وتطهير المجتمع من شيوع الفواحش، وتوخي الخير وصنع الإنسان ليكون ابن عصره مستوعباً كل المستجدات مستجيباً لكل مطالب الحياة، وتحامي تعريض الأمة لمغامرات تأكل الحرث والنسل، وكونه رائداً أمينا لا يكذب أهله، ناهضاً بمهمة الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، دافعاً بالتي هي أحسن، جانحاً للسلم بعد استعداده للحرب، وحين تتوفر تلك الضروريات فإن للحاكم بعد هذا أن يطلق على حكمه وأنظمته ما شاء من المسميات، شريطة ان يكون الإطلاق غير مناف للمقاصد الإسلامية، ومصطلحات أي حضارة لها مقتضيات محددة، وربما لا يمكن إفراغها من محتواها وشحنها بمقتضيات أخرى لمجرد العشق الأسمي، وفي مصطلحاتنا الإسلامية ما يغني ويقني، والمصطلح لا يكون بريئا لأنه نتاج حضارة وهو في سياقها, والمحافظة الواعية الفاعلة ليست بأقل جدوى من التجديد، وما ضر البريطانيين احترامهم لأنظمتهم الملكية ومسمياتهم القديمة، ولم ينتفع الثوريون في العالم الثالث من تجريم سلفهم وتصفية أجسادهم وسمعتهم وجلب أسماء رنانة طنانة, المسألة ليست ألقابا، إنها فعل حضاري، يحترم إنسانية الإنسان وحسب، والمسألة قبل هذا وبعده حقائق دامغة تتمثل في الأمن والاستقرار والرخاء والمكانة العالمية والتأثير القوي والحضور الفاعل، فتقويم الدولة لا يؤخذ من أبواقها الإعلامية ولا من مسمياتها البراقة، وإنما يستشف من بيوتها وأسواقها وسحنات أهلها ومن مدارسها وجامعاتها ومصانعها ومستشفياتها ومن عملتها المعومة بكل ثقة، التقويم يعرف بتهافت المستثمرين والعاملين عليها، يعرف ببقاء رؤوس الأموال واستقرار الأدمغة وإقامة الكفاءات، والاعتزاز بالمواطنة ورفض الهجرة وعدم الحاجة إلى اللجوء السياسي، والدولة الفاشلة هي الدولة المختلة الأمن المهربة الأموال التي تعيش كفاءاتها في المنافي وعملتها في الحضيض، وينتاب أبناءها حالات من اليأس والقنوط والاكتئاب والرفض, تنظم فيها الجريمة وتتوتر فيها الحياة،ويمارس فيها العنف، وتكثر فيها المظاهرات، وتكتم فيها الحرية، وتخالف فيها إرادة الأمة وعواطفها العربية والدينية، وتتوتر فيها الحدود، وليس أحد من عشاق المستجدات بقادر على أن يدين الإسلام بعجزه عن تحقيق أفضل الأوضاع من أمور الحياة الدنيا: العلمية، والعسكرية، وسائر مطالب الحياة السوية, ألم تقف المعارضة في وجه أقوى خليفة مسلم وتحمله على الإذعان للحق، وأين حكام العالم كله من عمر رضي الله عنه ؟ , والذين لا يقدرون على حمل حكامهم على تمثل العدل الإسلامي ليسوا بقادرين على حملهم على تمثل العدل الديمقراطي، وإذا آخذوا التطبيق الإسلامي فلماذا لا يؤاخذون التطبيق الديمقراطي إذا كانا عاجزين عن تمثل النظرية, لماذا يجتهدون في تهميش الحاكمية الإسلامية ولا يفعلون ذلك مع الديمقراطية؟ وهل مدّعو الديموقراطية بأحسن حالاً من مدعي الإسلام؟ إنهم بهذه المؤاخذة يعصون الله ما أمرهم،والإصلاح أفضل من الاستبدال، وإذا كانت التجارب الإسلامية عبر المنظمات أو الهيئات أو الجماعات قد منيت بفشل بعض مشاريعها، فإن هذا لا يعني فشل الإسلام, الفاشلون طلاب سلطة ومنافسون على المصالح العاجلة، وهي مغرية وخادعة، وماذا فعلت بصفوة الأمة حين تركو ثنية (أحد) وأقبلوا على جمع الغنائم مخالفين أمر القائد, لقد كانت للإسلام تجاربه الناجحة، والمخفقون من الإسلاميين إما: جهلة نص، أو جهلة فهم، أو أنهم كاذبون في ادعاء التمثل, وقد يكون الإخفاق امتحاناً وابتلاء وتحقيقاً لقوله تعالى: (أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).
والمسلمون بأمس الحاجة إلى وعي مراد الله لخلقه دون غلو أو تطرف أو ثورية أو صدام ودون مداهنة أو استسلام، والذين أخذوا (بالعلمانية) و(الديموقراطية) و(الاشتراكية) من حكام البلاد الإسلامية، لم يحققوا مقتضيات هذه المشاريع الدنيوية كما هي في الغرب, ولما ينتزعوا عواطف شعوبهم الدينية، إنك تجد الأمة في سائر أمورها إسلامية: ممارسة وعاطفة وفكراً ولغة وأدبا، وخطابها السياسي والإعلامي علماني جاء نتيجة الغلبة والإكراه, والخلط بين (الغلبة) و (الانتخاب) تلفيق يرضي السذج, (الديمقراطية) كل لا يتجزأ، والأخذ بجزء منه ترقيع مضر بمصالح الأمة، وكأني بمدعي (الديمقراطية) يعيدون مقولة ابن اللتبية: (هذا لكم وهذا أهدي لي ) فهلا جلس هذا الملفق في بيته ليرى هل تهدى له الخلافة على حد:


أتتك الخلافة منقادة,.
تجرجر نحوك أذيالها

ومثل هذه الممارسات المخادعة يغفل عنها الخطباء السحبانيون مع ما فيها من (ظلم) و(ضحك): ظلم للشعوب المسلمة التي لا تعرف من (الديموقراطية) إلا اسمها، ولا من (العلمانية) إلا رسمها، ولا من (الاشتراكية) إلا المساواة في الفقر, وضحك عليها بدعوى ما ليس قائماً في المشهد العملي, والحكومات التي تحترم الشعوب وتحافظ على المصداقية لم تدّع ديموقراطيتها، ولم تأخذ بالانتخاب، بل رضيت بمسميات تتوفر على محاسن الديمقراطية وإيجابيات الانتخاب، وهذا مقتضي إسلاميتها، والدولة المسلمة تستقي دستورها من ممارساتها التي لا تتعارض مع المقتضى الإسلامي، والشعب حين أعطى بيعته لولي الأمر لزمه ان يكون حاكماً إسلامياً يظهر الدين ويجعل الدولة دولة ممارسة، وذلك ما نعايشه, لقد أعلنت إسلاميتها واتخذت مسميات مناسبة، بحيث أنشأت مؤسسات إسلامية، وجامعات إسلامية، ووزارات إسلامية: العدل، والشؤون الإسلامية، والحج، هيئة الامر بالمعروف، هيئة كبار العلماء، دار الإفتاء، المجلس الاعلى للقضاء، ومنعت أي مظهر غير إسلامي، منعت المرأة من التبرج، وفضلت تعليمها عن تعليم الرجال، ومنعت الخلطة والخلوة في العمل، المظهر الديني في المملكة لا يسمح بالملاهي ولا بدور السينما الخليعة، كل المحلات التجارية تغلق أبوابها وقت الصلاة، تقام الحدود التي شرعها الله على الزناة والسُّرّاق وشاربي الخمر وقطاع الطرق والقتلة ومهربي المخدرات، كل شيء من الشريعة وإليها، وهنا نقطة مهمة، وهي ان الوالي الذي أخذ البيعة حرص على تطبيق مقتضياتها, فهل أحد في العالم الثالث حكم باسم الديموقراطية ثم نهض بمستلزماتها كما هي في الغرب؟ نقول هذا للذين ينقمون علينا ويتخذوننا غرضاً، وينشؤون القنوات ويصدرون الصحف للنيل منا، وإلا فليس من حقنا أن ننهي العلمانيين والثوريين عن خلق التدخل في شؤون الغير ثم نسبقهم إليه، إن تساؤلنا من باب الدفاع عن النفس, وكان على العلمانيين والثوريين ان يشتغلوا في حمل الآخذين بالديمقراطية على تطبيقها كما هي عند الغرب، فإذا اطمأنوا من كل ذلك قبلت منهم الإفاضة، وشرع لهم تصدير الأنظمة، وأمكنت الاستفادة من تجاربهم, على أنه مما فات الأخسرين أعمالاً أن (الديموقراطية) التي يحلم بها الناقمون على الإسلام تتطلب شعوباً مهيأة لتقبلها، بحيث تحسن التعامل من خلالها، إذ ليس من السهل تبادل السلطة بإنسيابية، كما هو في الغرب، إن تبادل السلطة عند بعض أولئك تتم عبر حمامات الدم، والشعوب العربية بوضعها الحالي غير قادرة على التفاعل مع (الديموقراطية)، وللمتردد استحضار كل ثورة قامت في العالم الثالث، ثم لينظر إلى الفجوة بين مشروعها المعلن وممارستها القائمة، ومن بينها (الانتخابات) التي تصل نتائجها في مواقع كثيرة من هذا العالم إلى تسع وتسعين وتسعة من العشرة, والسؤال المحرج والمخجل في آن، هل تمت هذه الانتخابات وتحققت تلك النتائج بنزاهة؟ إن الصدق مع ما فيه من تقصير خير من الكذب، والشعوب التي تواجه قدرها دون تزييف إعلامي أشرف من أي شعب يغرر به ويكذب عليه ويزيف وعيه، و(الجمهورية) و(الدكتاتورية)، و(الديموقراطية)، و(الخلافة)، و(الملكية)، و(السلطانية) و(الأماراتية) أنظمة وأعمال إجرائية تحدد قيمتها الممارسة والنتائج، ولكل نظام منها متطلبات بيئية واجتماعية وحضارية وتاريخية ودينية، متى توفرت في ذهنية الأمة، نشأ انسجام طيعي لا يفرضه (الصوت والسوط)، وإنما يحققه التناغم والاستجابة الطوعية على المستويين الحكومي والشعبي, وعلى السماسرة والمتاجرين بأقلامهم وألسنتهم، والمتماسين مع كل الاطروحات السياسية أن يلقوا السمع وهم شهود إلى العالم الثالث، وأن يحاكموه من خلال سياقاته المتعددة، لا أن يحلموا ثم يسقطوا أحلامهم على حكام خارج سياقهم وخياراتهم التي رضوا بها، ورتبوا أمورهم على ضوئها، لقد عجبت من بعض المتنقصين لأنظمة الحكم في المملكة، وهو يضرب الأمثال بشعوب الدول الديمقراطية الفقيرة ممن يعمل بعض أفرادها الأميين في دول الخليج: خدماً وسائقين وعمالاً، ويجمع بين التنقص والتحدي بممارساتهم حق الانتخاب، فالخادمة والسائق اللذان يعملان عند الخليجيين ويمارسان حق الانتخاب عن طريق سفاراتهم يؤديان أسلوبا في الحكم رضياه، وليس بضائري في المملكة وانا النخبوي المؤهل أن أمارس البيعة الشرعية التي رضيتها، وإن كنت في أمريكا، والسائق والخادم لا يفضلانني حين يكون لهما حق الانتخاب، وإن كنت أستاذاً جامعياً، المسألة أنظمة وسياقات، والمهمة في الأمر ما إذا كان ولي الأمر قد التزم بالانتخاب عند البيعة ثم تنكر له، أو ما إذا كان الانتخاب من مقتضيات السياسة الشرعية ثم أبطله الحاكم, وعوداً للسياق المغيب في الحوار الثوري لا الحوار الحضاري، نجد أن السياق معتبر في الشريعة الإسلامية في مجالات كثيرة، فالقائد يؤخذ ويحاكم من خلال سياقه، والإسلام نظر إلى السياقات والأنساق الاجتماعية والطاقات الجسمية، حتى لقد جعل الإسلام حد (الأَمَة) نصف حد (الحرة) لا لشيء يتعلق بالتكوين الجسمي، وإنما يتعلق بالتكوين الاجتماعي ونظرة المجتع إلى كلتيهما ، ومقت الله (العائل) المستكبر لعدم قيام الدافع للكبرياء، وغلظ معصية (الأشيمط) الزاني لانطفاء الشهوة، وأحب الله (الشاب) الذي ليست له صبوة لتحكمه في الطاقة الجنسية الطاغية، وجعله حيث نشأ في طاعة الله من السبعة الذين يظلهم في ظله, وكيف بنا لو حاكمنا أمراءنا وحكامنا خارج سياقهم، فأقمنا لهم معايير (عمرية) وما لنا والحالة تلك لا نقيم لأنفسنا ذات المعايير، فنحاكمها بمعايير (الرعية العمرية)، فهل أحد منا مثل (علي بن أبي طالب) كواحد من رعية عمر؟ لماذا نستدبر عيوبنا ونحملق في عيوب الآخرين، دعونا نصلح أنفسنا أولا كي يمتد السياق إلى قمة الهرم، وما سؤال الخارجي لعلي رضي الله عنه ببعيد، فأين شعب كعلي، لحاكم كعمر؟.
وخارج هذه الافتراضات، هل من بأس على شعب اختار (البيعة والشورى) ورضي بهما وذاق بردهما ونعم بدفئهما حين لا يأخذ بغيرهما؟, ومن الذي خول للعلمانيين والمستغربين رسم سياسات شعوب رضيت بما هي عليه؟ وصنعت بنفسها ما هي عليه, وأي (ديموقراطية) يحلم بها أولئك، وأي انتخاب يتطلعون إليه, أيريدون ديموقراطية العالم الثالث، عالم الثورات الدموية التي أتت على الحرث والنسل وأحرقت الرطب واليابس، وأذاقت شعوبها ويلات الفقر والذل والهوان، وشردت كفاءاتها بين السجون والمنافي والمقابر الجماعية، ومكنت بتناحرها لعدوها؟ أم يريدون ديموقراطية الغرب التي صيغت على غير هدى من الكتاب والسنة لشعوب هي الأخرى ليست على هدي من الكتاب والسنة، شعوب تواطأت على صيغة معينة رضيتها واختارتها وتمثلتها بصدق، والتزم بها الحكام كادق مايكون الالتزام، ولم تفرض عليها، وحققت بتواطئها سعادتها الدنيوية, نعم نحن لا ننكر أنهم صدقوا مع أنفسهم، وصدق معهم حكامهم، وكانوا بفعلهم الصادق تحدياً مؤلما لفعل العلمانيين الكاذب، إذ لم يكن العلمانيون العرب مع الغرب قلباً وقالباً ،ولم يكونوا مع الإسلام،والإسلام يمقت القول دون الفعل، (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) والإسلام يتوعد بالعذاب محب المدح بما لا يفعل (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) فالإسلام لم يدع الامور مفلوتة كما يتوهم العلمانيون، لقد ضبط إيقاعه وقعد قواعده، وأحكم شروطه، وما كان من خطأ فمن عند أنفسنا، والإسلام بريء من كل تقصير, ثم إن الإسلام ينطوي على نص سياسي وتجربة سياسية ناجحة، وما على المترددين إلا الرجوع إلى المكتبة العربية ليروا آلاف الدراسات حول الفكر السياسي الإسلامي، والتفاوت ليس في النظرية السياسية، إنه في التطبيق السياسي.
فالغرب القدوة والشاهد والتحدي لأولئك صادق في ديموقراطيته، نزيه في انتخابه، ولا مأخذ عليه ضمن سياقه غير الإسلامي، وإن كان المال والإعلام والأحزاب المدعومة من رجال الأعمال والشركات العملاقة تصنع القادة، والشعوب تفاضل بين القادة المصنوعين بقوة المال والإعلام والحزبية، فالذين يصلون إلى ذروة المنافسة في الترشيح يحتاجون أموالا طائلة لا قبل للكفاءات الوطنية غير المدعومة بها، ويحتاجون جهوداً مضنية لا ينهض بها إلى جماعة متظاهرة وأحزاب ذات استراتيجيات ومصالح تصل بهم إلى دوائر الانتخاب، ليكون الشعب ملزما بالمرشحين للانتخاب، وليس له خيار بغيرهم، و(الانتخاب) في النهاية لمرشح الحزب وليس لمرشح الأمة، والمنتخبون في الغالب أقل من خمس الأمة، والمتنافسون يتقاسمون هذا الخمس من الأصوات، فالأمة لا تختار بكاملها أحد المتنافسين، ولا يكون مرشحها من الشارع، إنها ترقب ترشيح الحزب، وقد يكون المتنافسون أكثر من اثنين فيقتسمون الأصوات ويفوز الأكثر عدداً، في حين يذهب الممارسون لحقهم يتجرعون مع منتخبهم مرارة الهزيمة، وكم أتمنى لو اطلع المبهورون على المناظرة التلفزيونية الاولى بين مرشحي الرئاسة (آل جور) و(بوش الابن) ليقفوا على أشياء قادحة في الديمقراطية والانتخاب معاً, وكم أتمنى لو كان إعلامنا بمستوى المرحلة فنقل ذلك ليضع نظر المتابعين على مكامن الأخطاء البشرية, ثم إن التصويت على المشاريع المصيرية لا يكون بالإجماع داخل المجالس والبرلمانات، وإنما يكون بالأغلبية، وهكذا يتبخر حكم الشعب الذي تدل به الديموقراطية، نقول هذا ونحن نحترم المصداقية ونثمن الممارسات الدستورية في الغرب، ونكبر فيهم احترام القانون، ونمقت استفحال الميكافيلية عندهم وحصر الحرية والعدل لذات الأمة واحتقار العالم الثالث، وكم احسست بالاحتقار للمتذيلين والممجدين للغرب والمتغنين بحضارته حين خف رجالات الغرب مرعوبين عندما أسر حزب الله ثلاثة صهاينة ولما يكترث بالقتل الهمجي لمئات المدافعين عن حقهم، وكم أتمنى في الوقت ذاته لعالمنا الثالث بعض هذه الأخلاقيات التي تقصرها الحضارة الغربية على نفسها، وإن لم تكن بأنانيتها من متطلبات الفكر السياسي الإسلامي، على أنه لا يمكن التقاط مفردة واحدة من سياقها الملائم لها وزرعها كالجسم الغريب في كيان تتناغم مفرداته دون نفي كامل لكل سياقاته.
أيظن (العلمانيون) أن ما يحلمون به من ديموقراطية أمريكية يمكن ان تتم في ظل أوضاع مغايرة وتكوينات ذهنية مباينة، وعراقة تاريخية متأصلة وأيديولوجيات مناقضة لما عليه الغرب، إن هذا الحلم أضاع فرصا ثمينة، وفوت على الأمة مصالح كثيرة، وما على المتذيليين الحالمين من العلمانيين والثوريين إلا ان يتخلوا عن الهوى الذي أعماهم وأصمهم، وينظروا بعيون مجردة إلى واقع الأمة العربية وما هي عليه, فالذين وصلوا إلى سدة الحكم بالغلبة كانوا أشد من العلمانيين تعلقاً بمفردات الغرب, فأين هذه المفردات التي يدعون الأخذ بها؟ أين الديموقراطية؟ أين الحربة؟ أين العدل والمساواة؟ وهل حال الأمة العربية تسر أحدا ليطلب من أولئك الراضين بواقعهم التخلي عما في أيديهم ومطاردة شوارد الوعود المعسولة؟ المسألة ليست تلفيقا وترقيعاً، وليست أحلاما ورهانات خاسرة، إن هناك أوضاعاً تتأبى على المحاولات المرتجلة، والذين تغنوا (بالديموقراطية) زمناً في ظل تلفيقات وادعاءات كاذبة تكشفت لهم الأمور بعد فوات الأوان, الإنسان الغربي صنع تربوياً وذهنياً ليكون ديموقراطياً، لقد رضعها مع حليب الأمهات، وليس له خيار آخر سوى ذلك, الإنسان الغربي صنع كالآلة، ضبطته المصلحة، وساقته المنفعة، وحكمه القانون، وطوعه العقد الاجتماعي, والحق انه التقط محاسن الإسلام، وأجراها في كثير من أموره، والتقط إنسان العالم الثالث مساوئ الحضارة الغربية وما لا يحتاج إليه من قيم فنية وفكرية وسلوكية حتى لكأننا نشم ما تلفظه عوادمه الخلفية، هذا قدرنا، وتلك رؤيتنا، وذلك فعلنا، وما أصبنا إلا من طريق نخبنا الذين زينوا لنا سوء الأعمال حتى كدنا نراها حسنة، وفوتت علينا أثمن الفرص باسم الحرية والاشتراكية والوحدة وهتافات : أمة عربية واحدة، وما أنقذ الأقلين عدداً من الأمة العربية من فتك السلاح العربي الهمجي إلا دول الغرب التي يلعنها القوميون والوحدويون في الصباح والمساء ويخوّنون المقترب منها والمتصالح معها لدفع الضرر وجلب المصلحة, إننا نرفض الأنظمة ونصالح ذويها، دفعاً للشر وجلبا للمصلحة، والثوريون يدعون الأنظمة ويصادمون ذويها، فهم في خوف منها للعداء وخوف من شعوبهم للادعاء, والسلاح وحده سيد الموقف يدخل الحاكم بالمجنزرة ولا تخرجه إلا المجنزرة, لقد كان (بوش) صاحب أنجح عمل عسكري في تاريخ أمريكا وأكبر شخصية يتداولها الراي العام العالمي في ساعة مبكرة من إحدى الليالي، وفي ساعة متأخرة من ذات الليلة، أمسك بيمينه مقود كلبه وأمسك بشماله عضد شمطائه، وخرج من أخطر بيت وأكثره تأثيراً على كل الأحداث المصيرية للعالم، خرج إلى الشارع كأي مواطن عادي، وأعلن راضيا تأييده وتهنئته لمنافسه، محترماً إرادة أمته، خاضعاً دون أي انفعال لأنظمتها الفعلية لا الورقية، وكان قبل ساعات من إعلان النتائج يسخر من منافسه، حتى لقد فضل (كلبه) عليه, تلك هي (الديموقراطية) من خلال سياقها العلماني الغربي، الذي صدق مع حياته، وأخلص لها، وحين تآمر العراق على اغتيال (بوش) وهو خارج السلطة، لم يكن بد من ضربه ضربة موجعة على يد (كلنتون) احتراما ل(بوش) ومحافظة على حياته, فأين هذه الأخلاقيات في العالم الثالث؟ أين رأسمالية الغرب؟ وأين ديموقراطيته؟ لقد أوذينا بالادعاء الباذخ، وفقدنا بسبب الرغاء الكاذب الشيء الكثير، وما زلنا في مؤخرة الركب بسبب التهالك على ما جدّ دون وعي أو فهم أو تمثل صحيح, نحن أمة مسلمة لنا خيارنا الإسلامي، ولنا نظامنا الإسلامي، ولنا منهجنا وشرعنا الإسلاميان، ولنا مرجعيتنا النصّية، ولنا تراثنا، ولنا مشروعية الأخذ بما لا يتعارض مع ثوابتنا مما تقوم الحاجة المشروعة إليه ومما يمكن استيعابه وتمثله، ومهما كانت الإغراءات والوعود فإنه لا يكن ان نتخلى عن عقديتنا التي ضمنت لنا (الحرية) و(العدل) و(المساواة) و(تكافؤ الفرص)، وحثتنا على العلم والعمل وإعداد القوة في كل المجالات، وإذا كان ثمة بعض النقص فهو من عند أنفسنا، والله لا يريد لعباده النقص والضعف والفساد، فليعد أبناء الأمة الإسلامية إلى إسلامهم طائعين، وليأخذوا كتابهم بقوة، فالعزة في النهاية (لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعملون) ولنحذر من المستغربين الذي يخدمون أعداء الأمة، وكلما انكشف أمرهم وتعرت لعبتهم غيروا أصباغهم وخرجوا علينا بخطاب جديد، ونحن لا نملك مع هذه الحركات البهلوانية إلا ان نفغر أفواهنا ونحملق بعيوننا ونتيح وسائل إعلامنا لبهلوانيتهم وادعائهم الكاذب، والغرب المهيمن يعلي من شأن طابوره الخامس حتى إذا قضى منه وطره نبذه كالنواة، لأنه يحقر من لا يخلص لأمته، ومن خان أمته فهو لما سواها أخون، والعلمانيون والحداثيون والمستغربون هم الطابور الخامس الذي نكص على عقبيه وأخلى ثنياته للعدو، ولما يكف عن الرغاء الإعلامي والتماس مع القضايا دون وعي ودون احترام لقواعد اللعب السياسية, لقد حاصر الرأي العام المصري حداثيو المشهد الثقافي وضيقوا الخناق عليه وكشفوا لعبته فما كان من سدنة الحداثة إلا أن سحبوا المسميات المشبوهة وطرحوا مشروعاً مخادعاً سموه ب(النقد الثقافي) الذي كان قد شاع في الغرب على يد (ليفس تراوي) ذي النزعة الماركسية، والمتذيلون لهذا المذهب النقدي رضوا من اللحم بعظم الرقبة، فاشتغلوا بالأزياء والألعاب واستدبروا عيون الإبداع العربي، وراحوا يطنطنون حول المذهب مثلما كانوا يفعلون من قبل مع الماركسية والوجودية والعلمانية والحداثة والبنيوية وما شئت من هذه التجريبات التي أذهبت الريح ومزقت الكلمة ومسخت الشخصية الإسلامية والعربية, والذين يتغنون بعشقهم لمثالية الغرب ويلوثون فضاءاتنا بتمجيده وطرد الغربة عن رموزه وقضاياه ومذاهبه, كيف يرون أنفسهم إزاء مواقفه المذلة المحتقرة للكرامة العربية والدم البريء في انتفاضة الأقصى؟,, أين هم من هذه الهمجية المستقذرة؟ لقد نابوا عنه في إقناعنا بمثاليته، فلماذا لا ينوبون عنا في مساءلته؟

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved